المسدس والخروف والطفل

ابراهيم محمود

في كل مجتمع، ودون استثناء، يكون الطفل
أمله الموعود مستقبلاً، ذلك يعني الارتقاءَ إلى مستوى هذا العمل والمهام الجّسام
التي يتطلبها، يعني ذلك الإحاطة بالمكونات النفسية والجسمية للطفل، أي تربيته ليكون
الموعود على مستوى الأمل. تُرى أي مستقبل يكون حين يُفرَض على الطفل هذا، التحركَ
والتفوه بما هو مطلوب منه، أن يكون كبيراً وهو لم يعش الحد الأدنى من طفولته ؟ أن
يكون جنديَّ حرب، عقائدياً، وهو في براءة كاملة. توقعوا القنبلة الموقوتة إذاً
!
في زيارة خاطفة لي إلى قامشلو، نهاية الشهر العاشر من العام الفائت”2015 “، ما
أكثر ما رأيت من الأطفال وهم في زي الحرب، ما أكثر ما رأيت من الأطفال وهم يلعبون
بالمسدسات بأحجام كبيرة، ما أكثر ما رأيت من الأطفال في أكثر من جهة قامشلاوية، وهم
يؤدّون أدواراً لها صبغة عسكرية ” أسايشية “: بالحركة والكلام. يا للرعب الموعود !
في مثال حي كنت شاهد عيانِه، حيث كنت في عيادة طبية قامشلاوية، وكان هناك مجموعة
مراجعين، من بينهم طفل لم يتعدَّ الرابعة من عمره صحبة والديه، كان يبكي، ووالداه
يهدئانه، لم أفاجَأ حين اندفعت أمُّه الشابة وهي تسترضيه قائلة: خلاص، خلاص، راح
اشتري لكْ مسدس: bese bese , ezê demaça kê ji tere kirim، ولم يهدأ، لتقول له
ثانية محاولة استرضاءه: خلاص، خلاص راح ادبح لك خروف: ê de bese ezê miekê ji tere
gurênim .” إن miek ، تعني الخروف باللغة الخاصة للطفل هناك، ومن ناحية أخرى، حاولت
الحفاظ على الكلمات التي سمعتها بالكردية ووضعت ما يقابلها بالعربية، وآمل ألا
يحسبها تعسفاً في اللغة، ممن يتعسفون في تربية الطفل، وأي تعسف ! “.
المثالان
سائدان، وهما توأما بؤس تربية في بؤس تعامل مع الطفل، عبر بؤس تفهُّم له: المسدس
للقتل، والذبح قتل آخر بالتأكيد، وفي الحالتين يكون الطفل قاتلاً ومقتولاً، وهو لا
يعرف من الحياة شيئاً. ولكم نسمع الأم وهي تنادي صغيرها تحبباً ” wey berxikê
mino!: إيه حمَلي “، و” الحمَل ” نظير الطفل الرضيع أو وهو في سنته الأولى، ولكم
يتداخل الاثنان: الحمَل/ الخروف حين يوهَب/ يُنذَر للذبح، والطفل نظير الحمَل/
الخروف وهو يرى مقابله تحت السكين، وتلك البداية الأولى للإجهاز على طفولة،
وإخراجها عن مسارها الطبيعي.
ربما يُرَدُّ في الحال، ويتردد أن المناخ السائد هو
مناخ حرب، ولا داعيَ لكل هذه ” المزايدات الكلامية “، وأجيب موضحاً في الحال: وهنا
بيت القصيد! يوجد فرق كبير وكبير جداً، بين القول بأن الوضع استثنائي، وإقحام الطفل
في عالم هو من شأن الكبار الذين يتصرفون تبعاً لقواعد خاصة بهم، بغضّ النظر عن نوع
الأخطاء المرتكبة، أما الطفل، فإن أي تبرير لما يجري، إنما هو الجرم الآثم وإضفاء
صبغة قانونية عليه.
أعلينا أن نتحدث في حاجات الطفولة، ولو في الحد الأدنى:
كيفية إقصائه عن عالم الكبار، في اللباس والتصرفات، وفي ألعابه التي يجب أن تكون
بعيدة كلياً عن محتويات عالم الكبار؟!
أعلينا أن نذكّر بما يكونه الطفل وكيف يجب
أن يكون ويُهتَم بأمره ؟ ” كما كنت أتابع ذلك في هذا المضمار في معهد إعداد
المعلمين بقامشلو ولأكثر من عشر سنوات قبل ربع قرن ونيّف “.
أي وعد بالمستقبل
يكون؟ حيث مشاهد العسكرة تستغرق كل مكان، حيث إطلاق الرصاص يتم بأسباب، وما أقلها،
وبدون أسباب، وما أكثرها. حيث استعراض القوة العسكرية وما يرادفها، بالحركات
والكلمات والألوان الخاصة، يتم بأسباب، وما أقلها، داخل كل حارة، وفي البيوت، وفي
المدارس الممثَّل فيها، وفي الشوارع والساحات، يتم استعرض القوة العسكرية
والعقائدية الكردية الطابع، بدون أسباب، وما أكثرها أمام سمع الطفل وبصره، حتى وهو
داخل الصف، والعنف الحركي والكلامي يزيدان إرهاب الطفل، في استحالته: إرهابياً
صغيراً رغماً عنه، في أن يكون ضحية الإرهاب التربوي، بذرائع شتى. ما أكثر ما يُدفَع
بالطفل في أن يكون الموعود بالقتل، بالعنف، وهو بالكاد يتهجى حروف لغته الأم
.
الطفل الكردي المنهوب في الحالتين: إن تعلَّم بلغة أخرى في المدرسة، وإن
تعلَّم بلغته، إنما من خلال اختزال مريع لها، بكلمات متكررة، تخرّجه محارباً، دون
أن يفقه من الحرب شيئاً، والحرب تجتاحه في كل الجهات. الحرب لا تعني إطلاق الرصاص،
ثمة أدهى، أمرّ: رصاص الكلمات النافذة، بالأوامر والنواهي: ما يجب عليه قوله وما لا
يجب عليه تمثُّله وإلا وإلا…
مجتمع ” كردي ” عقائدي محارب، من لون واحد! لا
استثناء للأطفال فيه، وهم في الزي الموحد، والقول الموحد، كما يُراد منه، أي كما
يتصرف الذين يفتقدون الحد الأدنى من لغة التربية الطفلية، أي كما يؤكّد ذلك، أولئك
الذين لم يعيشوا طفولة تمكّنهم من أن يكبروا وكلهم حسن سلوك وحسن أداء مهام،
ليكونوا قتلة أطفالهم وضحاياهم معاً .
مجتمع موجَّه متحكَّم به في ” عنق الزجاجة
“، ويُسمى كردياً، ويمدَح فيه، وهو في وضعية كارثية، مجتمع يعيش سلسلة ميتات
متتالية منذ سنوات، ويكافَأ على ذلك، مجتمع موعود بالفناء التدريجي: حيث الطفل
يعدَم كطفل، وما أكثر الذين هربوا خارجاً جرّاء هذا العنف العقائدي الأحادي
الاتجاه، وباسم الكردية المجلجلة.
مجتمع روجآفاويٌّ موعود بالدمار الذاتي، وهو
منتش بقتل أطفاله، واعتبار ذلك مثال التربية الكردية الحقة ، هنا سيكون أطفاله
الآتون نحنُ، وحينها سنكون قد ” أكلنا ” عمرنا. يا لكُرديتنا!

دهوك-
في 10 كانون الثاني 2016 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي. أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً. كالهند،…

د. محمود عباس بصوتٍ لا لبس فيه، نطالب الحراك الكوردي في غربي كوردستان بعدم التنازل، تحت أي ظرف، عن مطلب النظام الفيدرالي اللامركزي، وتثبيته بوضوح في صلب الدستور السوري القادم. فهذا المطلب لم يعد مجرد خيارٍ سياسي ضمن قائمة البدائل، بل تحوّل إلى صمّام أمان وجودي، يحفظ ما تبقى من تطلعات شعبٍ نُكّل به لأكثر من قرن، وسُلب…

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…