انفصاليون حتى إشعار آخر 2/2

د. ولات محمد
    نتيجة للدعاية الممنهجة والمكثفة لكذبة “الانفصال” من قبل الأطراف الأربعة (النظام، المعارضة، تركيا وروسيا) بكل ما لها من حضور سياسي محلياً وإقليمياً وعالمياً وبدعم من جهاز إعلامي فعال، وفي ظل غياب شبه تام لإعلام كوردي يقوم بتفنيد تلك الدعاية، تحولت الكذبة إلى “حقيقة” عند البسطاء من الناس، وإلى ذريعة (وفرصة) عند بعض العارفين والمثقفين الذين يدركون جيداً حقيقة هذه الكذبة، ولكنهم بدافع الحقد والعنصرية نفخوا فيها، حتى صوروا كل الكرد في عيون أبناء المنطقة بأنهم انفصاليون مدعومون من أمريكا.
    ما سمح لهذه الدعاية الكاذبة بأن تتحول بسهولة إلى “حقيقة” عند شعوب المنطقة وجود حالة ذهنية ونفسية وثقافة متوارثة لدى تلك الشعوب كرستْها كل الأنظمة الحاكمة في المنطقة على مدى قرن من الزمن تقول إن الكورد انفصاليون ومتآمرون على دولهم ووحدتها واستقرارها، بالإضافة إلى تلاقي مصالح الأطراف المذكورة للترويج لهذه الدعاية كما سبق القول، وعدم وجود إعلام قوي في المقابل يساعد الكورد على دحض هذه الكذبة.
الكذبة التركية ونقطة الضعف
    دعاية/ تهمة/ كذبة “الانفصال” في السنوات الأخيرة كانت بالأساس صناعة تركية دعمتها الأطراف الأخرى لمصالحها الخاصة. لكن هذه البروباغاندا التركية رغم قوتها إعلامياً كانت تعاني من نقطة ضعف مهمة تتمثل في أن كورد سوريا ليسوا انفصاليين ولا يوجد طرف سياسي كوردي واحد يسعى لذلك ولا تشير أدبياتهم إلى ذلك من قريب أو من بعيد. أما حزب الاتحاد الديمقراطي (وتشكيلاته السياسية والعسكرية) المتهم مباشرة وبالاسم بأنه انفصالي، فهو أبعد طرف كوردي عن الشعارات والمطالب القومية لدرجة أنه حتى أسماء تشكيلاته تخلو من اسم “الكوردي”، والأمر ذاته ينسحب على (قسد).
    لذلك وبغية جعل هذه الكذبة تبدو وكأنها حقيقة كان الأتراك بحاجة إلى أمرين أساسيين: الأول، التركيز على عبارات مثل “الإدارة الذاتية الكوردية” و”قوات قسد الكوردية” و”القوات الإرهابية الانفصالية” وغيرها، وعلى ربط تلك الأطراف بحزب العمال الكوردستاني لأنه موجود على قوائم الإرهاب، كي يسهل اتهامها بالانفصال وبالإرهاب على حد سواء. الأمر الثاني دعاية إعلامية قوية وواسعة تروج لهذه الأفكار والعبارات لإقناع الداخلَيْن التركي والسوري والمحيطين العربي والعالمي بأن تركيا لا تحارب كل الكورد، بل فقط الإرهابيين والانفصاليين منهم حفاظاً على أمنها القومي. أما الترويج لهذه الدعاية فقد تم عبر ثلاث قنوات رئيسة:
ـ التصريحات اليومية للمسؤولين الرسميين: أردوغان، فيدان بشكل خاص.
ـ الآلة الإعلامية المحلية الموجهة للجمهور التركي في الداخل والخارج.
ـ المحللين السياسيين السوريين (المجنسين تركياً في السنوات الأخيرة) الذين ظهروا فجأة ليقوموا بتسويق سياسات الحكومة التركية وادعاءاتها على القنوات العربية الكبرى لإقناع الرأي العام السوري والعربي بالرواية التركية.
    وإذا كان من الصعب أن تقنع تركيا الغرب بهذه الكذبة الكبرى، فإنها نجحت بامتياز في إقناع جمهورها في الداخل وإقناع السوريين والعرب عموماً ليس فقط بكون (قسد) قوات تعمل بأجندة انفصالية، بل أيضاً بأن الكورد كلهم انفصاليون، وبأن تركيا تعمل فقط لمنعهم من تقسيم سوريا. وبهذا بات الكوردي البريء في نظر الجميع متهماً بالانفصالية والتقسيم، وبات التركي المحتل والمقسم لأراض سورية وقاتل أبنائها بريئاً يعمل على منع “الانفصاليين” الكورد من تقسيم سوريا.
    الأتراك ومن يروجون لكذبتهم يسوغون حربهم الإعلامية والعسكرية على الكورد في سوريا برواية واحدة مفادها أنهم لا يستهدفون كل الكورد، بل (قسد) فقط، لأنها “قوات كوردية إرهابية انفصالية مرتبطة بحزب العمال الكوردستاني”. وهذه الفكرة كاذبة أيضاً مثل التهمة ذاتها، بل أكثر كذباً وتلفيقاً، ويتبين ذلك من خلال تفكيك هذا الادعاء إلى عناصره الأولية:
قوات انفصالية مرتبطة بحزب العمال
    إذا كان (قسد) قوات انفصالية لأنها مرتبطة بحزب العمال؛ فإن هذا الحزب نفسه (الذي وضعوا فيه حجتهم وجعلوه ذريعة لإبادة الكوردي) تخلى منذ أكثر من عشرين عاماً عن شعار الانفصال والدولة الكوردية المستقلة، وأعلن صراحة تخليه عن الشعارات والأهداف القومية الكوردية، وبات لا يطرح في برامجه سوى أخوة الشعوب ودمقرطة الدول. ولذلك عندما يقولون إنهم يحاربون (قسد) لأنها انفصالية مرتبطة بحزب العمال فإنهم يقدمون دليل نفي على اتهامهم لا دليل إثبات، لأن الأصل (حزب العمال) ضد إنشاء دولة كوردية في تركيا، فهل سيفعل “الفرع” ذلك في سوريا؟! أضف إلى ذلك أن (قسد) نشأت أساساً بإشراف أمريكي من أجل محاربة داعش ومنع عودته، لا من أجل تقسيم سوريا أو إنشاء دولة كوردية.
قوات كوردية
    ما يدعم النقطة السابقة أن (قسد) ليست قوات كوردية خالصة، بل أكثر من نصف قوامها والكثير من مجالسها العسكرية ليست كوردية (عرب، أرمن، سريان، تركمان)، فهل لعاقل أن يصدق أن هؤلاء يعملون من أجل الانفصال وإنشاء دولة كوردية؟!
قوات إرهابية
اتهام التركي لـ(قسد) بأنها قوات إرهابية لا يستند إلى أي دليل، بل يمكن إثبات بطلانه من خلال عدة دلائل:
ـ تحالف العالم مع (قسد): التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب يعمل منذ عشر سنوات مع (قسد) ويسلمه أسلحته بما فيها من أسرار، ويشاركه المعلومات الأمنية والاستخباراتية ويقوم معه بتنفيذ عمليات مشتركة. هل كان سيفعل ذلك لو كان فصيلاً إرهابياً؟
ـ لا أحد في العالم يصنف (قسد) على قوائم الإرهاب سوى تركيا ومرتزقتها من الإرهابيين، ولم يقدم هؤلاء أي دليل على ادعائهم سوى قولهم إن (قسد) مرتبطة بحزب العمال.
ـ المفارقة أن أردوغان يصف هذه القوات بأنها إرهابية انفصالية مرتبطة بحزب العمال، بينما يتفاوض مع زعيم حزب العمال نفسه السيد عبد الله أوجلان في أنقرة.
ـ تركيا تدعو قسد إلى تسليم أسلحتها، بحجة أنها إرهابية وخارج سلطة الدولة، بينما تربي هي جماعات سورية مسلحة خارج سلطة دمشق، وارتكبت جرائم موصوفة في كل من عفرين وسري كانيي.
ـ وجود أعداد هائلة من غير الكورد في صفوف (قسد) ودعم عشائر عربية كبيرة لهذه القوات دليل على أن هذه المكونات لم تجد أية معاناة أو ممارسات عنيفة أو عنصرية أو إرهابية على يد هذه القوات.
ـ استقبال قائد العمليات المشتركة السيد أحمد الشرع لقائد (قسد) السيد مظلوم عبدي، بينما لم يستقبل حتى الآن أي مسؤول في الفصائل التابعة لأردوغان.
ـ دعم المسؤولين الأمريكان والأوربيين المستمر لـ(قسد) أمام الإدارة الجديدة في دمشق.
    كل هذا يدل على أن توصيف التركي لـ(قسد) بأنها قوات إرهابية توصيف سياسي هدفه تبرير غزوه للمنطقة واحتلالها بغية إضعاف الكورد السوريين ومنعهم من الحصول على أية فرصة، وفي المقابل تقوية الميليشيات التابعة لها كسلطة وحيدة موازية لسلطة دمشق لتعزيز أوراقه التفاوضية معها مستقبلاً.
حزب العمال؟ وماذا عن ماضيكم؟
    عندما يسوغ الأتراك (وغيرهم) سلوكهم العدواني تجاه الكورد بوجود حزب العمال الكوردستاني على الخط فإنهم يقدمون الدليل على كذبتهم بأنفسهم، وذلك لعاملين:
1ـ السلوك العدائي للحكومات التركية وأنظمة المنطقة تجاه الكورد لم يظهر مع نشوء حزب العمال عام 1978 وتفرعاته لاحقاً، بل عمره قرن كامل بدء بتقسيم سايكس بيكو للمنطقة وما زال مستمراً؛ فمنذ ذلك التاريخ:
ـ لم يصدر عن الحكومات التركية والسورية والعراقية والإيرانية المتعاقبة على مدى مائة عام أي سلوك أخوي وإيجابي تجاه الكورد وحقوقهم.
ـ جميعهم حاربوا خلال قرن من الزمن كل الكورد بكل ما توفر لديهم من وسائل بغية محوهم من الوجود.
ـ جميعهم مارسوا بحق الكورد كل الممارسات العنصرية الممكنة.
ـ جميعهم مارسوا الإرهاب والتهجير والتغيير الديمغرافي المنظم بحق الكورد في كل مكان كلما سنحت لهم الفرصة.
ـ كلهم قاموا بإفقار ممنهج للمناطق ذات الغالبية الكوردية (وهي من أغنى المناطق في تلك البلاد) بغية إفشاء الجهل والتخلف فيها وإبقاء سكانها مشغولين بلقمة العيش.
ـ كلهم منعوا الكوردي على مدى قرن من الزمن من التعلم بلغته كما يتعلم التركي والعربي والفارسي بلغته الأم. وهذا يعني أن حربهم على الكورد ليست مرتبطة بوجود حزب العمال كما يدعون.
2ـ حزب العمال نفسه تخلى عن الشعارات القومية والاستقلال وغيرها منذ أكثر من عقدين كما سبق القول، بل صار خصماً للأطراف الكوردية التي ترفع تلك الشعارات. من هنا فإن إلصاق تهمة “الانفصالية” تحديداً بحزب العمال ومن يرتبط به دوناً عن الأطراف الكوردية الأخرى (التي لها فعلاً مطالب قومية كوردية) يكشف عن حجم هذه الكذبة واللعبة الخبيثة التي يبغون منها شيطنة الكورد عموماً ووضعهم في قفص الاتهام كي يصنفوا أي مطلب لهم في خانة الانفصال حتى لو طالبوا فقط بفتح مدرسة لتعليم اللغة الكوردية، كي يحاربوهم وجودياً.
    كل هذا يكشف أنهم يكذبون عندما يدعون أنهم يحاربون فصيلاً كوردياً واحداً، وأن الحقيقة هي أنهم جعلوا من هذا الفصيل مطية كي يقضوا على الكورد وأحلامهم في كل مكان. إنهم يبنون كذبة على كذبة على كذبة حتى يجعلوا منها حقيقة في أبصار الناس وبصائرهم، فمنهم من يصدقونها لبساطتهم ومنهم من يريدون أن يصدقوها (مع علمهم بزيفها) لأنها تتوافق مع نفوسهم المريضة.
الأهداف التركية وفرصة المرضى الذهبية
    هدفت تركيا من صناعة هذه التهمة إلى تحقيق أمرين: الأول احتلال أراض سورية تدخل ضمن أحلامها العثمانية المتجددة وتساوم عليها لاحقاً. الثاني شيطنة الكورد ومنعهم من تحقيق أي نوع من حقوقهم المشروعة في سوريا الجديدة. وقد صدق الناس هذه الكذبة المصنوعة إعلامياً، ولم يصدقوا الكورد الذين أكدوا ويؤكدون ليل نهار أن ما يطالبون به (بغض النظر عن التسمية) إنما هو في إطار سوريا واحدة موحدة. وبذلك تمكنوا من وضع الكوردي في موقع انشغل فيه بتبرئة نفسه من تهمة “الانفصال”، بدلاً من محاورة السوريين حول حقوقه الممكنة والمشروعة.
    صحيح أن تهمة/ كذبة “الانفصال” أثارت مشاعر الكراهية عند الجهلة والبسطاء، ولكنها فتحت الطريق أيضاً أمام فئة العنصريين الحاقدين المصابين بمرض الكوردوفوبيا أو متلازمة الكورد ـ انفصال (العارفين أنها كذبة تركية) الذين وجدوا في ذلك فرصة ذهبية لإطلاق ألسنتهم لشتم الكورد (مثل الفئة الأولى) وتخوينهم والدعوة إلى استئصالهم والقضاء عليهم.
    الجميل والصادم في هذه الكذبة أنها كشفت حقيقة بعض أولئك الذين قدموا أنفسهم نظرياً يوماً ما على أنهم ديمقراطيون أحرار سوف يبنون سوريا الجديدة لكل السوريين، لكنهم سقطوا سقوطاً مدوياً عند أول اختبار عملي!!!
    هكذا صنعوا كذبة الانفصال وحاكمونا عليها وحكموا علينا وقالوا لنا: أنتم انفصاليون حتى إشعار آخر.. أو كذبة أخرى.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…

المحامي عبدالرحمن نجار   إن المؤتمر المزمع عقده في ١٨ نيسان في الجزيرة هو مؤتمر الأحزاب التي معظم قياداتها كانت تتهرب من ثوابت حق شعبنا الكوردي وفق القانون الدولي. وكانت برامجها دونية لاترقى إلى مصاف ومرتبة شعبنا الكوردي كشعب أصلي يعيش على أرضه التاريخية، وتحكم حقوقه القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتتجلى في حق تقرير المصير!. وحيث أن…

قهرمان مرعان آغا يحصل لغط كثير و تباين واضح ، مقصود أو جهل بإطلاق المصطلحات القانونية والسياسية، فيما يتعلق بالشعب الكوردي و حقوقه القومية و وطنه كوردستان ، تحديداً في كوردستان الغربية/ سوريا . هناك حقيقة جغرافية طبيعية و بشرية و حدود سياسية بأمر واقع في كوردستان ، الوطن المُجزء و المُقسَّم بين الدول الأربع ، تركيا ، ايران ،…