رستم محمود
مقاصد كثيرة تقف وراء تحوير مركز النقاش في الأزمة السورية، نحو قراءتها كقضية إقليمية.
فالقضية الفلسطينية ومعلقاتها، من محاور وخيارات ومشاريع جزء من «المسألة السورية»، وكذلك هو شأن إيران وقضاياها، والأمر نفسه ينطبق على تركيا وقصصها، والعراق ولبنان ومشاكلهما.
كلها شؤون تتعلق بسوريا وتموضعها وشكلها ومستقبلها.
لكنها بالمقابل ليست كل وجوهر القضية السورية الراهنة، فالذي يجري منذ شهور في هذا البلد هو شأن يتعلق من حيث المنشأ والأصل والدوافع والمصير، هو أمر سوري داخلي شبه بحت، وجملة المناخات والمعادلات والمعطيات الإقليمية رافدة وجزئية فيها، ليس إلا.
مقاصد كثيرة تقف وراء تحوير مركز النقاش في الأزمة السورية، نحو قراءتها كقضية إقليمية.
فالقضية الفلسطينية ومعلقاتها، من محاور وخيارات ومشاريع جزء من «المسألة السورية»، وكذلك هو شأن إيران وقضاياها، والأمر نفسه ينطبق على تركيا وقصصها، والعراق ولبنان ومشاكلهما.
كلها شؤون تتعلق بسوريا وتموضعها وشكلها ومستقبلها.
لكنها بالمقابل ليست كل وجوهر القضية السورية الراهنة، فالذي يجري منذ شهور في هذا البلد هو شأن يتعلق من حيث المنشأ والأصل والدوافع والمصير، هو أمر سوري داخلي شبه بحت، وجملة المناخات والمعادلات والمعطيات الإقليمية رافدة وجزئية فيها، ليس إلا.
يصح أن سوريا دولة لها عمق إقليمي حقيقي، وان نظامها السياسي كان بالغ التركز والتكوين كعضو ولاعب في هذه المعادلة، وهو الذي حرص دوما على تمتين شرعيته السياسية على أساس ذلك التشابك.
بحيث كان لفترات طويلة، أهم حامل سياسي لكسبه الشرعية من الداخل.
وربما كان ذلك بالضبط، هو السبب المركزي لجفاف علاقته بالداخل وعدم مراهنته على أخذ شرعية مناسبة من قوى مجتمعه الداخلية، فطالما ثمة تغطية إقليمية لسنّد شرعيته، فلا مشكلة لو كان الداخل بغير ذلك الدفء والاهتمام.
لكن الذي لا يطاق، معرفة وحسا، أن تمحى جملة الظروف والمناخات والأحداث التي تدفع بالمجتمع السوري للثورة ضد منظومته الحاكمة، واعتبار كل القضية السورية، انعكاسا لتشابكات النظام الإقليمية ونتيجة لها.
لا يطاق ذلك، لأنه من حيث المبدأ، يلغي هذا المجتمع السوري، يلغي بعمق آلامه وأحلامه، وبذلك يلغي مستوى وعيه التاريخي وتموضعه السياسي وقدرته على الاختيار والتبني والتطور.
بذلك، يغدوا السوريون بشرا غير راشدين، راضين مستكينين لأحوالهم وظروفهم، بشر ينبذون ذواتهم للدفاع عن قضايا الإقليم الكبرى، بوعي «تاريخي» بالغ، لكنهم بالمقابل من دون ملامح ورغبات ورؤية لتحديد موقفهم من آلية وطبيعة السلطة في بلادهم، وكذلك البقاء من دون رشد لتكوين مصيرهم الذاتي.
تلك «الأقلمة» لا تطاق، لأنها تمارس عدمية أخلاقية في قراءة تاريخ وطبيعة النظام السياسي في البلاد، منذ أربعة عقود وأكثر.
فهي تقفز عن تلك الطبيعة، تقفز عن فسادها هذا وعنفها المحض الذي مارسته ضد المجتمع السوري الأعزل والمسالم.
الأمر الذي جرف المستويات المجتمعية في كافة المناحي المكونة للوحة السورية المترهلة.
فالمستويات المتدنية في مجالات التعليم والاقتصاد والصحة والحريات العامة والانتظام المدني والمؤسسات الثقافية، وكذلك تشوه العمران والفساد المالي والنهب المنظم والرعب الأمني….
والخ من غابة المظالم والارتكابات، لا تلاقي من يراها في تلك الأقلمة، وكأنها ممارسات طبيعية وبديهية بحق السوريين ومستقبلهم.
لكن الأفظع، ان تلك الأقلمة تمارس انقلاباً مقصودا لموقعي القوي والضعيف في المعادلة الأساسية، ذلكم الموقعين اللذين يعتبران مصدراً للخيارات الأخلاقية الطبيعية.
ففي حين أن الأساس هو ان نظاما يتمتع بقوة مادية محضة، يواجه شعبا مسالما وضعيفا في قوته المادية، وعليه ينبغي الاصطفاف مع الجناح الأضعف أو يجب أن يكون هو جوهر الخيار الأخلاقي والثقافي.
فأن ذلك التحوير نحو الأقلمة، يحول ويصور النظام الحاكم كطرف مستضعف ومعتدى عليه، مقابل نظام دولي وإقليمي أضخم وأقوى منه.
هذا التبديل في موقعي القوة والضعف، يشكل مناسبة لتكوين خطاب النظام ومسانديه لقمع معارضيه وتغطية ارتكاباته المتراكمة لكافة المعايير والأعراف.
ومن جملة ما ينتج عن ذلك التحوير، هو حجز موقع وقضية ما للنظام الحاكم.
فالنظام بشكله ومنهجه وسلوكياته، التي مارسها ويمارسها، وخصوصا في العقد الاخير من تاريخه، كان يبدو بشكل جلي كمؤسسة وفاعل بلا قضية (قول شهير لياسين الحاج صالح)، فقد كان يبدو وجوده وتسلطه كقضية وحيدة يسعى لتثبيتها والعمل من أجلها، لذا كان يبدو عاريا في خطاباته وممارساته.
لكن من شأن تحويله إلى كائن ولاعب إقليمي مستهدف ومطلوب في الشروط التاريخية الراهنة، أن يخلق له جملة من القضايا التي تظهره كمدافع عنها، وهي الممتدة من الحقوق العادلة لأمة المعذبين الفلسطينيين، إلى حام وطيد في محور «المقاومة»، مرورا بالمساحات البائسة للصراع المذهبي والطائفي التي تعلو سمات شؤون كثيرة في بلدان منطقتنا.
يبقى أن أعمق الأدوار التي تؤديها الأقلمة، هو تعقيد المسألة السورية في جملة المعادلات السياسية الإقليمية، وبذلك تسهيل لتضييعها.
فينما المسألة السورية باختصار وسهولة هي مسألة طبقة ونظام وايديولوجيا حاكمة، متحكمة، فقدتْ حيويتها وقدرتها التاريخية على إدارة وضبط شؤون الدولة والمجتمع السوري، بفعل التقادم والتطور التاريخي للمجتمع السوري وحركة التاريخ بالعموم، مع ترهل النظام وانفضاحه واهترائه، ولذا يجب أن يزول ببساطة، ليتسنى لمجموع المجتمع السوري أن يبني حاكمية جديدة على أسس ورؤى أكثر حداثة.
وهو أمر يبدو عاديا وبسيطا وطبيعيا في رؤية التاريخ والتجارب الحديثة للدول العربية والإقليمية المجاورة.
لكن الأقلمة تضع هذه المعادلة البسيطة في غمامة من القضايا والتشابكات والتحالفات والبرامج التي تمتد من قضايا إقليمية تخص الأقليات والأديان والمذاهب والدول والحدود، ولا تنتهي بقضايا الطاقة النووية والأمن الاستراتيجي ومعدلات العنف التي يمكن أن تتفاقم لو سقط هذا النظام.
وهو أمر بالغ التأثير على مستوى وعي السوريين وثقتهم بقضيتهم الطبيعية البسيطة والعادية.
فموجة التفاؤل والثقة، أو قل الإيمان بحتمية التغيير ما تلبس أن تنحدر، حينما تندرج المسألة السورية كأجندة إقليمية ضمن الأجندة الاخرى، لأنها تبدو معقدة وبالغة الصعوبة على الإدراك البسيط.
الأقلمة مقصودة في الحالة السورية، لأن جملة الدافعين باتجاهها يبدون من طرف واحد في المسألة، ويظهرون كممارسين لفعل واع في نشرها وتثبيتها وتأكيدها في شتى المحافل، لأن هذه الأقلمة تبدو كشحنة معنوية، أو كبستان يمكن الجني منه، بينما جفت ثمار النظام الحاكم في البساتين الداخلية كلها.
المسألة السورية، مسألة السوريين أولا، لذا هي قضية داخلية أولاً، صنعها السوريون في فترات تاريخية متراكمة من ألامهم وأمالهم، وليس لأحد عادل أن يسلبهم تراكم ألامهم وأملهم تلك، وبأية صيغة كانت.
لمستقبل – الاحد 13 تشرين الثاني 2011 – العدد 4172 – نوافذ – صفحة 10
بحيث كان لفترات طويلة، أهم حامل سياسي لكسبه الشرعية من الداخل.
وربما كان ذلك بالضبط، هو السبب المركزي لجفاف علاقته بالداخل وعدم مراهنته على أخذ شرعية مناسبة من قوى مجتمعه الداخلية، فطالما ثمة تغطية إقليمية لسنّد شرعيته، فلا مشكلة لو كان الداخل بغير ذلك الدفء والاهتمام.
لكن الذي لا يطاق، معرفة وحسا، أن تمحى جملة الظروف والمناخات والأحداث التي تدفع بالمجتمع السوري للثورة ضد منظومته الحاكمة، واعتبار كل القضية السورية، انعكاسا لتشابكات النظام الإقليمية ونتيجة لها.
لا يطاق ذلك، لأنه من حيث المبدأ، يلغي هذا المجتمع السوري، يلغي بعمق آلامه وأحلامه، وبذلك يلغي مستوى وعيه التاريخي وتموضعه السياسي وقدرته على الاختيار والتبني والتطور.
بذلك، يغدوا السوريون بشرا غير راشدين، راضين مستكينين لأحوالهم وظروفهم، بشر ينبذون ذواتهم للدفاع عن قضايا الإقليم الكبرى، بوعي «تاريخي» بالغ، لكنهم بالمقابل من دون ملامح ورغبات ورؤية لتحديد موقفهم من آلية وطبيعة السلطة في بلادهم، وكذلك البقاء من دون رشد لتكوين مصيرهم الذاتي.
تلك «الأقلمة» لا تطاق، لأنها تمارس عدمية أخلاقية في قراءة تاريخ وطبيعة النظام السياسي في البلاد، منذ أربعة عقود وأكثر.
فهي تقفز عن تلك الطبيعة، تقفز عن فسادها هذا وعنفها المحض الذي مارسته ضد المجتمع السوري الأعزل والمسالم.
الأمر الذي جرف المستويات المجتمعية في كافة المناحي المكونة للوحة السورية المترهلة.
فالمستويات المتدنية في مجالات التعليم والاقتصاد والصحة والحريات العامة والانتظام المدني والمؤسسات الثقافية، وكذلك تشوه العمران والفساد المالي والنهب المنظم والرعب الأمني….
والخ من غابة المظالم والارتكابات، لا تلاقي من يراها في تلك الأقلمة، وكأنها ممارسات طبيعية وبديهية بحق السوريين ومستقبلهم.
لكن الأفظع، ان تلك الأقلمة تمارس انقلاباً مقصودا لموقعي القوي والضعيف في المعادلة الأساسية، ذلكم الموقعين اللذين يعتبران مصدراً للخيارات الأخلاقية الطبيعية.
ففي حين أن الأساس هو ان نظاما يتمتع بقوة مادية محضة، يواجه شعبا مسالما وضعيفا في قوته المادية، وعليه ينبغي الاصطفاف مع الجناح الأضعف أو يجب أن يكون هو جوهر الخيار الأخلاقي والثقافي.
فأن ذلك التحوير نحو الأقلمة، يحول ويصور النظام الحاكم كطرف مستضعف ومعتدى عليه، مقابل نظام دولي وإقليمي أضخم وأقوى منه.
هذا التبديل في موقعي القوة والضعف، يشكل مناسبة لتكوين خطاب النظام ومسانديه لقمع معارضيه وتغطية ارتكاباته المتراكمة لكافة المعايير والأعراف.
ومن جملة ما ينتج عن ذلك التحوير، هو حجز موقع وقضية ما للنظام الحاكم.
فالنظام بشكله ومنهجه وسلوكياته، التي مارسها ويمارسها، وخصوصا في العقد الاخير من تاريخه، كان يبدو بشكل جلي كمؤسسة وفاعل بلا قضية (قول شهير لياسين الحاج صالح)، فقد كان يبدو وجوده وتسلطه كقضية وحيدة يسعى لتثبيتها والعمل من أجلها، لذا كان يبدو عاريا في خطاباته وممارساته.
لكن من شأن تحويله إلى كائن ولاعب إقليمي مستهدف ومطلوب في الشروط التاريخية الراهنة، أن يخلق له جملة من القضايا التي تظهره كمدافع عنها، وهي الممتدة من الحقوق العادلة لأمة المعذبين الفلسطينيين، إلى حام وطيد في محور «المقاومة»، مرورا بالمساحات البائسة للصراع المذهبي والطائفي التي تعلو سمات شؤون كثيرة في بلدان منطقتنا.
يبقى أن أعمق الأدوار التي تؤديها الأقلمة، هو تعقيد المسألة السورية في جملة المعادلات السياسية الإقليمية، وبذلك تسهيل لتضييعها.
فينما المسألة السورية باختصار وسهولة هي مسألة طبقة ونظام وايديولوجيا حاكمة، متحكمة، فقدتْ حيويتها وقدرتها التاريخية على إدارة وضبط شؤون الدولة والمجتمع السوري، بفعل التقادم والتطور التاريخي للمجتمع السوري وحركة التاريخ بالعموم، مع ترهل النظام وانفضاحه واهترائه، ولذا يجب أن يزول ببساطة، ليتسنى لمجموع المجتمع السوري أن يبني حاكمية جديدة على أسس ورؤى أكثر حداثة.
وهو أمر يبدو عاديا وبسيطا وطبيعيا في رؤية التاريخ والتجارب الحديثة للدول العربية والإقليمية المجاورة.
لكن الأقلمة تضع هذه المعادلة البسيطة في غمامة من القضايا والتشابكات والتحالفات والبرامج التي تمتد من قضايا إقليمية تخص الأقليات والأديان والمذاهب والدول والحدود، ولا تنتهي بقضايا الطاقة النووية والأمن الاستراتيجي ومعدلات العنف التي يمكن أن تتفاقم لو سقط هذا النظام.
وهو أمر بالغ التأثير على مستوى وعي السوريين وثقتهم بقضيتهم الطبيعية البسيطة والعادية.
فموجة التفاؤل والثقة، أو قل الإيمان بحتمية التغيير ما تلبس أن تنحدر، حينما تندرج المسألة السورية كأجندة إقليمية ضمن الأجندة الاخرى، لأنها تبدو معقدة وبالغة الصعوبة على الإدراك البسيط.
الأقلمة مقصودة في الحالة السورية، لأن جملة الدافعين باتجاهها يبدون من طرف واحد في المسألة، ويظهرون كممارسين لفعل واع في نشرها وتثبيتها وتأكيدها في شتى المحافل، لأن هذه الأقلمة تبدو كشحنة معنوية، أو كبستان يمكن الجني منه، بينما جفت ثمار النظام الحاكم في البساتين الداخلية كلها.
المسألة السورية، مسألة السوريين أولا، لذا هي قضية داخلية أولاً، صنعها السوريون في فترات تاريخية متراكمة من ألامهم وأمالهم، وليس لأحد عادل أن يسلبهم تراكم ألامهم وأملهم تلك، وبأية صيغة كانت.
لمستقبل – الاحد 13 تشرين الثاني 2011 – العدد 4172 – نوافذ – صفحة 10