كما لو أنها حكاية:
” من شابَهَ أباهُ ما ظلم “؛ إنه مثلٌ معروف، لطالما تردّدَ في آونة المظالم هذه، المُستمرّة منذ ما يقارب الدزينة من الأعوام؛ وتحديداً، منذ استلام بشار الأسد السلطة خلفاً لوالده.
ولكن، ما هوَ وَجهُ الشبَهِ هنا، في حالة هذا ” الولد ” وأبيه، الراحل ؟
هذا دونما أن نغض الطرف عن حقيقة، أنّ السوريين اعتادوا من جهتهم على وَصْم تلك السلالة بنعت ” القرَدة “، مُحيلين ذلك لاسم موطنها الأول؛ قرية ” القرداحة “، الكائنة في ريف الساحل.
ولكي تأخذ التسمية شرعيّتها، بنظر المُشنعين على الأقل، فإنهم استندوا أيضاً إلى سبب آخر، لغويّ: فأهل الريف الساحليّ، اعتادوا على افتتاح جملة قولهم بكلمة ” قِرْد “، مع التشديد على الراء وإهمال الدال.
بيْدَ أن مقالنا هذا، بطبيعة الحال، لم يهمل تلك الدال.
عالمُ الوقائع والعبر، المَوْسوم آنفا، يَعني التاريخ.
هذا التاريخ، بالمقابل، يتماهى أحياناً بشتى المُبالغات والأساطير والخرافات.
ولأن الحديث هنا يتعلق بسلالة حاكمة، هيَ أسرة الأسد، العتيدة، فلا غرو أن يتواشجَ مع أسلافها من السلالات الغابرة، التليدة.
السلالة موضوع المقاربة؛ هيَ السلالة السلجوقية، السورية، ذات الأصول التركمانية.
آل الأسد، ينحدرون من أصل مشابه، على أغلب تقدير، ( يُقال أنهم من عشيرة ” قره حيلي “، العلوية، الممتدة فروعها إلى الأناضول )؛ كذلك فعقيدة ملتهم تؤمن بالتقمص واستنساخ الأرواح: فهلّ حلّ روحُ آخر حاكم للسلالة السلجوقية تلك، في جسد ” قريبه “؛ آخر حاكم للسلالة هذه، الأسدية..؟
هذه هيَ الحكاية:
يُخبرنا تاريخ الشام، في حوالي النصف الأول من القرن الثاني عشر للميلاد، عن سيرة آخر حكام السلالة السلجوقية؛ وكان يُعرف باسم شمس الملوك إسماعيل.
تولى هذا الحاكم السلطة بُعيْدَ موت أبيه؛ الملك بوري.
وبما أن والده كان دمويّاً، اشتهر عهده بالجور والطغيان، فمن النافل التأكيد على استبشار الخلق بالابن الشاب؛ هوَ الذي كان معروفاً، حتى ذلك الحين، بحبّه للعلم وابتعاده عن مجالس اللهو.
الحديث عن الأب، يجرّنا إلى الأم.
هذه، تميّزت بشخصيتها الطموح، الشديدة المراس؛ والتي كانت في عهد الزوج، الطاغية، خامدة نوعاً ـ كما جذوة الجمر تحت الرّماد.
إلا أنّ جذوة ” أم إسماعيل “، عليها كان أن تؤرّث بوراثته عرش أبيه: هكذا اعتقدت هيَ، وكذلك كان اعتقاد الخلق، المُستبشرين.
ولكن، كان على هذا الحاكم الجديد أن يثبتَ صحّة ذاك المثل، القديم؛ الذي افتتحنا به القولَ.
فإذ افتتح عهده بإبعاد رجال أبيه، والتخلص منهم الواحد إثر الآخر بالسيف أو السمّ، فإنه ما لبث أن صارَ مهووساً بفكرة المؤامرة، حتى لكان يشكّ بخيانة أقرب الناس إليه.
عندئذٍ، شاع بين الناس، وعلى نطاق واسع، أنّ حاكمَهُم شخصٌ مختلّ العقل.
خلال الفترة نفسها، كانت الحملات الصليبية في أوج مجدها.
هؤلاء الفرنجة، تمكنوا خلال نصف قرن، من وجودهم بالمشرق، من الاستيلاء على كامل الأرض المقدسة، الفلسطينية، علاوة على الشريط الساحلي السوري؛ الممتد من العريش حتى اسكندرونة.
دمشق، عاصمة شمس الملوك، كان برّها مباحاً لأولئك الغزاة، ممن اعتادوا على الإغارة على قراه وبلداته بهدف النهب والسلب.
بدلاً من حشد الجيش للتصدّي للمحتلين الأغراب، فإن شمس الملوك راحَ يتصرف كما لو كان بنفسه لا يمت بصلة للأرض الشامية.
تجلى ذلك بتوجيهه لجنده الشرسين، الجشعين، نحوَ المدن الداخلية، الإسلامية، بغيَة إخضاعها بالقوة لسلطته، المُطلقة.
المفردة الأخيرة، ربما لا محلّ لها من التعبير هنا، طالما أن الحديث يخصّ زمن القرون الوسطى، المظلم.
إلا أننا أكدنا عليها، بالنظر لاستهلالنا القول باستبشار الرعية بالحاكم الشاب، بعد كلّ ما عانوه من ظلم أبيه.
وها هموا يترحمون على ذلك السلف، بعدما جرّبوا خلفه المعتوه، المختل العقل: الضرائب أصبحت متعددة، اعتباطية؛ الاستيلاء على أملاك الخاصّة والعامّة تواترَ بشكل مخيف، تبعاً لحاجة خزينة الدولة، الفارغة؛ الأسواق والدور والأرباض باتتْ تحت رحمة الجنود، انتهاكاً وابتزازاً واستباحة.
الأم، كان لها كلمة نافذة، عند الابن، على الأقل خلال المرحلة الأولى من حكمه.
على ذلك، تمكنت من إقناعه بالعدول عن محاربة شقيقه الأصغر، محمود، ومن ثمّ جعله متسلماً على منطقة البقاع اللبنانيّ.
غيرَ أن علاقة الحاكم بأمه، أضحت من بعد متوترة باضطراد مع كلّ خطوة، خرقاء، يخطوها في داخل القصر وخارجه.
بعدما بدأ الأخرق يشكّ بعلاقة ما، مريبة، بين والدته وحاجب قصره، فإن الغيرة الجامحة اجتاحته، مما جعل هذا الأخير يركن للفرار والتخفي.
صبرُ الأم، نفد أخيراً حينما تناهى إليها أن شمس الملوك بعث رسالة للمغامر المعروف، عماد الدين زنكي، يستنجدُ به لمحاولة صدّ الفرنجة، المُتمادين في توسّعهم، مُستغلين وضعَ المملكة الضعيف، الهش.
طلب التدخل ذاك، رأت فيه الأم الحازمة، الحصيفة، انتحاراً سياسياً سيودي بالأسرة الحاكمة إلى المهلكة والانقراض.
فما كان من ابنها، إثرَ مشادتها معه، سوى التهديد بتسليم دمشق لأولئك الفرنجة، مُقابل مبلغ ضخم والانكفاء نحوَ أحد حصون الشمال.
ثمّ استدعت الوالدة ولدَها الآخر، محمود، ونصّبته على عرش المملكة.
إلا أنها كانت جدّ متأخرة، الخطوة تلك: المغامر زنكي، كان على رأس جيشه، اللجب، في الطريق إلى دمشق، لكي ينهي أبداً سلطة الأسرة السلجوقية.