سوريا: جرح التاريخ وتحديات المستقبل

 بوتان زيباري
سوريا… ذلك الجرح المفتوح في قلب التاريخ والجغرافيا، لوحة تتشابك فيها الألوان القاتمة بفعل حرب أرهقت الأرواح قبل الأبنية. كانت البداية صوتًا هادرًا من حناجر عطشى للحرية، حلمًا بسيطًا بدولة تُحترم فيها الكرامة الإنسانية. لكن سرعان ما تحوّل الحلم إلى كابوس معقّد، اختلطت فيه الأصوات النقية بزعيق الأسلحة، وامتزجت الثورة النبيلة بالفوضى المتوحشة. تسلّلت قوى الظلام من كل فجّ عميق، وتحوّلت ساحات الحرية إلى خرائط معقدة مرسومة بالدماء.
وسط هذا الخراب، لم يصمت صوت الحقيقة تمامًا؛ فقد كان الإعلام الحر شعلة ضوء اخترقت عتمة الديكتاتورية. مشاهد الألم التي نقلها الإعلام كانت أصدق من كل الخُطب، وأشد وقعًا من كل الرصاص. لكن الحقيقة وحدها لا تكفي لإسقاط الطغيان؛ فالنظام وإن تآكل تحت ثقل جرائمه، إلا أن سقوط الديكتاتوريات غالبًا ما يكون بداية لسلسلة جديدة من التحديات التي تفوق في صعوبتها إسقاط النظام نفسه.
اليوم، يقف المجتمع السوري على مفترق طرق تاريخي، حيث يتعيّن عليه الإجابة عن أسئلة مصيرية: كيف يُعاد بناء الوطن بعد أن تهشّم على كل المستويات؟ كيف يمكن ترميم الجسور المحطمة بين أبناء الوطن الواحد؟ إن إعادة الإعمار ليست مجرد كتل إسمنتية وجسور من حديد، بل هي بناء إنسان جديد، وهو ما يتطلب عدالة شاملة وحقيقية. العدالة هنا ليست انتقامًا، بل هي ترياق الجروح النازفة وضمانة ألا تتكرر المآسي.
إن المحاسبة الصارمة لا تعني الانتقام، بل هي جسر نحو المصالحة الوطنية. فمن الضروري التمييز بين من تلطخت يداه بدم الأبرياء، ومن أُجبر على حمل السلاح في معركة لم يخترها. كما أن إعادة تأهيل المجتمع نفسيًا واجتماعيًا ليست رفاهية، بل هي حجر الأساس لأي بناء وطني حقيقي.
لكن البناء الحقيقي لا يكتمل دون عقد اجتماعي جديد يُكتب بمداد الحقوق لا مداد القوة. دستور يُحترم فيه الجميع دون إقصاء، يُكرّس مبدأ المساواة، ويضمن لكل مكونات سوريا صوتًا ومكانًا. دستور يؤسس لنظام فيدرالي ديمقراطي، ينطلق من مبادئ المواطنة والعدالة، ويضمن تعليمًا حرًا من الأيديولوجيات القاتلة، يُربي أجيالًا تؤمن بالاختلاف وتقدّس السلام.
أما القضية الكُوردية، فهي ليست مجرد بند هامشي على طاولة المفاوضات، بل هي قلب العدالة السورية. لقد آن الأوان لاعتراف دستوري واضح لا لبس فيه بحقوق الشعب الكُوردي، القومية والثقافية والسياسية. الاعتراف ليس مكرمة من أحد، بل هو حق تاريخي وإنساني.
سوريا التي نحلم بها ليست مجرد خطوط تُرسم على خرائط سياسية، بل وطن تُبنى جسوره بالثقة المتبادلة، وتُصان كرامته بالعدالة. وطن يجد فيه كل طفل مدرسته، وكل شاب مستقبله، وكل مكون هويته. إنها سوريا التي تكون فيها الحرية دستورًا، والعدالة قانونًا، والسلام عنوانًا يُكتب بأيدي جميع أبنائها دون تفرقة أو خوف.
السويد
02.01.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…

المحامي عبدالرحمن نجار   إن المؤتمر المزمع عقده في ١٨ نيسان في الجزيرة هو مؤتمر الأحزاب التي معظم قياداتها كانت تتهرب من ثوابت حق شعبنا الكوردي وفق القانون الدولي. وكانت برامجها دونية لاترقى إلى مصاف ومرتبة شعبنا الكوردي كشعب أصلي يعيش على أرضه التاريخية، وتحكم حقوقه القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتتجلى في حق تقرير المصير!. وحيث أن…

قهرمان مرعان آغا يحصل لغط كثير و تباين واضح ، مقصود أو جهل بإطلاق المصطلحات القانونية والسياسية، فيما يتعلق بالشعب الكوردي و حقوقه القومية و وطنه كوردستان ، تحديداً في كوردستان الغربية/ سوريا . هناك حقيقة جغرافية طبيعية و بشرية و حدود سياسية بأمر واقع في كوردستان ، الوطن المُجزء و المُقسَّم بين الدول الأربع ، تركيا ، ايران ،…