كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الخامسة والعشرون (جلال منلا علي*)

عشرون سنة مضت، وشعبنا الكردي في سوريا يستذكر انتفاضته المجيدة، التي هبّت في 12 آذار 2004م، على امتداد الجغرافيا الكردية من مناطق وتواجدٍ في سوريا، مروراً بكوباني وعفرين، بما فيها العاصمة دمشق ومدينة حلب، حيث استمرّت لأسبوعٍ واحدٍ، راح ضحيتها حوالي ٤٠ شهيداً، ومئات الجرحى، واعتقال وملاحقة الآلاف من النشطاء الكرد.

وبحكم مشاهداتي ومتابعتي ليوميات الانتفاضة، وخاصةً في حلب وعفرين، فقد كانت انتفاضة 12 آذار شعبيةً صرفةً، بدأت شرارتها في الملعب الرياضي، إلا أنّ شعلتها اتّقدت في الوعي الجماهيري، حيث كانت الأولى من نوعها وحجمها، التي أتتْ كردّ فعلٍ تراكميٍّ، على سياسات النظام السّوريّ الشوفينية، وممارساته القمعية والتمييزية، لعقودٍ من الزمن، كسياسة الصهر القومي، والتجاهل، والتهميش، بحق أبناء شعبنا الكرديّ، بما في ذلك اللجوء إلى سياسات الإنكار لوجوده، كثاني قوميةٍ في البلاد، والتغاضي عن حقوقه القومية، والوطنية المشروعة، واتباع سياسات الإفقار، ونهب خيرات الكرد، من دون بناء أيّ مشاريعَ إنمائيةٍ واقتصاديةٍ وخدميةٍ لهم؛ دفعاً لهجرة آلاف العوائل، والأسر الفقيرة، وخاصة فئة الشباب.

ولم تكن الانتفاضة فتنةً كرديةَ- عربيةً، كما صوّرها النظام، عبر التضليل الإعلامي، أو كما حاول أنْ يظهرها، من خلال أدواتها القمعية ، بل كانت مواجهةً بين النظام المستبدّ والشعب الكرديّ، حيث أسقط المنتفضون ولأول مرةٍ، صنم المقبور حافظ الأسد في عامودا، كحدثٍ يعدّ الأول من نوعه في سوريا يُسجَّل للكرد. وبالإضافة إلى هذه الأسباب، فإنّ الانتفاضة الكردية أتتْ كانعكاسٍ طبيعيٍّ للأوضاع المستجدة في كردستان العراق، ولهذه الأسباب مجتمعة، اندلعت شرارة الانتفاضة في جميع المناطق الكردية، ومن دون استثناءٍ، وشكّلت علامةً فارقةً في التاريخ النضاليّ الكرديّ في سوريا.

– الانتفاضة ويوميات القيادات الكردية:

حينما اندلعت الانتفاضة في جميع المناطق، كان للجماهير المنتفضة السبق في توحيد صفوفها، وتقدّم القواعد الحزبية على القيادات، منذ اللحظة الأولى، حيث تموضعتْ القيادات الكردية في الخطوط الخلفية، وأحياناً على رصيف الحراك الشعبي، وبعد سنواتٍ من العجز والضياع، وجدت ضالّتها في التوابع والهوامش، متعايشة ومتآلفة مع كلّ هزيمةٍ وانكسارٍ، حتى بلغ بها الأمر حدّ التماهي مع النظام، والإذعان له في وأد الحراك الشعبيّ، حيث جرّدت الأحزاب الكردية النظام من مسؤولياته، وعن ممارساته العنفية، بما فيها جرائم القتل والتنكيل، والملاحقة والاعتقال، واكتفت باتهام بعض المسؤولين المحليين بتلك الممارسات، كما أذعنتْ قيادة مجموع الأحزاب الكردية، لتوجيهات السلطات المحلية، واللجنة الأمنية المكلّفة من دمشق، بعد المشاركة فيها يوم 13 آذار، وطالبت بلجنةٍ لتقصّي الحقائق تكون محايدة؛ للكشف عن مسبّبي الحوادث المؤلمة في قامشلي، وارتأت أنْ تكون بإشراف القصر الجمهوريّ، وأخلصت لوعودها مع السلطات في وأد الحراك الجماهيريّ، وتجنّبت المشاركة في الانتفاضة الشعبية، بما فيها تشييع ودفن جثامين الشهداء، وأكثر من هذا طالبت الجماهير المنتفضة، بعدم مسّ صور (الرئيس)، في نداءٍ لها، من بعد إسقاط صنم الأسد أرضاً.. كما وأشارت القيادات الحزبية، بجلاءٍ ووضوحٍ، في البيانات الصادرة، عن محاولاتها في تهدئة الشارع المنتفض، ولجم حراكه، وهي تطرق بذلك مسامع السلطات الأمنية مستجيبةّ لدعوات المسؤولين.

ومن جهةٍ أخرى، وفي ذات السياق، فقد وصف القياديّ البارز في منظومة حزب العمال الكردستانيّ (مراد قره يلان) الانتفاضة بالمؤامرة، ودسيسة من قبل بعض الأطراف من داخل النظام السّوريّ، بهدف الإيقاع بين عائلة الأسد والشعب الكرديّ، وإضرام نار الفتنة بينهما، وأنّ هؤلاء كانوا متخوّفين من التحالف (الكرديّ- العلوي)، في إشارةٍ منه على تضامنه مع العائلة الحاكمة ورمز النظام..!؟.

عفرين في قلب الحدث:

على الرغم من إطلاق تسمية (انتفاضة قامشلو) على انتفاضة الكرد، إلّا أنّ عفرين وحلب، كانتا في قلب الحدث، كغيرهما من المناطق الثائرة، بل وتصدّرتا المشهد خلال أيام الانتفاضة، بفعل عنفوان وانخراط شباب (جيايي كورمينج)، في الاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية، أمام مبنى سراي عفرين، وطريق راجو، والعديد من الأحياء، كالأشرفية، والشيخ مقصود، وساحة الجامعة في حلب.

وفي هذه الأثناء، كنتُ على تواصلٍ مع الشهيد مشعل التمو في قامشلو، والذي تكلّل بزيارته لي في حلب؛ لتفقّد الأوضاع، حيث كنّا معاً في إحدى الاحتجاجات الحاشدة في الأشرفية، عند نقطة (فرن الذرة)، وقام بتصوير الحشد أثناء تدخّل القوات الأمنية، بالعصي والهراوات، وإطلاق الرصاص الحيّ، والغازات المسيلة للدموع؛ لتفريق المتظاهرين.

كما ولا بدّ لي في هذا السياق، من الإشارة إلى الحشد الجماهيري، المرافق لجنازة الشهيد الشاب (آري فوزي دلو- 15 عاماً)، من حلب إلى قريته (قورت قولاق) في عفرين، والكلمة التأبينية التي ألقاها الشاعر والكاتب روني علي، في جموع المحتشدين، بمقبرة القرية.

حيث تكرّرت هذه الصورة، في العديد من المواقع، أثناء دفن الشهداء، البالغ عددهم سبعة، من بينهم سيدةٌ متزوجةٌ، وتدعى (فريدة رشيد أحمد- 36 عاماً)، من قرية جولاقا، والتي استشهدت بطلقٍ ناريٍّ في حي الشيخ مقصود بحلب، وكذلك استشهاد الشاب اليافع (جلال كمال موسى- 14 عاماً)، والشاب (غيفارا حميد مصطفى- 18 عاماً)، أمام شعبة الأمن السياسي في عفرين، واستشهاد حسين نعسو في قسم أمن الدولة في عفرين، بعد قضاء ستة أيامٍ تحت التعذيب، بالإضافة إلى الشهيد (إبراهيم محمد صبري- 24 عاماً) من قرية بعدينا. ولم تكتفِ القوات الأمنية بهذا القدر من التّعسّف، والقتل بدمٍ باردٍ، حيث بادرت مباشرةً، من بعد هدوء العاصفة، إلى ملاحقة النشطاء، واعتقالهم بصورٍ وحشيةٍ، حيث بلغ عدد المعتقلين أكثر من ألف شخصّ، زُجّوا بالمعتقلات وأقبية التعذيب لمددٍ مختلفةٍ.

الدروس والحقائق:

بعد ما لقّنت الجماهير الكردية، في مختلف مناطقها، وتواجدها، النظام السّوريّ، ولاسيّما أجهزتها الأمنية، دروساً في البطولة والتّصدّي لمخطّطاته، وآلته القمعية، كان من المفترض والواجب، درس تجربة الانتفاضة، من قبل كلّ الفعاليات السياسية، والثقافية، والفكرية، والاجتماعية، للشعب الكردي في سوريا، وذلك بتجسيد معانيها، وأخذ العبر منها، للصالح القوميّ الكرديّ، والوطنيّ العام، بهدف تجذير القضية القومية، وردّ الاعتبار إليها بشيءٍ من الاستقلالية في القرار، وباحترام خصوصية الشعب الكرديّ في الجزء الغربيّ من كردستان، من خلال الحقائق الآتية:

  • حطّمتِ الانتفاضة حواجز الخوف، وحرّرت الإرادة الشعبية الكردية، من هيمنة السلطات القمعية، وسطوة القيادات الحزبية، وذلك بالاستجابة الطوعية والسريعة، للوحدة والاتحاد، وتلاقي الصفوف، في شتّى المناطق، بوحدة الخطاب والساحات.
  • الكشف عن المخزون النضاليّ للجماهير الكردية، وقدرتها على التّحدّي والعطاء، من غير حدودٍ، باعتباره السند الصحيح، والمرجع الأساسي، للحركة السياسية الكردية في سوريا.
  • تبوّأ الشباب الكردي الصفوف الأمامية، بقيادة الانتفاضة الشعبية، في ظلّ تراجع القيادات الحزبية، نحو الخلف، بعدما كشفت حالة العجز السياسي، والانقسام الحزبي، لمجموع الأحزاب الكردية، وارتباطات بعضٍ منها بالسلطات الأمنية.
  • تعرية السياسات الشوفينية، والممارسات العنصرية، للنظام السّوريّ، بالتأكيد على الأبعاد الوطنية والديمقراطية والإنسانية، للمسألة القومية الكردية في سوريا، وضرورة حلها، كأولويةٍ وطنيةٍ، وحاجةٍ أساسيةٍ للشعب الكرديّ، وفق مرتكزات، وأسس العيش المشترك، بعيداً عن الحلول الأمنية والقمعية.
  • نقلت الانتفاضة المسألة الكردية في سوريا، إلى فضاءٍ أوسع، شمل الساحات الداخلية والخارجية، بأبعادها وجوانبها المختلفة.
  • أثبتت الانتفاضة قدرة الحركة السياسية الكردية على إدارة نفسها، من دون تدخّلٍ خارجيٍّ في شؤونها الخاصة، بعيداً عن سلوكيات الوصاية والإملاءات.

وفي الختام.. لا بدّ من إلقاء تحية تقديرٍ واحترامٍ لكلّ من ساهم وشارك في الانتفاضة (الآذارية) المجيدة.. والمجد والخلود للشهداء الأبرار.

 

* قيادي  سياسي سابق

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…