دهام حسن
من المعلوم أن أية وحدة وطنية ‘ لا يمكن لها أن تتحقق، لا بقرار سياسي ، ولا برغبة قائد ولا حتى بإرادة حزب.
فهي حالة اجتماعية وسياسية ، تستوجب جملة شروط ومعطيات ؛ في مقدمتها ، أن تكون مصالح قطاعات الشعب المعني مشتركة .
لهذا فإن تبجح النظم الشمولية بتلاحم قطاعات المجتمع وتباهيها بالوحدة الوطنية ، لا يقـرهــا الواقع ، ولا المنطق .
فمثل هذا الشعار، إ نما يطلق للاستهلاك ‘ دون أن يكون له مضامين واقعية .
فإننا لو تناولنا المسألة فكريا ، علينا أن نقر بداية ، أن التعددية الاجتماعية ظاهرة طبيعية ، لازمت المجتمع البشري منذ القدم ؛ فالمجتمعات عادة تتشكل من تكوينات ثقافية وعرقية ودينية..
وهذه الحالة – طبيعيا – أن تولد لديها رؤى سياسية مختلفة ؛ هذا من جانب ، ومن جانب آخر، هناك حالات أخرى من الانقسام في المجتمع ولا يخفى أن أي مجتمع عادة متعدد القطاعات ، وبتعدد القطاعات تتعدد المصالح الاجتماعية وتتعارض ، وكل هذا يفضي بالنهاية إلى اختلافات تعبر عنها بسياسات ومواقف متناقضة .لايمكن لنا مخادعة الذات وإيهام الآخرين ، بأن كل شـيءعلى ما يرام ؛ والتيمن بموقف الحزب الشيوعي السوفييتي ، واقتراف ذات الخطأ الذي ارتكبه في المؤتمر الثانيوالعشرين عام 1961 عندما أعلن أن الاتحاد السوفييتي أصبح دولة دون صراع طبقي ، دولة لكامل الشعب…
وكان الواقع الفعلي خلاف ذلك ؛ وقد جرى للاتحاد السوفييتي ما جرى .!
إن الوحدة الوطنية التي تنشدها النظم الشمولية ، ليس المراد منها الوحدة والتفاهم بين قطاعات المجتمع المختلفة، فمثل هذه الوحدة لا شأن للنظام بها ؛ بل بالعكس ربما فضل النظام أن يعيش المجتمع في ثوب الانقسام ، ليسهل عليه التحكم والتسلط ، وربما أفلح في احتضان بعض القوى الانتهازية .
إن الوحدة بعرف هؤلاء الاستبداديين تعني حالة واحدة ، هي التفاف الشعب بتنظيماته السياسية حول النظام ؛ ومثل هذه الوحدة لا تتحقق إلا إذا كانت السلطة منبثقة عـن الشعب بانتخابات حرة ديمقراطية، تعكس السلطة واقعا جديدا يتمثل في الحكومة مختلف المكونات الاجتماعية ، حيث يرى كل فرد صـدى صوته يتردد في مبنى البرلمان المؤسسة التشريعية وسائـر المؤسسات الأخرى؛ والنظام هنا، يكتسب قـوة،لأن قوة أي نظام ، إنما تأتي من شرعيته؛ تأتي من وعي الجماهير وملامستها للواقع ، ومساهمتها في النقاش ، ومشاركتها في تسيير شؤون الدولة؛ لأن ( الشعوب لا تنشط من أجل شـيء خلاف مصالحها ) بتعبير بلانكي.
في هذه الحال لن يقف المواطن متفرجا ، إذا تعرض النظام للخطر لأن مصالحه مرتبطة بمصالح النظام ، وتصبح هي بالتالي أيضا مهددة ..
إن استخدام العنف لإسكات الصوت الحر ، لا يوحي لا بالوحدة الوطنية ، ولا بقوة النظام ، فإتباع هكذا أسلوب دليل على أن السلطة تفتقر إلى الحجة والقناعة فضلا عن الشرعية .
فالسلطة عندما تعظم الذات ترفض الرأي الآخر ، وتتمسك برأيها وتكتفي به ، وتمرره بشكل قسـري ، دون أن يولي أي اهتمام لاعتراضات الآخــرين حتى لو كان هذا الرأي يفتقر إلى القناعة، وبادي الخطل.
إن فرض الآراء بالقوة لا بالحجة والشرعية لا بـد لها أن تزول بزوال القوة.لأن (غلبة القدرة تزول بزوالها لبة الحجة لا يزيلها شـيء)كما يقول الخليفة المأمون.
إن الفرد الذي يعيش في فقر وقهر وخوف ..
لن يتخذ إلا موقفا سلبيا من النظام ،موقف الكراهية تجاه النظام وتجاه البلد ؛ ولن يتأسف إذا سقط النظام بمعارضة أو بمؤامرة ..
إنه يعيش في غربة بلا وطن.
يقول سان جوست أحد قادة الثورة الفرنسية 🙁 الشعب الذي لا يشعر بالسعادة في بلده لا يمكن أن يحب وطنه ) .يتحين ثل هذا الفرد الفرص للهجرة والنزوح ؛ لن تحركه دعوة النظام للدفاع عن مؤسسات محظور عليه دخولها ، أو المساهمة في تأسيسها ، أو المشاركة فيها .
مثل هذا لإنسان ، لن يستجيب لنداء القـائـميـن على السلطة ، بالتحمل ، والتضحية في سبيل القضية الأهم وهي ” المسألة الوطنية” – حسب توصيفهم – وكأن الجوع والقمع والقهر والفساد ليست من المسائل الوطنية ، التي تقتضي منا وقفة وطنية لمعالجتها إذن ، فما دعوة الطبقة الحاكمة من هؤلاء بالتضحية سوى مخادعة لهم ؛ يطالبونهم بالتضحية ليستمروا هم في الحكم ، في حين أنهم غير مستعدين للتضحية بشيء ؛ ثم أن الفرد يحس بأنه لا يملك شيئا حتى يضحي من أجله ..
ينقل لنا الفيلسوف برتراند راسل كلاما ينسبه إلى جيرمي بنتام : ( إن أخلاق التضحية السائدة ، إنما هي خدعة متعمدة ، فرضتها الطبقة الحاكمة دفاعا عن مصالحها ، فهي تتوقع التضحيات من الآخرين ، ولكنها لا تقوم بنفسها بأية تضحية ).إن غالبية المواطنين في النظم الاستبدادية ، يتملكهم خوف دائم بسبب قسوة النظام لهذا فالمرء فيهم مضطر أن يظهر بموقفين متناقضين ، ينعكس في خطاب معلن ، والآخر مخف ، الأول يأخذ طابع الكذب والنفاق والتزلف عندما يمتدح النظام ليحمي نفسه ؛ والآخر صميمي نابع من الأعماق عن صدق وقناعة ، وهو كراهية النظام القائم ، لكنه يحفظها لنفسه ، وقد يسرها للمقربين.
ذلك جانب من طبيعة النظم الشمولية ، حيث تسوء الحالة السياسية ، وتتردى الأوضاع الاجتماعية وللانتقال إلى حالة سليمة ، لا بد من معالجة مسؤولة لابد من أدوية بطولية كما يقول بلانكي .
ولكن هيهات ..
أن يتهيأ الاستبدادي للمعالجة البطولية مختارا !..