لماذا الحزب..؟ نحو التأسيس لثقافة حزبية تجسد مبررات وجود الحزب

روني علي

   من خلال الوقوف على التعريفات المقدمة في الأنظمة الداخلية للأحزاب السياسية، يتضح لنا، بأن الحزب هو ذاك التجمع المنضوي طوعاً في إطار سياسي / تنظيمي، له محدداته السياسية وآليات بنائه التنظيمية، يهدف إلى تحقيق ما اتفق عليه من خطط وبرامج، ويسعى للارتقاء بالتقاطعات السياسية بين أعضائه وفق رؤى تجسد مفهوم الأغلبية ..

بمعنى آخر، أن الحزب وبما يشكل من وسيلة وأداة، يعمل وفق آليات؛ بعيدة عن شكل الولاء القبلي أو العائلي أو الطائفي أو المذهبي، وعن أدوات القسر والإكراه، وإنما يستند إلى منظومة سياسية تنظيمية، تتجسد جوهرها في أن يمارس العضو الحزبي ذاته السياسي بإرادة حرة وواعية، ضمن إطار الخط العام الذي ينتج عن المحطات الشرعية، ويكون على دراية في شكل وكيفية ممارسة الحقوق وأداء الواجبات، وذلك بحكم أن الولاء للحزب ليس ولاءً مطلقاً أو انصهاراً كلياً، يُمحى من خلاله كيان الشخص كإنسان له خصوصياته الخارجة عن الدائرة الحزبية ..

فالعضو الحزبي ككائن اجتماعي، له من المساحات التي يتحرك فيها، سواء في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، أو حتى في الجانب السياسي العام، وله من الآراء والانطباعات التي تجسد خصوصيته كشخص .

بعبارة أخرى أن العضو الحزبي ليس مطالباً في أن يكون حزبياً في كل ما يتصل بإنسانيته وآدميته، وإنما يتجسد حزبيته في جملة السلوكيات التي يحددها النظام الداخلي من شروط العضوية وواجباتها وحقوقها ..
إن إيمان العضو ببرنامج الحزب ونظامه الداخلي قد لا يكون مطلقاً هو الآخر، لكنه مطالب في أن يحترم تلك البرامج كونها من نتاج العقل الجماعي الحزبي، ومستحوذة على الشرعية الحزبية، وأن يساهم بدوره في الارتقاء بها عبر آليات تنظيمية تحترم خيارات الآخر المختلف أو المخالف، وهذا يعني أن السمة العامة للعمل الحزبي هو التفاعل والتجانس بدلاً من التمرد، أو الخروج على التقاطعات السياسية والتنظيمية، وإن كان هذا مرهون بكليته بعامل الوعي ودور الجانب الثقافي في الحياة الحزبية، لأنه وبحكم الممارسة، قد يكون رأي الفرد أكثر صحة وصواباً من رأي الجماعة التي ينتمي إليها، وذلك بفعل ما يتمتع به من ملاكات معرفية والقدرة على التحليل والاستنباط، ومع ذلك فإن المطلوب هو توسيع دائرة الوعي ضمن الإطار الذي يعمل فيه، والمساهمة في رفع سوية الأداء السياسي وتفعيل الحراك الثقافي والمعرفي وتنشيطه، وبذلك تتقوض الفروقات والاختلافات في الجسم الحزبي، ويتم التأسيس لفعل سياسي متكامل ومتفاعل، مما يؤدي إلى تعميم الحزب بين أفراده، وإخراجه من دائرة المركز، أو احتكاره لدى فئة معينة بذاتها، أو وضعه أسير التوازنات ومرتعاً لصراع الأقطاب ..
إن الحزب وبما يشكل من إطار منظم، وقواسم سياسية مشتركة، هو حاجة موضوعية في المجتمعات المتخلفة كما في المجتمعات المتقدمة، إن لم يكن بدرجة أكثر، وإن اختلفت الأهداف والأشكال والأداء، فهو وبما يحمل من مشاريع، يعتبر البناء الذي ينبغي أن تتكامل زواياه وتحدد إحداثياته بغية الوصول إلى تحقيق أهدافه، وإن كان الوسط الذي يتفاعل معه، والبيئة التي أفرزته، من حيث مستوى الوعي ودرجة الثقافة، تشكلان البوصلة الرئيسية في وضعه من حيث التوجه والارتقاء، فلا يمكن لنا أن نتنبأ بتجربة من الطراز المتقدم في بناء الحزب، في حالة مجتمع ما زال أسير جملة من القيود والممانعات، الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وبالتالي لا يمكن إنتاج حزب على النقيض من أرضيته الاجتماعية، وإن كان المطلوب من الحزب، يفترض أن يكون نخبة واعية في المجتمع، المساهمة في رفع أو الانتقال بأساسيات البيئة إلى مستوى أرقى ..
إن الحزب السياسي في الحالة الكردية، يتفاعل كما المجتمع، مع جملة من الظروف والمعطيات، حيث مظاهر التخلف السياسي والثقافي، وكذلك العلاقات الاجتماعية، التي هي أسيرة النموذج العشائري والقبلي، الذي يجسد الأنا في أبهى صوره، إضافة إلى السياسات والمشاريع التي تستهدف الوجود القومي وخيارات الشعب الكردي، وبالتالي فإن السمة العامة للحزب السياسي الكردي في الجانب العملي، سيكون لا محالة، خليط من التناقضات، وجملة من الممارسات التي لا نقاط ارتكاز فيها، وإن كان يمتلك برنامجاً سياسياً، يحدد توجهاته، أو منظومة فكرية يستند إليها في أهدافه ومواقفه، وذلك بحكم التشكيلة الاجتماعية التي يتكون الحزب منه، والتي – هذه التشكيلة – تستمد قرارها وآلية تعاملها مع الأحداث بناءً على سلوكها المجتمعي قبل الحزبي، وهذه العوامل إضافة إلى توازنات القوى ودور أجهزة السلطة تقف في كل مرة وراء حالات التشظي والانشطار داخل صفوف الحركة الكردية ..
ويمكننا القول أن ما يهمنا في الحالة الكردية ونحن نتعاطى العمل الحزبي، أن نوازن بين ما نطمح إليه وما هو مترسخ في المجتمع، وبالتالي التصدي لمجمل المعوقات التي تعرقل الآليات التنظيمية من أن تأخذ دورها ومكانتها، وهذه تحتاج إلى وعي وثقافة حزبيتين ..

فلو تساءلنا لماذا الحزب وما هو المطلوب منه، وفق سياقات المرحلة ومفاهيم العصر واستحقاقات القضية الكردية، وامتلكنا القدرة على الإجابة، لاستطعنا أن نوظف مجمل الطاقات المنخرطة في الإطار التنظيمي لخدمة ما هو محدد في الأهداف، بدل هدرها في الإشكاليات، أو إجهاضها في مسائل لا طائل منها، أو الدخول في حالات الصراع والاحتراب، وكذلك التصارع في مسائل هامشية، هي بعيدة كل البعد عن مبررات وجود الحزب، وإن كانت تتصل بجوهر النموذج الاجتماعي المسيطر في الوسط والبيئة، والموروث الثقافي الذي يسيطر على ذهنية شعوب المنطقة، والذي يرسخ مبدأ الأنا واحتكار القرار ونسف المخالف أو اقصائه ..

وهذا لا يعني مطلقاً تخلي العضو عن مهمته في مواجهة الحالات المرضية التي تداهم الآليات التنظيمية، ولكن لا بد من خلق حالة من التوازن بين ما يمارسه الشخص كسلوك اجتماعي، وما ينبغي أن يقوم به كعضو حزبي، وإذا ما تم توظيف هذه المعادلة في الإطار التنظيمي في الوجه الصحيح، لكان من الممكن وضع آليات تخدم ما يهدف إليه الحزب من برامج ومشاريع، ولكان من الممكن الدخول في مشاريع وحدوية ناجزة ومثمرة ..
إن إشكالية الحزب السياسي الكردي، تتجسد أولاً وأخيراً، إضافة الموروثات الثقافية والاجتماعية الآنفة الذكر، في تدني مستوى الثقافة الحزبية داخل الحزب نفسه، والذي ينبغي أن يشكل مؤسسة حاملة لمشاريع ثقافية تساهم في عملية الارتقاء بالجانبين الثقافي والمعرفي، وذلك بحكم أن السياسة لا بد لها أن تستند إلى ذهنية معرفية تمتلك قراءة الواقع واستشفاف المستقبل، وهذه الإشكالية هي التي تساهم بدورها في عرقلة الأداء السياسي من جهة، وتعمل على خلق حالة من التداخل بين الحقوق والواجبات، وبالتالي تخلق إطاراً سياسياً / تنظيمياً لخدمة مجموعة، نصبت من نفسها مصدر الشرعية ومركز القرار، كونها هي التي توزع المسؤوليات وهي التي تحدد الحقوق والواجبات وهي التي تقرر مصير الحزب، وبالتالي فإن الحزب يصطبغ برموزها ومراكز القوة فيها، ويرسخ من شأن التوازنات الحزبية التي بدورها تؤثر على المصير والمستقبل السياسي للحزب ..
إن هذه الإشكالية، والسير فيها، بل تسخيرها واستثمارها، كنتيجة لضعف المخزون الثقافي في الجسم الحزبي، وعدم امتلاكه قوة الردع في وجه ما يتم ممارسته من جانب مراكز القوة، التي تستمد شرعيتها أحياناً من البناء المركزي للنظام الداخلي، وأحياناً من التفافها على النظام ذاته وضربه أو طعنه، مستغلة تخوف الجسم التنظيمي على مصير الحزب، أو عدم ممارسة العضو حقوقه لأسباب تتعلق بالثقافة الحزبية المتوارثة من حيث الولاء الأعمى، وعدم الخروج على السياق الذي يحدده المركز، يحيل الحزب برمته إلى حالة من السكون والانعزال عن حركة المجتمع، وبالتالي سد المنافذ أمام الطاقات كي تأخذ دورها ومكانتها، وهي بذلك تخدم المركز ومصدر القرار، لأن العقلية المنتجة للسياسة الحزبية، والشكل الذي يعتمده الحزب في التفاعل مع الوسط، وفق ما يتم تحديده من آليات، ينبغي أن يجسد الزعيم أو مركز القوة، وأعني هنا بذاك الشخص الذي يتحكم في الحزب، بعض النظر عن موقعه، وبالتالي أن تكون زمام الأمور، من صغيره وكبيره، مضبوطة في أيدي تلك المراكز، وهذا ما نلاحظه في صيرورة العمل السياسي / التنظيمي في الحالة الكردية، حيث أن توسيع الإطار يخلق مشكلة لقائد المنظمة، الذي قد يمتلك القدرة على قيادة مجموعة تكون تحت السيطرة، أما وبسبب عدم امتلاكه للمؤهلات التي تؤهله من قيادة حزب جماهيري، وعدم القدرة في فهم وتفهم المحتوى المؤسساتي في بناء الحزب، من حيث توزيع المهام والمسؤوليات، كونها لا تخدم رغباته وهواجسه، يكون الحزب عرضة للنكسة كلما امتد أفقيا وتداخل مع المجتمع في بناء الموقف السياسي ..
وأخيراً، وحسب رؤيتي لمعطيات الحراك الحزبي الكردي، أعتقد أن الحالة الصحية لمعالجة أية موضوع يدخل ضمن دائرة التفكير السياسي الحزبي، يجب أن ينطلق من القاعدة ويستند عليها، وذلك لأنها تعتبر الركيزة والمسند الأساس الذي يبنى عليه، بل هي الحامل – المحور – في ترسيخ وتوظيف ما يبتغيه الحزب، وفي سلامتها يكمن سلامة الحزب، كل هذا طبعاً في حزب يعتمد الديمقراطية نهجاً وممارسةً، ويحترم رأي قاعدته، ويستمد منها الشرعية .

ولكن وفي وضع تكون المركزية طاغية، بل هي كل شيء ولا شيء سواها، لا يمكنك أن تعود إلى المرجع – القاعدة – لأنها لا حول لها ولا إرادة، لأنها فاقدةً لكل ما هو مؤمل منها، لأنها هامشية الوجود في القضايا المصيرية .

كما حال مجتمعاتنا تجاه أنظمتها، التي ترى أنها هي التي – ودائماً – تعبر عن وجدانها، وتأتي دورها – القاعدة – عند تخبط القيادة لتقوم بوظائف التجميل للصور التي فقدت رونقها .

وهنا بيت القصيد، ومن هنا ينبغي إعادة بناء الحزب وفق إعادة الصياغة لمفهوم الحزبية وكذلك الآليات الديمقراطية، وهذا بدوره يحلنا إلى القاعدة كي تأخذ مكانتها وموقعها الصحيح في العمل السياسي / الحزبي ..

بمعنى آخر في عملية توظيف الحزب وإدارته، وذلك عبر التصدي المرن لمجمل الأهواء والنزوات، التي قد تحاول إحالة الحزب إلى ما يشبه الدائرة المغلقة على أصحابها، والمربوط بأجهزة الريموت كونترول ..

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…