لا «صديق» للسوريين إلا الله؟!

هوشنك بروكا

بعد فشل “أصدقاء سوريا” ال13 في استصدار قرارٍ يدين النظام السوري في مجلس الأمن، الذي أصبح “رهينةً” للفيتو الروسي/ الصيني، على حدّ قول السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة سوزان رايس، دخلت الأزمة السورية منعطفاً خطيراً، ما يعني دخول مصير الثورة السورية في المزيد من القتل والقتل المضاد، فضلاً عن دخولها في المزيد المجهول.

ما تعرضت له حمص، وأخواتها الأخريات، من دمار وقصفٍ بالأسلحة الثقيلة، من دبابات ومدافع وراجمات، بدمٍ باردٍ وثقيل، على يد قوات جيش الأسد النظامي،
 هو أول نتائج هذا “الفشل الأممي”، الذي كان بمثابة “رخصة” للنظام بإرتكاب المزيد من القتل، وصناعة المزيد من المجازر، كما رأينا في الأيام القليلة الماضية، حيث سقط المئات من القتلى والجرحى، جرّاء القصف العشوائي الذي لا يزال مستمرّاً، على الأحياء السكنية في حمص، ومناطق أخرى من سوريا، مثل درعا وإدلب وريف دمشق.

منذ يوم الجمعة الماضي، سقط في مدينة حمص وحدها(عدا حصيلة أمس الجمعة التي تجاوزت ال137 قتيلاً منهم 107 في حمص) حوالي 400 قتيل، حسبما أعلنه مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبدالرحمن.
ليس للشعب السوري، إذن، بعد كلّ هذا القتل، طيلة الأشهر الدموية الماضية، إلا القتل “المرخّص”، والدمار “الحلال”، والتنكيل والتعذيب والإعتقال.


هكذا يقول لنا فشل مجلس الأمن، والخوف الأممي من نظام الأسد، والفيتو المزدوج الروسي/ الصيني، وارتباك العالم أمام مجازر النظام، وتخبط المعارضات السورية الداخلة مع بعضها البعض، في أكثر من صراعٍ استنزافي، وأكثر من شقاق.
لا شكّ أنّ سحب أميركا وتونس ودول مجلس التعاون الخليجي لسفرائها لدى دمشق، وطرد هذه الأخيرة لسفراء سوريا من بلادها، واستدعاء دول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا، لسفرائها في دمشق للتشاور، كلّ ذلك دليلٌ على أنّ العالم بشقه الصديق لسوريا وشعبها، بدأ يخطو خطواتٍ أكثر جديّةً، لممارسة المزيد من الضغط والعزلة الدوليين على النظام، للعدول عن حلوله الأمنية والعسكرية، وفتح الطريق أمام حلول سياسية ناجعة، للخروج بسوريا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وممّا تعيشها الآن من حربٍ أهليةٍ، إلى برّ السلام والأمان.


ولا شكّ أيضاً أنّ تنديد رئيسٍ في وزن باراك أوباما، بجرائم النظام السوري، التي وصفها أمس ب”حمام الدم الرهيب”، فيها أكثر من دلالةٍ سياسية، على التحوّل الخطير الذي طرأ على مسار الثورة السورية، في الآونة الأخيرة.
 
لكنّ السؤال المطروح، ههنا، هو: هل هذا يكفي لردع النظام السوري عن قتل سوريا، ومحو ثورتها عن بكرة أبيها؟
الشعب السوري، بعد كلّ هذا القتل الرهيب المتواصل، على مدار الزمان والمكان السوريين، بات يحتاج إلى أفعال(لا أقوال)، تحميهم من حمم قذائف دبابات النظام ومدافعه، التي تدك الأحياء السكنية، ليل نهار، بوحشية قلّ مثيلها في العالم، مشرقاً ومغرباً.
الشعب السوري، يريد، إذن، إسقاط الأقوال(الأممية)، التي ما عادت تشبعه خبزاً وأمناً وسلاماً وحريةً، وترجمتها من جهة قائليها، إلى أفعال حقيقية، تجنّبه مما هو فيه من قتلٍ رهيبٍ، بات ينهش في مدنه بالجملة والمفرّق، من كلّ حدبٍ وصوب، قبل كلّ تصريحٍ أممي وبعده.


بعد حوالي 11 شهراً من “الفشل الأممي” في الوصول إلى أيّ حلٍّ للأزمة السورية، وازدياد وتيرة القتل والدمار بشكلٍ دراماتيكي ملحوظ، بدأنا نسمع في الآونة الأخيرة، سيناريوهات جديدة سيتم الإشتغال عليها، قريباً، عساها تقدّم حلاًّ أو “بعض حلٍّ”، لهذه المشكلة التي خرجت من إطار حدودها السورية، وأصبحت مشكلةً أقليميةً و”أممية” بإمتياز.
لعلّ المبادرة الجديدة، التي طرحها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، مؤخراً، بضرورة تشكيل ما تسمى ب”مجموعة أصدقاء سوريا”، هي الأوفر حظاً، الآن، بالمناقشة والأخذ والرد، بين “أصدقاء سوريا”، للإلتفاف بها على مناورات “أصدقاء النظام”.
بالتوازي مع هذا السيناريو الغربي/ العربي، هناك سيناريو آخر، بدأ يلوح في الأفق، وهو إحتمال لجوء “أصدقاء سوريا” إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لأجل استصدار قرار يدين سوريا، خارج مجلس الأمن.
أما روسيا التي كانت ولا تزال تراهن مع النظام السوري، على عامل الوقت، لإخماد همّة الثوار وإطفاء جذوة الثورة، فتلوّح هذه الأيام بإمكانية حلّ الأزمة السورية، باللجوء مرةً أخرى إلى مجلس الأمن.
الواضح من سياسة الكرّ والفرّ الديبلوماسي، التي تتبعها الدول الكبرى والإقليمية لدى تعاطيها مع الملف السوري، هو أنّ القضية السورية، خرجت منذ زمنٍ، من إطارها السوري الضيق، في كونها قضية داخلية بين نظامٍ ديكتاتوري، يريد أن يحكم إلى الأبد، وشعبٍ يريد إسقاطه.
منذ الأول من الثورة السورية، كان واضحاً أنّ “سوريا بالفعل ليست كتونس ولا كمصر ولا كليبيا ولا كاليمن”، ليس لأن الأسد “ديكتاتور رحيم”، مقارنةً مع الديكتاتوريات الرجيمة الأخرى، التي حكمت هذه الدول، لعقودٍ طويلة، وإنما لأن الصراع الدولي على سوريا، ليس كالصراع ذاته على تلك.
منذ البداية، أعلنت تركيا في أكثر من مناسبة، وعلى لسان كبار مسؤوليها، بأنّ “المشكلة السورية، هي مشكلةٌ تمسُّ الداخل التركي، بذات القدر الذي تمس الداخل السوري”.

ومن هذا الباب الواسع للمشكلة، دخل الأتراك على الخط مع المعارضة السورية، كفاعلين في المشهد السوري، لا كمتفرجين كما فعلوا(أو أخطأوا حسب تعبير كبار مسؤوليهم) مع العراق، قبل 10 سنوات.
الأزمة السورية، دخلت في الآونة الأخيرة منعطفاً خطيراً، وذلك على مستويين:
الأول، في الداخل السوري، وهو تحوّل الصراع، من صراع سلمي مدنيٍّ، بين سلطة ديكتاتورية وثورة شعب أعزل، إلى صراع عسكري بين جيشين؛ جيشٌ يدافع عن النظام، وآخر يدافع عن الثورة.
الثاني، في الخارج القريب الإقليمي المجاور، والدولي البعيد القصي، وهو تحوّل الصراع، من صراعٍ كان من المفترض به أن يستمرّ كصراع بين سلطةٍ مستبدة، وشعبٍ يتوق للحرية، إلى صراع إقليمي ودولي، يتجاذبه طرفان أساسيان: الأول تقوده اميركا ومن خلفها أوروبا ودول الخليج والمغرب العربي(عدا الجزائر) وتركيا، أما الثاني فتقوداه روسيا  والصين، ومن خلفهما إيران ودول عربية مثل العراق والجزائر، إضافةً لحزب الله.


صحيح أنّ الثورة السورية انطلقت من الداخل السوري، من حناجر سورية، لإعتبارات سورية أولاً وآخراً، على حوامل سورية، لتلبية حاجة السوريين الماسة، إلى ربيع الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، إلا أنها تحوّلت، لسوء حظ السوريين، إلى ثورة برسم الخارج، حتى بات لكلّ خارجٍ فيها أجندات ومصالح وحسابات، لا يمكن تصفيتها، قليلاً أو كثيراً، إلا على حساب الدم السوري المهدور منذ حوالي 11 شهراً.
 
إزاء استمرار مسلسل القتل اليومي، ونزيف الدم السوري في مختلف أنحاء البلاد، لا يبدو أنّ هناك حتى الآن، أيّ بصيص أملٍ، في نهاية النفق السوري الأكثر من مظلم.
فإذا كانت الدول المحسوبة على “أصدفاء النظام”، قد حسمت أمرها حتى الآن، في وقوفها العلني والمكشوف مع النظام وآلة قتله، سياسياً وديبلوماسياً ولوجستياً وعسكرياً، وتحذّر أندادها بين الحين والآخر، من مغبّة أيّ تدخل في الشأن السوري، فإنّ حسماً قوياً كهذا لم يحصل بعد على مستوى أفعال “أصدقاء سوريا”.

هؤلاء الأصدقاء لم يحسموا أمرهم بعد، حتى اللحظة في الأقل، بشأن الثورة السورية، وقادم سوريا، وما يجب أن يكون عليهم السوريون.
هذا التردد الأممي، يمكن قراءته بوضوح في تذبذب الموقف التركي، بإعتبار أنّ تركيا تعتبر نفسها واحدة من أكثر المعنيين بالشأن السوري، سياسياً واقتصادياً وأمنياً واستخباراتياً.
تركيا، تقول في السرّ وفي العلن، أنها لن تسمح بتكرار “عراق آخر” على حدودها الطويلة التي تتجاوز 850 كم، هذا فضلاً عن أن تركيا تعتبر سوريا عمقاً إستراتيجياً لها، وبوابتها الوحيدة إلى العالم العربي.
تركيا تخاف سوريا وتخشى من أيّ حراكٍ فيها، قد يؤدي إلى “فوضى” مفتوحة معها على أكثر من جبهة، لعلّ أهمها هي “الجبهة الكردية”.
موقف تركيا، من الأزمة السورية، رغم وضع بعض المعارضة الممثلة بالمجلس الوطني السوري، كلّ بيوضه في سلّتها، لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض والكثير من التردد والشدّ والجذب.

والسبب واضح، وهو لأنّ تركيا تعرف بأنّ اللعب في سوريا الجارة القريبة، وعليها، لن يكون سهلاً، ولن يمرّ على العالم مرور الكرام، كما قد يحسبه البعض.


تركيا تعلم أنّ طريقها إلى سوريا، لا يزال محفوفاً بالكثير من الأخطار، سواء على مستوى الداخل التركي، أو الإقليمي، أو الدولي.
من هنا، ليس هناك من “صديقٍ لسوريا” يهمه قادم سوريا ومايمكن أن تؤول إليه الأوضاع فيها، أكثر من تركيا، ليس حباً بسوريا والسوريين، بالطبع، وإنما حبّاً بمصالحها، وحمايةً لإستقرارها وأمنها.
ولهذا بالضبط، يمكن قراءة الموقف التركي المتذبذب، والمتأرجح بين مدٍّ وجزر، بإعتباره بارومتراً سياسياً، لقياس مجمل الموقف الأممي “الصديق” لسوريا، من أميركا إلى أوروبا، مروراً بالدول العربية.
إزاء “موقفٍ صديق”، لم يحسم أصحابه أمرهم مع قادم سوريا بعدُ، لا يبقى أمام السوريين من أهل الثورة، إلا اللجوء إلى باب الله.
هذا ما نكشفه بحزنٍ شديد، من خلال خطاب الثوار أنفسهم، الذي بات يغلب فيه الدين على السياسة، والتعويل على جبروت الله في السماء، للإنتقام من جبروت الأسد على الأرض.
نعلم جيداً،  أنّ هذه تراجيديا، فيها من الماوراء والميتافيزيقيا، أكثر من السياسة والفيزيقيا.


لكنّ السؤالُ هو: هل بقيَ هناك من طريقٍ سالكٍ آخر في العالم، أمام أهل التراجيديا السورية، هؤلاء، ولم يسلكوه؟
هل بقي أمامهم أصلاً، وهم ذاهبون، فرادى وجماعات، إلى موتهم الكبير، خلا هذا الحنين الديني، والهروب الميتافيزيقي إلى الله؟ 
“ليس لنا إلا الله..يا الله مالنا غيرك يا الله”..هذه الجملة التي طالما سمعنا الثوار السوريين وهم يمشون، ويُعتقلون، ويُعذبون، ويُقصفون، ويُقتلون تحتها، تعبّر بكّل وضوح عن تراجيديا الثورة السورية، التي أدار لها العالم ظهره، حتى اللحظة.
فهل لم يبقَ للسوريين “صديقٌ” إلاّ الله؟
hoshengbroka@hotmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نارين عمر تعتبر المعارضة في أية دولة ولدى الشّعوب الطريق المستقيم الذي يهديهم إلى الإصلاح أو السّلام والطّمأنينة، لذلك يتماشى هذا الطّريق مع الطّريق الآخر المعاكس له وهو الموالاة. في فترات الحروب والأزمات تكون المعارضة لسان حال المستضعفين والمغلوبين على أمرهم والمظلومين، لذلك نجدها وفي معظم الأحيان تحقق الأهداف المرجوة، وتكون طرفاً لا يستهان به في إنهاء الحروب…

محمد زيتو مدينة كوباني، أو عين العرب، لم تعد مجرد نقطة على الخريطة السورية، بل تحولت إلى رمز عالمي للصمود والنضال. المدينة التي صمدت في وجه تنظيم داعش ودفعت ثمنًا غاليًا لاستعادة أمنها، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ جديد وأكثر تعقيدًا. فالتهديدات التركية المتزايدة بشن عملية عسكرية جديدة تهدد بإعادة إشعال الحرب في منطقة بالكاد تعافت من آثار النزاع، ما…

بوتان زيباري كوباني، تلك البقعة الصغيرة التي تحوّلت إلى أسطورة محفورة في الذاكرة الكردية والسورية على حد سواء، ليست مجرد مدينة عابرة في صفحات التاريخ، بل هي مرآة تعكس صمود الإنسان حين يشتد الظلام، وتجسيد حي لإرادة شعب اختار المواجهة بدلًا من الاستسلام. لم تكن معركة كوباني مجرد مواجهة عسكرية مع تنظيم إرهابي عابر، بل كانت ملحمة كونية أعادت…

إبراهيم اليوسف لقد شهدت البشرية تحوُّلاً جذرياً في طرق توثيقها للحياة والأحداث، حيث أصبحت الصورة والفيديو- ولأول وهلة- الوسيلتين الرئيسيتين لنقل الواقع وتخليده، على حساب الكلمة المكتوبة. يبدو أن هذا التحول يحمل في طياته نذر موت تدريجي للتوثيق الكتابي، الذي ظل لقرون طويلة الحاضن الأمين للمعرفة والأحداث والوجدان الإنساني. لكن، هل يمكننا التخلي عن الكتابة تماماً؟ هل يمكننا أن ننعيها،…