منذ بدأ الثورة السورية انقلب النظام على ماضيه القريب مرةً أُخرى، فبعد أن كان يستفرد بالأقليات و يسعى إلى صهرها بالقوة، عاد ليرفع شعار حماية الأقليات و منحها بعض الهوامش، فغض الطرف عن بعض تجاوزاتها على حدوده نتيجة خطر الوجود الذي يتهدده، سمح للبعض بالتظاهر ضمن دوائر محددة، قام بإطلاق سراح الكثيرين و من ضمنهم أعضاءٌ في حزب الإتحاد الديمقراطي، و سمح لأعضائه بالعودة من خارج البلاد بعد أن أسقط تهمه عنهم.
كان من ضمن العائدين رئيس حزب الإتحاد الديمقراطي، الملاحق سابقاً من النظام السوري، و الذي أعلن في ندوة علنية في الهواء الطلق أن عودته كانت في حماية الشعب.
هل كان هذا الكلام موجهٌ إلى قومٍ يعقِلون؟ ألا يتعرض الشعب السوري منذ ثمانية أشهر إلى مجازر حقيقية و هو عاجزٌ عن حماية نفسه؟ فكيف يقوم هذا الشب الفاقد لهذه القدرة بإعطائها لغيره؟ لم أفهم للأسف آلية (الحماية الشعبية) التي يتمتع بها رئيس الحزب حتى يتم تعميمها لحماية الشعب السوري.
نعم، تقلقني أجوبة هذا الحزب و رئيسه، فهو كلما حاول أن يلغي بها إشارات الاستفهام المثارة حوله كلما فتح أبواب القلق على مصراعيها و مرر عبرها أسئلة أكثر تقود إلى مجهولٍ أكبر.
و كلما طرح تبريراته، و كشف الستار عن وقائعه، كلما تكشف أنه يسير على رمال الشك، التي تجعلنا نغوص أكثر في بحور القلق.
تبدو أجوبة هذا الحزب ذرائع يبحث عنها النظام السوري في السماء، فيقدمها هذا له على الأرض، و على طبقٍ من ذهب، اليوم يقول رئيسه أنه كان قد دخل إلى سوريا برفقة بعض المسلحين بعد أن كان يقول أنه دخل بحماية الشعب، لماذا المسلحين و النظام السوري يبني روايته على وجود عصابات مسلحة؟ ما حاجة القامشلي و كوباني و عفرين و سوريا للمسلحين و الثورة السورية سلمية في الأساس؟ هل ستتحول المنطقة إلى ساحة لتصفية الحسابات مع الخصوم المحليين و مع تركيا في مرحلة لاحقة؟ هل هي دعوة للأحزاب الأخرى للتسلح و لبننة المنطقة ليتدخل فيها النظام عسكرياً؟ ألم يعد مجدياً التصدي الجسدي للناس و منعهم من الخروج للتظاهر و تخريب التظاهرات، و سلاح المسلحين ليس سوى تصعيداً للضغط في هذا الإتجاه؟ تقودنا هذ الأسئلة إلى أخرى لا تقل أهميةً عن التهديدات التي كان الشهيد مشعل تمو يتعرض لها، ترى ما هو المدى الذي بلغته تلك التهديدات، و ماذا عن حالة واحدة على الأقل من الضرب المبرح الذي تعرض له ناشطين كرديين في الدرباسية و أتهما الحزب بالوقوف وراءه؟
الثورة السورية تتقدم، وقودها في ذلك الدموع و الدماء، لكن حزب الإتحاد الديمقراطي يبدو منهمكاً في الاستيلاء على الغنائم و خلق وقائع على الأرض لا تتناسب مع حجمه، و لا تتناسب ـ و هو الأهم ـ مع موقعه على خريطة الثورة السورية.
فاللغة الكردية كمثال يشغل الحزب نفسه بها، تبدو اليوم و على أهميتها أبعد ما تكون عن الخطر، فقد تم الحفاظ عليها في ذروة محاولات الصهر القومي، لكن الحزب جعلها جبهته العريضة التي يوجه أنصاره للالتحاق بها، رغم أن معركة اللغة تعتبر هامشية بالمقارنة مع معركة الوجود التي يخوضها الشعب السوري.
لكن معركة الحزب اللغوية هذه تشكل جزءاً من هدفه لتحقيق الإدارة الذاتية، التي هي كجماهيرية القذافي مفهومٌ عائم غير واضح المعالم لا يشبهه شئ في القانون الدولي.
كثرت الوقائع التي تظهر الحزب في موقع من يقوم بوضع العصي في عجلات الحراك الشعبي، كان المؤتمر الوطني الكردي فرصةً لفهم الآلية التي يتبعها لإفراغ الجهود من محتواها و بالتالي إفشال انعقاد المؤتمر، فكلما تجاوزت اللجنة التحضيرية إحدى العقبات التي يضعها الحزب كلما فجر عقباتٍ أخرى، أخيراً أنعقد المؤتمر، بعد أن يأس القائمين على شؤونه من نهاية طلبات هؤلاء، ليكونوا بذلك من الخارجين على إجماع الحد الأدنى.
آخر ما وصلنا من تصريحات رئيس الحزب هي أنه نصب من نفسه قاضياً ليتهم المجلس الوطني بالخيانة، و ليتهم من يخالفه الرأي بالعمالة للأتراك.
ليس من الواضح الجهة التي خانها المجلس الوطني السوري الذي يقول المتظاهرون أنه يمثلهم، و أهدوه بهذا المعنى جمعةً عمدوها بدمائهم، و هنا يقودنا حديث الخيانة إلى الخيوط الخفية التي بدأت تتكشف و هي توصل هيئة التنسيق الوطني ـ الذي يعتبر الحزب أحد أركانها ـ إلى حيث لا ترتضاه الثورة السورية.
يعمل حزب الإتحاد الديمقراطي و كما نسمع من كثير من أنصاره بالإستراتيجية القائمة على أن (عدو عدوي صديقي)، حتى لو هذا الصديق أشد شراً من عدوي المباشر.
وإذا كان النظام السوري الذي يقتل السوريين قد تحول بهذا المفهوم، بين ليلةٍ و ضحاها إلى صديق، ألا يعطي ذلك الذريعة للآخرين في اعتبار عدو عدوهم الذي هو النظام السوري، صديقاً لهم أيضاً، و لماذا ستعتبر هذه الحالة الافتراضية خيانةً و الأولى وطنيةً و ثورية و بطولة.
في الحقيقة لا تنتهي رحلة القلق مع حزب الإتحاد الديمقراطي، لا تنتهي الأسئلة التي تثيرها أجوبته، إذ أن كلٍّ منها يفتحُ باباً لمتاهة جديدة، نتمنى على الأقل أن يكون محتفظاً بمفاتيحها في جيوبه.