الدرس الديمقراطي.. وخريطة أردوغان الكردية

  ثمة قناعة لدى حكومة العدالة والتنمية بأن الحل النهائي للمشكلة الكردية في تركيا لن يتحقق إلا عبر خطوات سياسية واقتصادية واجتماعية

خورشيد دلي
 

تنشغل الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان هذه الأيام بإعداد خريطة طريق لحل مشكلتها الكردية، بعد عقود من الحرب الدموية مع حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه الحكومة التركية بالإرهاب، إذ خلفت المواجهات أكثر من أربعين ألف قتيل من الجانبين.

 بعد هذه السنوات من الصراع ثمة قناعة لدى حكومة العدالة والتنمية بأن الحل النهائي للمشكلة الكردية في تركيا لن يتحقق إلا عبر خطوات سياسية واقتصادية واجتماعية، وهو ما يسميه أردوغان بالحل الشامل على أساس أنه يقوي تركيا في الداخل والخارج.

في الداخل من خلال خلق المزيد من الاستقرار والتعايش الاجتماعي والتنمية والنمو, وفي الخارج من خلال تعزيز الخيارات السياسية الإقليمية والدولية والقيام بدور مؤثر في مختلف دوائر السياسة الخارجية التركية.

فضلاً عن أن ذلك يرسخ التجربة الديمقراطية التركية وشروطها الأوربية المتمثلة في معايير كوبنهاجن للانضمام إلى العضوية الأوربية.
بداية ينبغي القول إن الخطة التي يعمل أردوغان على إطلاقها تأتي بعد سلسلة خطوات إيجابية أسست للخريطة المنتظرة, ولعل أهمها:
1- قيام أردوغان بسلسلة زيارات إلى مناطق جنوب شرق تركيا حيث الأغلبية الكردية، وحديثه من هناك عن أن المشكلة الكردية هي مشكلته, وأن المشكلة هي مشكلة الديمقراطية، وعزمه المتواصل على إحداث إصلاحات سياسية وديمقراطية تؤدي إلى حل المشكلة الكردية سلمياً.


2- سلسلة من الإجراءات الانفتاحية تجاه الأكراد, منها حق التعليم وإنشاء قنوات إذاعية وتلفزيونية باللغة الكردية, وإطلاق خطة اقتصادية لتنمية مناطق جنوب شرق البلاد بوصفها مناطق فقيرة يعيش سكانها حالة من الفقر والتخلف, بما يعني توفير الأرضية المناسبة للعنف والالتحاق بالمنظمات المسلحة.


3- على قاعدة هذا المناخ الإيجابي شهدت تركيا حراكاً سياسياً إيجابياً، تجسد كردياً في السعي نحو المشاركة في الحياة السياسية والنيابية, إذ برز تيار سلمي تمثل في حزب المجتمع الديمقراطي الكردي الذي شارك في الانتخابات النيابية والبلدية وحقق نتائج إيجابية ساهمت في تعزيز الخيار السلمي للمشكلة بدلاً من اعتماد نهج العنف والإقصاء.


4- في ظل هذا المناخ جاء لقاء أردوغان مع أحمد ترك، رئيس حزب المجتمع الديمقراطي، الذي له عشرون نائباً في البرلمان ليشكل نقطة عملية في إيجاد آليات الحل السلمي وتجسيده على أرض الواقع.


5- في الجهة المقابلة فإن حزب العمال الكردستاني الذي رفع شعارات ثورية تدعو إلى إقامة دولة كردستانية موحدة في المنطقة فقد الكثير من بريقه السياسي والإيديولوجي, ومنذ اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان تراجع عن شعار الانفصال وإقامة دولة كردية مستقلة، وانتهج صيغة تقوم على تحقيق الهوية الثقافية القومية الكردية في إطار وحدة الأراضي التركية.

وعلى هذا الأساس طرح سلسلة من الهُدَن على أمل أن تعترف به الدولة التركية، وهو الأمر الذي ترفضه أنقرة بوصفه تنظيماً إرهابياً.


إن هذه الخطوات والمعطيات تشكل، دون شك, أرضية خصبة لنجاح خريطة الطريق التي ينوي أردوغان طرحها, وهذه الخطة حسب الصحافة التركية تتألف من ثلاث مراحل, أهم جوانبها:
1-المرحلة الأولى أن تقوم تركيا بخطوات من شأنها تعزيز الثقة والجدية لتسوية هذا الملف المزمن, بينها رفع كل القيود على الإعلام، والتدريس باللغة الكردية، والسماح بإلقاء خطب الجمعة بها، وإعادة الأسماء الكردية إلى القرى والبلدات في جنوب شرق تركيا.


2- المرحلة الثانية: تفكيك حزب العمال الكردستاني على أن يتم التنسيق بهذا الشأن مع الإدارة الكردية في شمال العراق، وإصدار عفو عن عناصر الحزب الذين يلقون السلاح، مع ضمانات بعودتهم إلى ديارهم.


3- المرحلة الثالثة وهي مرحلة القيام بإصلاحات دستورية وسياسية واسعة تتعلق بتطوير مفهوم المواطن والدولة، بهدف إيجاد حل جذري ونهائي لهذه المشكلة بوصفها مشكلة الديمقراطية.


من يدقق في ردود الفعل التركية حتى الآن لا بد أن يتوقف عند ما يلي:
1- الموقف الإيجابي للقوى اليسارية والديمقراطية في تركيا من الخطة وتأكيدها ضرورة إيجاد حل سلمي لهذه المشكلة الداخلية المزمنة, وهذا الموقف يشكل سنداً قوياً لخطة أردوغان.


2- الموقف المعارض الذي يتبناه حزب الحركة القومية المتطرف بزعامة دولت بهجلي، باعتبار أن لا مشكلة كردية في البلاد، وأن الخطة ستؤدي إلى تقسيمها, بينما يبدو موقف حزب الشعب الجمهوري المعارض متأرجحاً لا لأنه يعارض الحل من حيث المبدأ، وإنما بسبب صراعه التقليدي مع حزب العدالة والتنمية الحاكم على السلطة.


3- على الجانب الكردي, ثمة تشجيع قوي للخطة من قوى المجتمع الديمقراطي والأوساط الثقافية المعروفة والتيارات اليسارية, فقد كان لافتاً زيارة الرئيس عبدالله غل للكاتب الكردي المعروف يشار كمال وتكريمه له، وحديثه عن أن قضية تركيا هي قضية الديمقراطية, فيما لا يبدو واضحاً موقف حزب العمال الكردستاني الذي يبدو أنه ينتظر موقف زعيمه المسجون عبدالله أوجلان، الذي من المقرر أن يعلن هو الآخر خطة طريق مماثلة.


دون شك, من يدقق في هذه المعطيات والردود المتواصلة لابد أن يرى أن ذلك أثار حراكاً سياسياً داخل تركيا، وهو حراك يصب في الديمقراطية التركية التي تترسخ يوماً بعد آخر, كما أنه لا بد أن يرى أن حزب العدالة والتنمية الذي انطلق من أيديولوجية الإسلام السياسي أصبح أفضل من يدير البلاد في إطار لعبة الديمقراطية والآليات السلمية المتاحة، وأكثر من القوى التي حكمت البلاد في وقت سابق، إلى درجة أنه نجح خلال السنوات الماضية في إحداث تحولات منهجية في المجتمع التركي وفي علاقة الدولة بالمؤسسات، وعلى رأسها علاقة الحكومة بالجيش من خلال إعادة النظر في هيكلة مجلس الأمن القومي التركي الذي كان معظم أعضائه في السابق من قادة الجيش، وهو ما أبعد شبح الانقلابات عن البلاد و وضع القانون المدني فوق الجميع، وبضمن ذلك المؤسسة العسكرية التي كانت فوق القانون.

وما الحملة ضد منظمة أرغنينكون إلا شكل من أشكال مكافحة التنظيمات السرية التي كانت تقوم بجرائم في السر وتسجل ضد فاعل مجهول، وتبقى هي بعيدة عن المحاسبة.

والجميع يتذكر قصة اغتيال الصحفي الأرمني المشهور هرانت دينك قبل فترة أمام صحيفته.

وعلى مستوى الشارع فإن لسان حال الرأي العام التركي والكردي اللذين اكتويا بنار العنف الدموي يقول: أما حان الوقت لوضع حد لهذا الفصل الدموي من تاريخ البلاد؟
ما سبق, يشكل جملة معطيات تشير إلى حل سلمي في الأفق للمشكلة الكردية في تركيا، حل يضمن الاستقرار لتركيا والهوية للأكراد..

إنه الدرس الديمقراطي الجديد الذي يوجه الأنظار إلى تركيا بوصفها تنتج ما تحتاج إليه شعوب المنطقة ودولها.


——

النور

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…