كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الحادية عشرة (فؤاد عليكو *)

الحديث عن انتفاضة الشعب الكرديّ في كردستان سوريا، هو حديثٌ عن ملحمةٍ تاريخيةٍ قد لا تتكرّر أبداً، نظراً لشموليّتها كلّ أماكن التواجد الكرديّ، وكذلك امتدادها إلى خارج كردستان سوريا لتشمل الأجزاء الأربعة من كردستان وأوروبا وقيامهم بمظاهراتٍ عارمةٍ في الكثير من المدن الكردستانية والأوروبية، تضامناً مع الشعب الكرديّ في سوريا، لدرجةٍ ذهب ثلاثةٌ مواطنين شهداء في مدينة أورمية في كردستان إيران، كما أنّ الأسلاك الحدودية بين تركيا وسوريا كادت أنْ تنهار، خاصةً في مدينة نصّيبين المحاذية لمدينة قامشلي، ممّا دفعت بالدولة التركية والمصرية للضغط على النظام السّوريّ لوقف القمع منعاً لتطوّرها وتمدّدها إلى خارج الحدود السورية فتتحوّل إلى انتفاضةٍ كردستانيةٍ عامةٍ وعارمةٍ يصعب السيطرة عليها.
شاء القدر أنْ أكون أحد المتابعين المباشرين لأحداث الملعب وكيفية تطوّرها إلى انتفاضةٍ حقيقيةٍ، كما كنتُ أحد الفاعلين في إدارة الحركة الكردية لمجريات تطوّرها لحظةً بلحظةٍ منذ البداية وحتى المراحل الأخيرة منها، وكيفية تعامل السلطة مع الانتفاضة، وموقف القوى العربية المعارضة للنظام منها.
١- البداية: اتصل معي الأستاذ عبدالباقي يوسف في الساعة الثالثة عصراً، وكان حينها سكرتيراً للحزب، وطلب مني تحضير نفسي للذهاب إلى الملعب؛ لسماعه بأنّ هناك تصادمٌ بين مشجعي فريقي الجهاد والفتوة في ساحة الملعب، وأنّ الوضع قد خرج عن السيطرة الأمنية، فذهبنا معاً هناك، ووقفنا في الشارع السياحيّ، وكان التراشق بالحجارة بين الطرفين من خارج سور الملعب، حين كان مشجعي الجهاد خارج المعلب والفتوة داخل الملعب، ولم يكن الأمر بتلك الخطورة، وكان من الممكن السيطرة على الوضع، لولا مجيء المحافظ (سليم كبول) حوالي الساعة الرابعة، حيث أمر مباشرة بإطلاق النار على المشجعين، وهنا تعقّد المشهد كثيراً ورأيتُ بأمِّ عيني سقوط بعض الجرحى والقتلى أتذكّر منهم الشهيد جيفارا خلف برو، وهنا جاء الأخ الحاج عبدالحميد شيخو شقيق الفنان المرحوم محمد شيخو واصطحبنا إلى منزله المطلّ على الشارع، وبعدها هاج الشباب بطريقةٍ لا توصف، حيث نزعوا قمصانهم ولفّوا أكمامها حول خصرهم؛ ليملؤوا القسم الباقي بالحجارة ويواجهوا رصاص الشرطة والأمن بحجارتهم، هذا المشهد لا يفارقني أبداً، وكيف أنّ عناصر الأمن، وبقلوبٍ حاقدةٍ، يجلسون القرفصاء ويصوّبون بنادقهم نحو الشباب العزّل بدمٍ باردٍ حتى ساد الظلام، وانسحب الأمن مع فريق ومشجّعي الفتوة من الملعب، لكنّ الشارع الكرديّ لم يهدأ طيلة الليل والنفوس مشتعلةٌ، والناس مجتمعون حول مشفى فرمان يتفقّدون القتلى والجرحى، وحينها اجتمع ممثّلو الأحزاب الكردية المتواجدين هناك، وقرّروا الخروج بمظاهرةٍ عامةٍ في اليوم التالي في جنازة الشهداء الأربعة من أمام مسجد قاسمو إلى مقبرة قدور بك، وأبلغوا الجماهير بذلك، وإصدار بيانٍ باسم (مجموع الأحزاب الكردية)، حيث لم يتردّد أحدٌ ولم يكن هناك أيُّ موقفٍ مخالفٍ، وبدورنا كحزبٍ جهّزنا أربع لافتاتٍ من القماش الأسود تعبّر عن المناسبة وتطالب بوقف العنف وحلّ القضية الكردية سلمياً، وسارتْ المظاهرة في الشارع العام حتى كازية الشيخ القريب من المقبرة، لكنّ النظام كان قد جهّز نفسه لقمع المسيرة الجنائزية الضخمة، فأمطر عناصرُه المتظاهرين بوابلٍ من الرصاص الحيّ، وحينها سقط خمسة شهداءٍ وعددٌ كبيرٌ من الجرحى، وبعد أنْ تمّ دفن أحد الشهداء في المقبرة، وبقي ثلاثة منهم يتطلّب دفنهم في مقبرة الهلالية أنْ يتمّ نقلهم بالسيارة، لكنّ الجماهير أبت إلا أنْ تأخذهم سيراً على الأقدام رغم اعتراض أطرافٍ من الحركة الكردية على ذلك؛ حرصاً منهم على سلامة المواطنين، وعندما وجدنا رفض الجماهير ذلك؛ اتخذنا كحزبٍ قرارنا بالسير مع الجماهير، وكنتُ أنا والأستاذ عبدالباقي والمحامي فيصل بدر وغيرهم من رفاق الحزب قد تقدّمنا المظاهرة، بالإضافة للشهيد مشعل تمو والأخ ريزان شيخموس واللذين لم يكونا قد أسّسا التيار بعد، وعلى جسر الجقجق واجهنا النظام بالرصاص الحيّ مرةً ثانيةً، وأصابت رصاصةٌ مرآة سائق السيارة (وكان الأخ صلاح سليمان) التي تحمل الجنازات، حيث كنتُ أتحدّث إليه بأنْ لا يتحرّك قبل أنْ نخبره بذلك وأصيب صلاح بجروحٍ نتيجة تطاير زجاج المرآة، حينها سحبني الشيخ عبدالباسط عمر جانباً للحماية من الرصاص، وطلبنا من ضبّاط النظام وقف استخدام السلاح على أنْ نذهب إليهم للتفاوض، وعندما وافقوا ذهبتُ أنا والشهيد مشعل تمو والمحامي فيصل بدر وطلبوا منا أخذ الجنازات بالسيارة فقط؛ فرفضنا ذلك بشكلٍ قاطعٍ، واتفقنا، حينها، أنْ نذهب للمقبرة عن طريق شارع الحزام وليس من طريق شارع السوق العام، وهكذا تمّ السير بالجنازات حتى مقبرة الهلالية وتمّ دفنهم، وألقينا كلماتٍ تمجّد الشهداء، وهكذا انتهى اليوم الثاني من الانتفاضة، وفي المساء اجتمعت الحركة الكردية مجتمعةً من دون استثناءِ أحدٍ بما فيهم   pyd في منزل الدكتور عبدالحكيم بشار، وأصدرنا بياناً (باسم مجموع الأحزاب الكردية) نددنا فيه بالمجازر التي حصلت خلال اليومين وطالبنا بوقف العنف بحقّ المتظاهرين، ودعوة جماهير الشعب إلى حماية ممتلكات ومؤسسات الدولة، وشكّلنا خليةً لإدارة الأزمة مؤلَّفةً من ممثّلٍ عن كلّ حزبٍ على أنْ نجتمع بشكلٍ دائمٍ من الساعة التاسعة صباحاً وحتى العاشرة مساءً؛ لمتابعة التطورات اليومية في منزل الدكتور عبد الحكيم بشار، ومن الشخصيات التي كانت تحضر باستمرارٍ كممثّلين لأحزابهم مع حفظ الألقاب: (عبد الحكيم بشار /البارتي/، فيصل يوسف /التّقدميّ/، خيرالدين مراد /اليساريّ/، بشار أمين /الاتحاد الشعبيّ/، فؤاد عليكو /يكيتيّ/، المرحوم إسماعيل عمر /الوحدة/، المرحوم عزيز داوى /المساواة/، المرحوم عيسى حسو /الاتحاد الديمقراطيّ/، عبد المجيد محمود صبري /البارتي السّوريّ/، محمد موسى /اليساريّ/، نصرالدين إبراهيم /البارتيّ/، طاهر سفوك /الوطني/).
وفي اليوم الثاني انتفضت مدن الجزيرة بشكلٍ كاملٍ، واستشهد اثنان في ديريك واثنان في الحسكة وواحدٌ في رأس العين، وفي عامودا تمّ إسقاط تمثال حافظ الأسد، بعدها امتدّت الانتفاضة إلى كوباني وهرب النظام من المدينة، وتمّ قتل عنصرٍ من الأمن العسكريّ فيها، وفي اليوم الخامس امتدّت الانتفاضة إلى عفرين وحلب ودمشق وسقط 6 شهداء في حلب بينهم امرأة (فريدة أحمد)، كما جرت الاعتقالات في دمشق بشكلٍ هستيريٍّ طال الأطفال والشيوخ والنساء وتجاوز عدد المعتقلين الـ 2000 مواطنٍ، كما تعرّض الكثير منهم لتعذيبٍ وحشيٍّ شديدٍ، وفي تلك الفترة جاء وفدٌ أمنيٌّ من دمشق برئاسة رئيس مكتب الأمن القوميّ اللواء هشام بختيار وعضوية اللواء محمد منصورة رئيس الأمن السياسيّ وضابط من القصر الجمهوريّ، وقاموا بإدارة الأزمة من جانبهم بالتنسيق مع القيادة الأمنية في المحافظة.
وبعد أنْ فشل النظام في وقف الانتفاضة لجأ إلى أسلوبٍ قذرٍ في المعالجة، وهو استخدام شبيبة البعث وأنصارهم، وكذلك رموز بعض العشائر العربية؛ للقيام بنهب الممتلكات الكردية أو إحراقها في مدن الحسكة ورأس العين وتل تمر؛ أيْ في المناطق التي يشكّل العرب أغلبيةً فيها، وهكذا حُوِّل الصراع بين الكرد والنظام إلى حربٍ أهليةٍ بين العرب والكرد، ونجحَ إلى حد كبير في ذلك، وبدأنا نسمع صرخات الأهالي في تلك المناطق وأريافها يطالبوننا بوقف هذه الهجمة وهذه الأعمال القذرة، وفي لقاءٍ بين اللواء محمد منصورة وعددٍ من قيادات الحركة الكرديّة في منزل المرحوم حميد درويش، قال لهم منصورة بالحرف: (أوقفوا الانتفاضة.. ونحن سنوقف جماعتنا في هذه المدن).
2- لم تشهد الحركة الكردية التفافاً شعبياً كالذي شهدته أيام الانتفاضة، حيث وجدنا أنّ الكتّاب الكرد شحذوا أقلامهم ودافعوا بكلّ جرأةٍ عن شعبهم من دون خوفٍ أو وجل أو حتّى اعتبارٍ لما قد يتعرّضون له من ضغوطاتٍ من جانب النظام، ولا أريد ذكر أسمائهم؛ مخافة أنْ أنسى أحداً منهم، لكنّ صفحات الإنترنت في تلك الفترة تتحدّث عنهم، كما تشكّلت لجنةٌ إعلاميةٌ طوعيةٌ؛ لتغطية يوميات الانتفاضة لحظةً بلحظةٍ، أذكر منهم الأستاذ إبراهيم يوسف والمرحوم الأستاذ توفيق عبدالمجيد وغيرهم..
كما تشكّلت لجانٌ طوعيةٌ مع ممثّلي الأحزاب في كلّ المدن؛ لإدارة شؤون المدن والأحياء التي خرجت عن السيطرة؛ منعاً لأيّة سرقاتٍ أو أيّ تخريبٍ لمؤسسات الدولة في ظلّ غيابٍ تامٍّ للأمن.
كما أنّ الجالية الكردية في أوروبا لم تبخل أيضاً سواء من جانب النشاطات الميدانية القوية، أو في الإعلام الأوروبيّ لتوضيح الموقف، أو من خلال الدعم الماديّ السّخيّ، واستطعنا بفضل دعمهم تغطية كلّ نفقات المعتقلين وأسرهم ومعالجة الجرحى منهم من دون تمييزٍ، ومن الأمانة أنْ نذكر أنّ قناة روج roj  التابعة لـ pyd  كانت تقوم بتغطية أخبار الانتفاضة لحظةً بلحظةٍ، وتجري مقابلاتٍ مع السياسيّين والنشطاء من قلب الحدث، لكنّ نقطةً سلبيةً تسجّل على pyd حيث قاموا بجمع التبرعات في أوروبا، لكنّهم لم يسلّموا المبلغ إلى اللجنة المالية المشكّلة من أحزاب الحركة رغم وعود المرحوم عيسى حسو ممثّلهم باستمرارٍ، كما أنّ الحركة لم تميّز بين المعتقلين الكرد وكانت توزّع المخصّصات بالتساوي بين الجميع، ولازلنا نختفظ بهذه السّجلّات حتى اليوم.
3- حول نشاط الحركة الكردية: كانت الحركة الكردية نشطةً جداً في تلك الفترة من جهة التواصل مع الشارع الكرديّ العامّ، أو مع الفعاليات الشعبية العربية والسريانية وشيوخ العشائر العربية ورجال الدين المسيحيّ، وتشكّلت لجانٌ من الأحزاب السياسية ومن المجتمع الأهليّ الكرديّ؛ للتواصل والحفاظ على السلم الأهليّ بغية تفويت الفرصة على النظام الذي كان يعمل على الوتر القوميّ أو الطائفيّ كما ذكرنا سابقاً، ونجحنا إلى حدٍّ كبيرٍ في ذلك.
كما شكّلتِ الحركة الكردية وفداً منها للذهاب إلى دمشق، مؤلَّفاً من الأخوة (طاهر سفوك، بشار أمين، خيرالدين مراد، صالح مسلم، محمد أمين كلين، فيصل يوسف)، والتقتِ اللجنة بالتجمع الوطنيّ الديمقراطيّ المشكّلة برئاسة الأستاذ حسن عبد العظيم وعضوية ممثّلي خمسة أحزابٍ، كما التقت بالكثير من شخصيات المجتمع المدنيّ ومع أحزاب الجبهة الوطنية.. ومن الجدير بالذكر أنّ بعضاً من هذه الشخصيات زاروا قامشلي أثناء ذروة الانتفاضة، أذكر منهم الأساتذة: (فايز سارة، فاتح جاموس، علي عبدالله، هيثم المالح وغيرهم)، وهذا الموقف يسجّل لهم وأصدرنا معاً بياناً مشتركاً حول الأحداث، لكنْ في المجمل كان هناك تردّدٌ من قبل الكثير من النخب السياسية والثقافية العربية في التضامن بشكلٍ واضحٍ مع الانتفاضة، كما أنّ استمرارية هذا التواصل مع المعارضة فيما بعد شكّل بدايةً مشجّعةً لتأسيس إعلان دمشق 2005م للمعارضة السُّوريّة، التي ضمّت ولأوّل مرّةٍ العديد من الأحزاب الكرديّة.
4- النظام وممارساته: تعامل النظام مع الانتفاضة تعاملاً أمنياً قاسياً، حيث كانتِ الاعتقالات والتعذيب القاسي سيّد الموقف؛ بغية انتزاع الاعترافات من المعتقلين، واستشهد عددٌ من الشباب تحت التعذيب، منهم الشهيد فرهاد صبري وحسين أبو جودي، وتجاوز عدد المعتقلين الـ 5000 معتقلٍ، وبقي أكثر من ٣٠٠ معتقلٍ دامت مدّة اعتقالهم أكثر من سنةٍ، ثمّ أفرج عنهم بموجب عفوٍ عامٍّ، وبقي عددٌ قليلٌ منهم أدينوا بجرائم التّعدّي على ممتلكات الدولة، كما قامت اللجنة الأمنية بالتواصل مع شخصياتٍ من الحركة الكردية والفعاليات الاجتماعية الكردية، وكانت لغة التهديد طاغيةً على كلّ هذه الجلسات، وأذكر أيضاً أنّ اللجنة اللجنة الأمنية بقيادة اللواء هشام بختيار قد استدعتني عن طريق الأخ عبدالقادر عبدالعزيز اليوسف من آغوات الكاسكان، وذهبنا معاً وكان الحاضرون من اللجنة الأمنية، بالإضافة لهشام بختيار، كلّاً من اللواء محمد منصورة والعميد خضر رئيس فرع أمن الدولة في الجزيرة، وبدأ حديثه بالتهديد المباشر وبأنّهم لن يتوانوا عن تدمير عامودا كما فعلوا بحماة، وأنّ الدولة غير عاجزةٍ عن فعل ذلك، لكنْ وبفضل تعاملهم الإيجابيّ مع الأكراد لا يودّون فعل ذلك، وما علينا سوى الالتزام بقرارات الدولة من دون تردّدٍ وإلا سيكون لصبرهم حدودٌ، كما تحدّث العميد خضر عن اعتقالهم بعض رفاقي واعترفاهم بأنّني ومن معي وراء إصدار تعليماتٍ بحرق مؤسسات الدولة، وبعدها سمحوا لي بالحديث، فقلتُ: إنّ السياسة الشوفينية التي مارستموها بحقّ الشعب الكردي هي ما كان وراء هذا الاحتقان الكبير، وأنّ ما حصل هو بتدبيرٍ وتخطيطٍ منكم، وما رفع مشجّعي منتخب دير الزور لشعارات التمجيد بصدام حسين والتنديد بالزعيمين الكرديين السيدين مسعود البرزاني وجلال الطالباني في شوارع قامشلي ما هو إلا تحريضٌ مباشرٌ لحصول التصادم، كما أنّ جلب المشجّعين لأكياسٍ من حجارة سكة الحديد السوداء هو تحضيرٌ، أيضاً، لهذا التصادم، ثمّ توجّهتُ بكلامي للعميد خضر بأنّه لا يوجد أيّ رفيقٍ منّا اعترف لكَ بهذه المعلومات الغير صحيحة؛ لأنّنا كحزبٍ وجّهنا رفاقنا إلى القيام بالتظاهر السلمي وعدم المسّ بممتلكات الدولة واللافتات الأربعة السوداء في المظاهرة تعبّر عن موقفنا، ثمّ خرجنا من عنده وقبّلني الأخ عبدالقادر في الشارع وقال بالحرف: لم أتوقّع أنْ تخرج إلى النور بعد حديثكَ معهم، وكذلك عندما اجتمعت اللجنة الأمنية بوجهاء الكرد طرح السيد إبراهيم باشا المللي سؤالاً واضحاً على هشام بختيار بعد تهديدات الأخير: (هل يوجد قضيةٌ كرديةٌ في سوريا..؟) وبعد تكرار السؤال ثلاث مراتٍ، ردّ عليه بختيار: سأجيبكَ عندما نلتقي.. وحصل اللقاء بينهما في دمشق، وقال بالحرف: لا يوجد قضيةٌ كرديةٌ في سوريا، وإنّما مواطنون أكراد نعاملهم سواسية، بعضهم أجانب وسنعالج وضعهم قريباً، كما التقى وفد الحركة الكردية بوزير الداخلية آنذاك غازي كنعان الذي تحدّث في العموميات لا أكثر، لكنّه وجّه كلامه إلى صالح مسلم، وقال له: أنتَ من المفروض أنْ تكون معتقلاً؛ لأنّكَ وعدتني بأنْ لا تعمل في السياسة، وها أنتَ اليوم خالفتَ كلامكَ لي، لكنّ بقية أعضاء الوفد تدخّلوا وسمح له بالمغادرة.
وهكذا كان موقف النظام سلبيّاً جداً، وبدأ بعد ذلك بسلسلة ممارساتٍ قاسيةٍ، كان أبرزها تصفية شيخ الشهداء محمد معشوق الخزنوي 2005م، وقمع المظاهرة التي خرجت تنديداً باغتيال الشهيد شيخ معشوق الخزنوي بالرصاص الحيّ، كما تمّ إصدار المرسوم السيئ الصيت رقم 49 لعام 2008م، والذي بموجبه مُنِع البناء في المدن الكردية وأريافها من دون موافقة الأجهزة الأمنية، حتى وإنْ كان (قنّاً) للدجاج، كما مُنِع تسجيل الولادات الجديدة إلا بعد أخذ موافقة الأجهزة الأمنية الثلاثة: العسكريّ والسياسيّ وأمن الدولة، واستمرّ الوضع هكذا حتى قيام الثورة السُّوريّة 2011م.
5- حول إمكانية استمرار الانتفاضة: لا أعتقد أنّ الظرف السياسيّ كان مناسباً لاستمرار الانتفاضة وصمودها في مواجهة النظام الذي لم يكن يتوانى في استخدام الرصاص الحي لأتفه حادثةٍ، ولا يمكن مواجهة السلاح بالصدور العارية، وقد أثبتت ثورة الشعب السُّوريّ 2011م صحّة هذا التّصوّر، كما أنّ النظام كان يلقى دعماً إقليمياً ودولياً، وتجلّى ذلك من خلال التغطية الإعلامية العربية والعالمية الضعيفة وتوصيف معظمهم الوضع بـ: (حالة شغبٍ) كما كان يروّج لها النظام باستثناء القنوات الكردية، إضافةً لذلك، وفيما إذا استمرّت الانتفاضة لعدّة أيامٍ أخرى في الجزيرة، لوجدنا عشرات الآلاف من الأسر من شعبنا قد تركوا بيوتهم وقراهم في المناطق ذات الأغلبية العربية، مع نهبٍ ممنهحٍ لممتلكاتهم، ومزيدٍ من القتلى، إضافةً إلى خلق صراعٍ محلّيٍّ كرديٍّ/ عربيٍّ، يلعب النظام فيه دور الحكم بين الطرفين بدلاً من تجريمه وتحميله المسؤولية.
وفي النهاية هذا تصوّرٌ شخصيٌّ للانتفاضة، ويحتاج الأمر إلى مزيدٍ من البحث والدراسة من قبل الباحثين حول انتفاضة شعبٍ قال: (لا ) يوماً ما لنظامٍ مجرمٍ في زمنٍ رديءٍ.
  • قيادي سياسي وكاتب

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   يا سوريا، يا رعشة التاريخ حين يختلج على شَفَة المصير، ويا لُغزَ الهوية حين تُذبح على مذبح الشرعية، ما بين سراديب القهر وأعمدة الطموح المتداعية. أنتي ليستِ وطناً فقط، بل أسطورةٌ تمشي على أطرافِ الجراح، تهمس للحاضر بلغةٍ من دمٍ، وتُنادي المستقبل بنداءٍ مختنقٍ بين الركام. أيُّ قدرٍ هذا الذي يجعل من أرض العقيق محرابًا للدم، ومن…

نتابع، في الشبكة الكردية لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، بقلق بالغ تصاعد حالات اختطاف الأطفال القُصَّر، خاصة الفتيات، من قبل ما تُسمى بـ”منظمة جوانين شورشكر” أو “الشبيبة الثورية”. حيث يُنتزع هؤلاء الأطفال من أحضان عائلاتهم ويُخفَون في أماكن مجهولة، دون تقديم أية معلومات لأسرهم عن مصيرهم. لقد حصلنا على قوائم بأسماء عدد من القاصرين والقاصرات الذين تم اختطافهم…

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم منذ سقوط النظام، وشهدت البلاد تحولًا سريعًا- يشبه ما يحدث في الخيال العلمي- وكأنها عاشتها على مدى قرن بل قرون. هذه الفترة القصيرة كانت مليئة بالأحداث الجسيمة التي بدت وكأنها تحولات تاريخية، رغم قصر الوقت. ومع كل هذه التغيرات، تبقى الحقيقة المرة أن السوريين يواجهون تحديات أكبر من أي وقت مضى. بدأت المرحلة الجديدة…

نظام مير محمدي*   في خطبته التي ألقاها الولي الفقيه علي خامنئي بمناسبة عيد الفطر قال وهو يشير الى التهديدات المحدقة بالنظام الإيراني: “يهددوننا بالشر. لسنا على يقين بأن الشر سيأتي من الخارج، ولكن إن حصل، فسيتلقون ضربة قاسية. وإذا سعوا لإشعال الفتنة في الداخل، فإن الشعب الإيراني سيتولى الرد”، وفي کلامه هذا الکثير من الضبابية وعدم الوضوح لأن…