رحلة العودة من سوريا إلى بلاد – قسد

أزاد فتحي خليل

 

لم يكن قرار العودة إلى سوريا بعد سنوات من المنفى السياسي في السويد مجرد رغبة في رؤية ما يجري عن قرب، بل كان استجابة طبيعية لنداء الوطن الذي يعيش مخاضًا جديدًا بعد أربعة عشر عامًا من الحرب والصراعات الدموية. كان المشهد الدولي والإقليمي متغيرًا، فبعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة والهدنة الهشة بين حزب الله وإسرائيل، فاجأت عملية عسكرية باغتة العالم. قادها أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، تحت مسمى “عملية ردع العدوان”، مستغلًا انهيار بنية النظام السوري العسكرية المنهكة.

طريق العودة… محطة في إقليم كردستان

انطلقت رحلتي من السويد، حيث اجتمعت مع مجموعة من الشباب السوريين في مالمو، وكلنا يحمل حلم العودة إلى الوطن لنشهد التحولات المتسارعة عن كثب. عبرنا إلى أربيل في إقليم كردستان العراق، وكانت المفاجأة الأولى: ذلك الإحساس الدافئ الذي يشبه مدن الجزيرة السورية، وكأننا عبرنا الزمن وعدنا إلى مدننا التي تركناها خلفنا.

خلال أيامنا القليلة هناك، التقينا مستشارًا مقربًا من الرئيس مسعود البارزاني، الذي أثنى على تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، معتبرًا أنها نموذج يمكن البناء عليه لمستقبل سوريا. كان حديثًا يحمل في طياته إشارات سياسية واضحة إلى أهمية الإدارة الذاتية في أي ترتيبات قادمة.

عبور الحدود نحو سوريا الجديدة

مع بزوغ شمس يوم جديد، توجهنا إلى معبر سيمالكا، حيث اصطف المئات من السوريين العائدين، بعضهم يحمل الحنين، وبعضهم يهرب من يأس اللجوء، والبعض الآخر يبحث عن فرصة للمشاركة في إعادة بناء ما دمرته الحرب. الإجراءات الحدودية كانت مرهقة بسبب الأعداد الكبيرة، لكن ما إن عبرنا الجسر المتحرك الذي يفصل إقليم كردستان العراق عن روجافا، حتى تبدل الإحساس، وكأننا عبرنا إلى عالم آخر.

في المعبر، استقبلنا مسؤولون من دائرة العلاقات الخارجية للإدارة الذاتية، بينهم شاب يدعى شيندار، من مدينة القامشلي. شاب في مقتبل العمر، لكنه يحمل مسؤولية تفوق سنوات عمره. بعد استقبال حافل في غرفة رئيس المعبر، تم إنهاء الإجراءات، وانطلقنا إلى بيت الضيافة في عامودا، حيث سنبدأ جولتنا السياسية على مؤسسات الإدارة الذاتية.

بين فرحة العودة وألم الواقع

في عامودا، شعرت أنني بين أهلي وناسي، لكن مشهد الحياة اليومية لم يكن خاليًا من الألم. رغم الحصار الاقتصادي والقصف التركي المتكرر، كان الناس يبتسمون. أطفال يلعبون، وشباب يناقشون المستقبل، وكبار السن يروون قصص الصمود. كان هناك جنود بعمر الورد يحملون الكلاشينكوف، ليس فقط لحمايتنا، بل لحماية أنفسهم من أي خطر، فقدوم عهد جديد في سوريا لا يعني أن الإرهاب انتهى.

الرقة: من عاصمة لداعش إلى مركز للحياة

في الصباح الباكر، توجهنا إلى الرقة، المدينة التي كانت حتى وقت قريب عاصمة للإرهاب في سوريا، لكنها اليوم تحولت إلى قلب سياسي واقتصادي للإدارة الذاتية. في الطريق، كنت أنظر من النافذة إلى الناس، أرى فيهم إرادة الحياة رغم الفقر والصعوبات. في كل وجه كنت أراه، لمحت جنديًا غير مسلح يحارب من أجل البقاء.

في مقر الرئاسة التنفيذية للإدارة الذاتية في الرقة، كان لنا اجتماع مع الرئيس المشترك، حيث ناقشنا سبل إعادة الإعمار، وتحسين الخدمات، وبناء نموذج ديمقراطي يليق بالسوريين. لم تكن النقاشات خالية من الاختلافات في وجهات النظر، لكن المشترك بيننا كان أكبر: سوريا التي نحلم بها جميعًا.

بعد ذلك، التقينا قيادة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، حيث استقبلنا حسن محمد علي وبيريفان خالد. قدم لنا حسن محمد علي تحليلًا دقيقًا للوضع السياسي الراهن، محذرًا من التحديات المقبلة، لكن بروح متفائلة بأن المشروع السياسي للإدارة الذاتية يمكن أن يكون ركيزة في مستقبل سوريا.

الرقة تنهض من تحت الركام

بعد الاجتماعات، جلت في شوارع الرقة. هنا، حيث كان دوار النعيم شاهدًا على جرائم داعش، عادت الحياة إليه. الأسواق تعج بالناس، المحلات التجارية تنبض بالحركة، والمطاعم والمقاهي ممتلئة بالزوار. إنه مشهد سوري بامتياز: إرادة لا تموت، رغم الحروب والحصار.

أدركت حينها أن السوريين لا ينتظرون أحدًا لينقذهم، إنهم يصنعون مستقبلهم بأيديهم، حجارة فوق حجارة، وفكرة تلو الأخرى. الإدارات المحلية، رغم كل التحديات، تحاول خلق نموذج حكم مختلف، والسكان يواصلون حياتهم، رغم القصف التركي، رغم العقوبات، ورغم شبح عودة الفوضى الأمنية.

ما بين الغربة والوطن… أيهما المنفى؟

في تلك الليلة، جلست أفكر: هل كانت الغربة في السويد منفى؟ أم أن المنفى الحقيقي هو أن تعيش بعيدًا عن وطنك بينما يتشكل مستقبله دونك؟ في أوروبا، كنت محاطًا بالبيروقراطية والروتين القاتل، بينما في سوريا، رغم كل المصاعب، كانت الحياة نابضة بالحركة.

الفرق كان واضحًا: في الغربة، كنت مجرد رقم في نظام إداري بارد، بينما هنا، كنت إنسانًا وسط أناس يصنعون تاريخهم بأيديهم.

ختام الرحلة… وبداية الحكاية

لم تكن هذه الرحلة مجرد زيارة سياسية، بل كانت إعادة اكتشاف لمعنى الوطن. سوريا التي رأيتها لم تكن مثالية، لكنها كانت حقيقية. شعبها يتحدى كل شيء ليعيش بكرامة. رأيت إرادة لا تهزم، ورأيت أيضًا حجم التحديات.

لكن الشيء الوحيد الذي بقي معي بعد الرحلة هو هذا الشعور العميق بأن السوريين، مهما اختلفت مشاربهم، يريدون بلدًا يتسع للجميع. والتاريخ لن ينتظر المترددين.

 

*كاتب وباحث سياسي 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   يا سوريا، يا رعشة التاريخ حين يختلج على شَفَة المصير، ويا لُغزَ الهوية حين تُذبح على مذبح الشرعية، ما بين سراديب القهر وأعمدة الطموح المتداعية. أنتي ليستِ وطناً فقط، بل أسطورةٌ تمشي على أطرافِ الجراح، تهمس للحاضر بلغةٍ من دمٍ، وتُنادي المستقبل بنداءٍ مختنقٍ بين الركام. أيُّ قدرٍ هذا الذي يجعل من أرض العقيق محرابًا للدم، ومن…

نتابع، في الشبكة الكردية لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، بقلق بالغ تصاعد حالات اختطاف الأطفال القُصَّر، خاصة الفتيات، من قبل ما تُسمى بـ”منظمة جوانين شورشكر” أو “الشبيبة الثورية”. حيث يُنتزع هؤلاء الأطفال من أحضان عائلاتهم ويُخفَون في أماكن مجهولة، دون تقديم أية معلومات لأسرهم عن مصيرهم. لقد حصلنا على قوائم بأسماء عدد من القاصرين والقاصرات الذين تم اختطافهم…

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم منذ سقوط النظام، وشهدت البلاد تحولًا سريعًا- يشبه ما يحدث في الخيال العلمي- وكأنها عاشتها على مدى قرن بل قرون. هذه الفترة القصيرة كانت مليئة بالأحداث الجسيمة التي بدت وكأنها تحولات تاريخية، رغم قصر الوقت. ومع كل هذه التغيرات، تبقى الحقيقة المرة أن السوريين يواجهون تحديات أكبر من أي وقت مضى. بدأت المرحلة الجديدة…

نظام مير محمدي*   في خطبته التي ألقاها الولي الفقيه علي خامنئي بمناسبة عيد الفطر قال وهو يشير الى التهديدات المحدقة بالنظام الإيراني: “يهددوننا بالشر. لسنا على يقين بأن الشر سيأتي من الخارج، ولكن إن حصل، فسيتلقون ضربة قاسية. وإذا سعوا لإشعال الفتنة في الداخل، فإن الشعب الإيراني سيتولى الرد”، وفي کلامه هذا الکثير من الضبابية وعدم الوضوح لأن…