اختلال المعايير: استتفاه الكبائر واستعظام الصغائر

إبراهيم اليوسف
 
بدهيّ ٌ أن ما يجري- الآن- في الوطن أمرٌ غريب ومثير للتساؤل. إذ هناك من يحاول تحويل البلد إلى سجن كبير من خلال فرض نمط تربية صارم، وكأننا أمام فتح جديد يتطلب جر الناس قسرًا إلى حظيرة مرسومة. وكلنا يعلم أنه على مدى مائة عام، فقد اعتاد السوريون على نمط حياتي معين لم يستطع حتى النظام الساقط فرض رؤيته عليهم، رغم قمعه الذي ملأ السجون ونشر الرعب والفساد وأفرغ البلاد من حريتها ومن ثم من أهلها. وما أن نسمع عن مقتلة هنا أو هناك، حتى يسوغ ذلك بالقول “إنها انتقامات فردية”، هذا ما سمعناه من آلة النظام في بدايات الثورة السورية، وكأن الأمر لا يستحق الوقوف عنده. لكن إذا كان مرتكبو هذه الجرائم ينتمون إلى السلطة، فهل يكفي تجاهل أفعالهم؟ لا، بل ينبغي تقديمهم فورًا إلى المحاكم.
ومن بين ما نسمعه الحديث عن محاولات- وإن غير رسمية- لفرض الملابس النسائية – على سبيل المثال – بل وتداول فيديوهات الخروج إلى الشوارع لوعظ الناس، أو حتى مشهد تقديم المواعظ داخل البارات وكأن الجمهور لم يسمع بالدين من قبل – كلها ظواهر تعكس نمطًا جديدًا من التدخل في حياة الأفراد. إن كانت هذه التصرفات فردية كما يدّعى، فيجب تقديم مرتكبيها للمحاكمة. في المقابل، فإننا نؤيد تقديم كل من ارتكب أخطاء أو جرائم في العهود السابقة إلى القضاء العادل، لأن العدالة لا تعرف زمنًا أو استثناءً.
إن تحويل الدين إلى وسيلة للوصاية على الناس يعكس ازدواجية عميقة في المعايير. كيف يمكن الجمع بين الدعوة إلى الأخلاق وبين فرضها بالقوة؟ هذه المفارقة تفتح الباب أمام شكوك حقيقية حول الأهداف الحقيقية وراء هذه السلوكيات. لا يمكن أن نضع الأخطاء العفوية التي تحدث في السياق الطبيعي في مرتبة واحدة مع الجرائم المنظمة التي تنتهك حقوق الأبرياء. أمام هاتين الظاهرتين، يظهر خلل واضح في معايير التقويم. إذ هناك فساد في الضمير، لوثة في العقل، وغياب العدالة في التعامل مع الأخطاء. الفارق كبير بين من يتستر على قاتل أو ينفذ جريمة، وبين من يضخم خطرًا غير واقع نتيجة تراكمات عقود من القمع والخوف في ظل البعث. إن التقويم السليم يجب أن ينطلق من معرفة السياق ودراسة الأسباب بموضوعية. هذا ليس تسويغًا للأخطاء، بل دعوة للتعامل معها بميزان العدالة والإنصاف، بعيدًا عن التسييس والمصالح الشخصية.
ومن المعروف أنه في كل العهود، كان هناك من يواجه كل قلم نقدي بل أننا علمنا أن هناك من كان يصور المنشورات والمقالات المختلفة ليقدمها لأولياء الأمر بهدف التأليب ضد كتّابها. هذا المشهد لم يتغير، سواء في ظل النظام، أو المعارضة. لقد مارسنا النقد بضمائر يقظة في كل هذه السياقات. نقدنا النظام السابق، انتقدنا المعارضة، ووجهنا سهام النقد إلى الإدارة الذاتية أيضًا. آلاف المقالات وملايين المنشورات كشفت – من قبل أمثالنا – عن خلل هنا أو هناك، دون أن نهادن أو نسكت.
ومن هنا، فإن التأليب على الناقدين هو مؤشر خطير يعكس غياب الشفافية وسوء النوايا. النقد البناء ليس عداءً، بل محاولة لتصحيح المسار. لذلك، فإن محاولات إسكات الأصوات الحرة ليست سوى انعكاس للخوف من مواجهة الحقائق. واليوم، تحديدًا، هناك من يهاجمنا لأننا ننقد الوضع الحالي. يبدو أن بعضهم يهيئون أنفسهم لمواطئ أقدام في السلطة من خلال إسكات أصوات النقد. لكننا، رغم كل ذلك، نرفض الصمت. لأن بإمكاننا أن نتجاهل، أن نساير، أو أن ننسحب، لكن الضمير الحي يفرض علينا جميعاً الاستمرار في كشف الحقائق، لأن الوقوف مع الحقيقة واجب لا يمكن التراجع عنه.
إن الصمت أمام الأخطاء والجرائم هو خيانة للضمير ولحقوق مجتمعنا، بلدنا، والأجيال القادمة. كما أن النضال من أجل الحقيقة والعدالة لا يتطلب فقط الشجاعة، بل الإصرار على مواجهة التحديات مهما كانت الظروف. هذه هي مسؤوليتنا الأخلاقية والتاريخية.
الاستمهال والإهمال
من الملاحظ أن هناك خللاً في التعامل مع قضايا الحريات في الكثير من الأوقات، حيث يُطلب منا أحيانًا الاستمهال وإعطاء فرصة للآخرين، بحجة أنه يجب أن نكون أكثر صبرًا. لكن الحقيقة أن هذا الاستمهال يتحول في كثير من الأحيان إلى إهمال، أو حتى تواطؤ، في حالات تستدعي التدخل الفوري. الحريات ليست مسألة يمكن تأجيلها أو تجاهلها، فمراقبة أي خطأ أو تعد على الحقوق يجب أن يكون أمرًا محوريًا في مرحلة ما بعد انهيار أي نظام استبدادي. أما الانتقام، فيجب أن تبقى المحاكم هي الفيصل فيه، وليست يد العدالة الغائبة.
وعندما نسمع بعض الأصوات تنادي بإمهال المنتقمين أو الجناة، ومنحهم الفرصة للقيام بأدوارهم، فقد يكون ذلك مقبولًا في حالات معينة، لكن مع مرور الوقت يتضح أن الكثير مما يتم قد يكون خاطئًا ومؤذيًا، خصوصًا عندما نلاحظ تكرار الوجوه ذاتها التي تولت المناصب ولم تقدم شيئًا ملموسًا. وهذا إنما يدل على أنه لا بد من النقد والمراجعة المستمرة. فالتساهل الزائد في البداية، ومن ثم الإهمال، يؤدي إلى بئس المآل وسوء الحال، حيث تصبح الفجوة بين الواقع والمأمول أكبر، ويمهد الطريق للمزيد من الأخطاء والفساد. صحيح أن السوريين، من فرط فرحتهم بزوال النظام  المجرم السابق، ربما ظنوا أن هذا التغيير سيكون أبديًا فوق النقد، بعد أن عاشت أجيال منهم  لم يروا سوى حكم آل الأسد، إلا أنه في مرحلة ما بعد السقوط، لابد لنا من تعلم فن النقد والمراجعة، بعيدًا عن تقديس الأشخاص، فالنقد هو السبيل لبناء مجتمع حر ومستدام.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس تدور عجلة الزمن في سوريا بعكس اتجاه الحضارة والرقي، رغم القضاء على أحد أكثر الأنظمة المجرمة قسوة في العالم. يُساق الشعب، بمكوناته الثقافية والدينية المتنوعة ومراكزه الثقافية، نحو التخلف والجمود الفكري الممنهج، في ظل صدور قوانين وممارسات سياسية متناقضة وعلاقات دبلوماسية متضاربة. فمن جهة، هناك نشاطات وحديث نظري عن الانفتاح على العالم الحضاري واحترام جميع مكونات سوريا…

عبدالعزيز قاسم بعد كفاح طويل ومرير ومتشعب من الصراع خاضه السوريون، وإثر ما عرفت بالثورات “الربيع العربي” والتي لا تزال إرتداداتها مستمرة كما هي الزلازل الطبيعية؛ لاحقاً فقد تمت الإطاحة بنظام الحكم في سوريا ٠٠٠ وبما انه لا بد من ملئ الفراغ الذي خلفته الإطاحة العسكرية تلك وتداعياتها في عموم الساحات السورية والكردية خصوصاً؛ فقد بادر اصحاب الفكر الإستباقي…

درويش محما من كان يصدق أن يسقط بشار الأسد فجأة خلال بضعة أيام وعلى النحو الذي رأيناه؟ لو جاءني أحدهم قبل أن تتحرر دمشق، وقال: إنَّ الأسد ساقط، لقلت له: كلام فارغ ومحض هراء. وأقصد بالساقط هنا الساقط من الحكم والقيادة، لا الساقط الدنيء الشاذ في السلوك والتصرفة؛ للتوضيح أقولها ولتجنب السهو واللغط، لأن بشار الأسد لم يعد اليوم ساقطًا…

خليل مصطفى مطالب كورد سوريا (بعد سقوط نظام البعث) ليست بجديدة، بل هي قديمة. فالغالبية العظمى من أبناء شعوب الأُمُّة السُّورية (وتحديداً ذوي الذهنية الشوفينية / عرباً وآخرين أمثالهم): لم يقرؤوا التاريخ الحقيقي لشعوب الأُمَّة السورية وتحديداً المُتعلق بالشعب الكوردي.؟! ولذا أُعرض للمعنيين (أعلاه) جزئيات من تاريخ سوريا (فترة الانتداب الفرنسي): أوَّلاً / عملت فرنسا خلال الأعوام من 1920 إلى…