المرجعية الكوردية و المواقف المفتعلة

  محمود حسين

يبد و أن بعضاً من الأحزاب الكوردية تحاول العودة إلى الوراء أربعين سنة ، لنعيش مجدداً حالة من السجالات و المناظرات التي إن دلت على شيئ فإنما تدل على عجز حقيقي لهذه الأحزاب ، أو بالأحرى لأحزاب الحركة الكوردية مجتمعة في الجزء الغربي من كوردستان ، إذ أنها و بدلاً من   أن تفيق من غفلتها و تنهض بالأعباء الملقاة على عاتقها و تواكب الأحداث ، و تؤكد على حضورها ، و على أنها على مستوى المسؤوليات المناطة بها ، تنشغل بأمور جانبية لا طائل من ورائها ، و لا تثير اهتمام الجماهير الكوردية التي انتظرت طويلاً لكي تهتم أحزاب هذه الحركة بالقضايا التي تشغلها حقيقة ، و التي تؤرق عليها حياتها و تزيد من معاناتها مع مرور الزمن .

  و إن نحن تأملنا هذا الجدل الساخن الذي كان من المفروض ألا يأخذ هذا الشكل من الحدة ، و لا أن يجد طريقه إلى أدبيات هذه الأطراف ، و أقلام كتابها ، سنلاحظ دون عناء أن الحدث أعاد نفسه بشخوصه ،و أطرافه ، و أسمائهم ، و طريقة إدارتهم و معالجتهم لمثل هذه الأمور غير الجوهرية – على الأقل حسب اعتقادي – فإننا سنجد أن هذين الطرفين – التقدمي من جهة و الفصائل الثلاثة المؤتلفة في لجنة التنسيق و الخارجة مجتمعة من عباءة ما كان يعرف وقتها باليسار من جهة أخرى – لم تتغير كثيراً في طريقة مواجهتها لمسائل تنظيرية  .

فقد ظل السجال وقتها حامياً حول واقع و طبيعة و حقيقة الوجود القومي الكوردي في الجزء الغربي من كوردستان ، و فيما إذا كان الكورد يشكلون أقلية أم شعباً ، و على ذلك ما هية الحقوق القومية المشروعة المترتبة على هذين المصطلحين .

و مع أن هذه الطروحات أصبحت جزءاً من الماضي ، و أن الجميع قد تجاوزوا هذه العقدة ، و أن أحزاب الحركة الكوردية في الجزء الغربي من كوردستان لا تختلف برامجها و مناهجها من حيث الجوهر ، و إن اختلفت في الصياغة و التقديم و التأخير ، إلا أن من الواضح أن هذين الفريقين لم يتخلصا بشكل كامل من رواسب الماضي .

ففي الوقت الذي ترى فيه أحزاب الحركة الكوردية  أن ظروف المرحلة تتطلب و بإلحاح بناء مرجعية كوردية توحد الخطاب الكوردي ، و تعيد إليه القوة و الثقة ، و على ما يبدو فإن حوارات أخذت طريقها في هذا الاتجاه بين فصائل هذه الحركة و وجدت أرضية من القبول ، خرج أطراف التنسيق بمصطلح جديد – قضية أرض و شعب – و تمسكت بهذا المصطلح و اعتبرته من الثوابت القومية ، التي لا يمكن التفريط بها ، مما أثار حفيظة التقدمي ، و اعتبره آخر مسمار يدق في نعش المرجعية المنشودة ، و التي كان من الممكن لها أن ترى النور ، لو لا هذه المواقف المستفزة من هذه الأطراف التي تلتقي في طروحاتها مع القوى الشوفينية في السلطة ، التي تبحث هي الأخرى عن ذريعة تشد بها الخناق على رقاب الشعب الكوردي ، و تمعن في إجراءاتها التعسفية .

و على ذلك  فإن من حقنا  أيضاً أن نقول كلمتنا طالما أن هذا السجال يمسنا جميعاً ، فهو يجدد جراحات قديمة ستعمق من الشروخات الموجودة أصلاً  بين فصائل هذه الحركة ، و يدخل هذه الحركة في متاهات جديدة كانت بغنى عنها ،  و هو يعطل مبادرة مهمة كان من الممكن أن يكتب لها النجاح .
و من هنا فإننا نتساءل : هل صحيح أن القضية الكوردية في الجزء الغربي من كوردستان هي قضية أرض و شعب ؟
و هل صحيح أن الاتجاهات الشوفينية في النظام كانت تبحث عن ذرائع من هذا القبيل ؟
و أين موقع الجماهير الكوردية من هكذا سجالات ، و قضايا جانبية لا تدخل دائرة اهتماماتها ؟ .
بداية لا بد من التأكيد على أهمية و ضرورة و وجوب بناء مرجعية سياسية  للحركة الكوردية في الجزء الغربي من كوردستان ، إذ أن  إيجاد إطار حقيقي يضم الفصائل الكثيرة لهذه الحركة : يوحد صفوفها ، و يجمع إمكاناتها و طاقاتها ، و يوحد خطابها ، و بالتالي يزيد من وزنها و دورها و تأثيرها في الساحة السياسية ، و فوق هذا و ذاك يعيد الثقة المفقودة بين هذه الحركة و الجماهير الكوردية .
 و لكن ألم تكن لهذه الحركة مرجعية اكتمل بناءها في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي ، واستظلت بظلها ، و قبلت برنامجها معظم الفصائل الفاعلة في الحركة ، و كان من الممكن أن تجد البقية الباقية من التنظيمات السياسية مكانها في تلك الخيمة ، فلماذا تم تخريبها سنة 1996 ؟ ، و هل كانت عملية تعطيلها مصادفة أم سوء تقدير ؟ .
أما أنا فأعتقد غير ذلك و أدعي أن عملية تعطيل و ترقين تلك المرجعية جاءت عن عمد و عن سابق ترصد ، و أن الذين ساهموا في ذلك كانوا يعرفون ماذا يفعلون ، و إذا ما تجاوزنا هذا الرأي القاطع ، فإن من المؤكد أن الأطراف المؤتلفة في تلك المرجعية كان بإمكانها أن تتجاوز الأزمة ، فتعيد إليها دورها و فاعليتها ،  و لكنها لم تبذل ما يكفي من جهد ، و في كل الأحوال فإن تلك الفصائل تتحمل مجتمعة تبعات تعطيل تلك المرجعية ، فلماذا تعيد مرة أخرى المحاولة ؟ و هي تعرف أن وضع هذه الحركة بات أكثر تعقيداً مما كان عليه قبل عقد من الزمن .
فقد شهدت السنوات الأخيرة نشوء و ظهور و بروز أحزاب و تنظيمات جديدة في الداخل و في الخارج ، بحيث أصبح من الصعب علينا أن نتذكر أعدادها و أسماءها ، و حتى لو سلمنا جدلاً بأن هذه التنظيمات كلها اتفقت حول رؤية مشتركة و برنامج عريض جامع ، فما الذي يحول دون فرقتها مرة أخرى ؟ و ما الذي يضمن التزام هذه الأطراف بوحدة الصف الكوردي التي بدونها تدخل الحركة في حالة مستمرة من المراوحة ، إن لم نقل من الجمود و التهميش ، و التخلف عن مواكبة الأحداث ؟
و نحن عندما نطرح هذه الأسئلة فإننا لا نبشر بمستقبل أسود لهذه الحركة ، و إنما ننطلق من تجارب لها ليست ببعيدة ، و لا تزال تفاصيلها ماثلة في أذهاننا ، و ننطلق كذلك من هذا السجال الحالي و الحامي حول مصطلح ( أرض و شعب ) الذي لا يستحق هذه الخصومة ، و لا يشكل مسألة مهمة من شأنها وضع العصي في عجلة التقدم نحو الأمام لإقامة المرجعية المنشودة ، و لا يستحق إيلاءه كل هذا الاهتمام ،.
 و في الحقيقة  فإن هذه الخصومة الجديدة القديمة هي في حقيقتها مواقف مفتعلة ، يراد لها ترسيخ الفرقة و التنافر و التناحر بين الفصائل الكوردية ، و بالتالي تجريدها من مقومات الحركة لمواكبة الأحداث ، و مجابهتها و أداء دورها ، و إلا ما معنى أن يتم اقتباس مصطلحات و ابتكار شعارات و تلبيسها على الواقع الكوردي على أنها تعبير عن مرحلة جديدة من النضال الكوردي و مستجدات الوضع السياسي في المنطقة و العالم ، و اعتبار أن أي مساس أو تشكيك بذلك ، أو أي تجاهل لها بمناسبة و بغير مناسبة لا يعني إلا شيئاً واحداً و هو المساومة على الحقوق المشروعة ، و التنازل عن الثوابت القومية .
فنحن نعلم أن مصطلح أو شعار ( قضية أرض و شعب ) طرح أول ما طرح في الساحة السياسية الفلسطينية ، و من قبل الاتجاهات المتشددة في الحركة السياسية الفلسطينية على وجه التحديد ، و نحن لن نتناقش في مشروعية إطلاقه فهذا يعود إلى الشعب الفلسطيني ، و لكننا نعرف ما الذي عنى به أصحابه .

 فالخلاف الفلسطيني  الإسرائيلي يتمحور في شقه الأول حول الأرض ، حيث يكون الخلاف في بعض الأحيان على أمتار منها ، و في شقه الثاني حول حق العودة لملايين الفلسطينيين في الشتات ، و لذلك برز هذا المصطلح ، و ما كان من بعض العاملين في السياسة الكوردية ، إلا أن تلقفوا هذا المصطلح ، ففصّلوه على الواقع الكوردي في هذا الجزء من كوردستان ، و أصبح فاتحة الصلاة لأطراف لجنة التنسيق ، تلوح به  ، و تعمل على إلزام الأحزاب الكوردية الأخرى بالتقيد به ، و تضمينه في كل برنامج أو بيان على أنه من الثوابت القومية و على أن أي  مفرط به سيتحمل تبعات ضياع الحقوق القومية للشعب الكوردي ، و أنه لا يمكن لأي مصطلح آخر أن يفي بالغرض لأن هذه المرحلة تتطلب هذا الشعار ، و ليس غريبا على هذه الأطراف  أن تتهيأ منذ الآن لإعداد مصطلح آخر يتم التلويح به لحظة بروز مستجدات سياسية جديدة ، و تكون القضية الكوردية وقتها ( قضية تاريخ و جغرافيا ) طالما أن الوقت وقت التسابق على الشعارات ، و طالما أن الأولوية تكون للتنظير و ليس للالتفات إلى تحرك عملي ، نحدد فيه المهم و الأهم ، و نؤكد فيه على عوامل التقارب بدل الدخول في  مواجهة جوفاء تعمق الجراح ، و تعيق الوفاق .
إلا أنه و من جانب آخر فإنه من غير المفهوم أن يصاب التقدمي بمثل هذا التشنج ، دون غيره من الأحزاب الكوردية ، في كل مرة يقدم فيها فصيل كوردي على ممارسة عمل سياسي يعتقد أنه يخدم القضية الكوردية ، أو يرفع شعاراً يرى أنه يحقق مطامح و تطلعات الجماهير الكوردية في هذا الجزء من كوردستان ، فتثور ثائرته ، و يلجأ مباشرة إلى نظرية المؤامرة ، و الخلفيات المشبوهة ، فيحمل هذا الفصيل و من يقف في صفه مسؤولية كل فشل أو تآمر حل بالقضية الكوردية ، و يتصرف كما لو  كان  وصياً على هذه الحركة و على المنضوين تحت لوائها ، و هو الوحيد الذي من حقه أن يفكر و يقرر أسلوب التحرك و شعارات المرحلة ، و أي خروج عن رؤيته و مواقفه يعتبر عملاً مندساً ، و يساهم بشكل مباشر في إطالة أمد عبودية هذا الشعب ، و استمرار معاناة أبنائه، و أن الأمور كانت ستسير في الاتجاه الصحيح لولا دخول هذه الفصائل على الخط و إفسادها لمواقف و إجراءات عملية إيجابية كان النظام على وشك الإقدام عليها ، فقد بين التقدمي سابقاً أن مشكلة الاحصاء كانت على وشك  الحل لولا أن حزبا كوردياً رفع شعار حق تقرير المصير ، و اليوم يرى أن هذا الشعار الجديد قد أيقظ العناصر الشوفينية في السلطة من رقدتها ، لتتذرع به فتمعن في تضييق الخناق على الجماهير الكوردية ، و يتراجع النظام عن كل وعد قطعه على نفسه .
أما أنا فلا أرى أن النظام يحتاج إلى ذرائع يتحجج بها للاستمرار في سياساته العنصرية ، و إن هو بحث عن ذرائع فهو لن يعدم الوسيلة ، مثلما أنني لا أرى أن تحولاً جذرياً كان على وشك الحدوث في سياسة النظام حيال القضية الكوردية في كوردستان الغربية  ، فجاءت هذه المواقف لتعيق هذا التحول أو لتلغيه ، إلا إذا كان التقدمي يعلم بخبايا الأمور مما لا علم لنا بها ،  فقد تم تجاهل الوجود القومي لشعبنا على وطنه منذ تشكيل دولة سوريا الحديثة  ، و فيما بعد فإن سياسة عنصرية منظمة تم تبنيها بهدف القضاء على هذا الوجود ، و كانت البداية في تطبيق المشروعين العنصريين ( الحزام و الاحصاء ) فهل كان هذان المشروعان ردة فعل لسياسات و مواقف تبنتها الحركة الكوردية في تلك المرحلة ؟ و إذا كان الأمر كذلك فإن على التقدمي أن يعتذر عن مواقف و ممارسات سياسية تسببت في فقدان مئات الألوف من الكورد لأرضهم و لحقوقهم المدنية ، لأن التقدمي يعتبر نفسه الوريث الشرعي للحزب الأم الذي تأسس في الرابع عشر من حزيران سنة   1957  .
إننا في هذه المرحلة من النضال في سبيل الحقوق القومية المشروعة لشعبنا الكوردي في هذا الجزء من كوردستان ، و في مراحل سابقة ، و في مراحل لاحقة أيضاً بحاجة ماسة و ضرورية إلى توحيد صفوف الحركة الكوردية ، و إلى توحيد خطابها ، و إلى تجميع قدراتها ، في مرجعية تجد جميع فصائل هذه الحركة مكانا لها فيها  ، و تعيد الثقة المفقودة بين الأحزاب الكوردية و جماهيرها ، بعيداً عن التهويل في الخطاب ، و التسابق على العبارات و الشعارات ، و بعيداً عن نظرية المؤامرة و التخوين ، و التخويف ، و الوصاية ، و بحيث تدخل أحزاب هذه الحركة مجدداً في  مساجلات في التنظير ، تبتعد بها عن تحرك جدي و مسؤول ، تعطى فيها الأولوية للقضايا التي تشغل الإنسان الكوردي ، و تثير اهتمامه ، و تلامس جوهر القضية الكوردية ، التي هي قضية شعب له الحق في حياة حرة كريمة على أرضه ، و التي هي قضية سياسية لشعب مستعبد مسلوب الإرادة ، و التي هي قضية حق هذا الشعب  في تقرير مصيره بنفسه ، و التي هي إحدى قضايا الديمقراطية ، و التي هي قضية أرض و شعب ، و التي هي هذه القضايا كلها منفردة و مجتمعة

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين   في السنوات الأخيرة، يتصاعد خطاب في أوساط بعض المثقفين والنشطاء الكرد في سوريا يدعو إلى تجاوز الأحزاب الكردية التقليدية، بل والمطالبة بإنهاء دورها نهائياً، وفسح المجال لمنظمات المجتمع المدني لإدارة المجتمع وتمثيله. قد تبدو هذه الدعوات جذابة في ظاهرها، خاصة في ظل التراجع الواضح في أداء معظم الأحزاب، والانقسامات التي أنهكت الحركة الكردية، لكنها في عمقها…

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…