كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » – الحلقة الأولى

هذه الشهادات… هؤلاء الشهداء!

 

بدأت بجمع هذه الشهادات عشية الذكرى الخامسة عشرة لانتفاضة الثاني من آذار 2004، التي هب خلالها الشعب الكردي في سوريا، سواء أكان ذلك في المناطق الكردية منها، أو في بعض كبريات المدن: دمشق حلب، حيث يتواجد الكرد، وذلك بعد مجزرة الملعب البلدي التي أمر خلالها محافظ الحسكة المدعو سليم كبول النار على الشباب الكردي الذي تعرض للاعتداء من قبل جمهور فريق الفتوة القادم من ديرالزور، حيث وصل- على عجل من أمره- منذ ساعات الصباح إلى مدينة قامشلي، وأطلق بعض المدسوسين من بينه الشعارات الاستفزازية بحق الكرد، مسيئين خلالها إلى رموز كردية: الرئيس مسعود بارزاني والرئيس جلال طالباني، وهم يتجولون في شوارع المدينة ما اضطر خطيب جامع زين العابدين أن يوقف خطبته ويستنكر ما يسمعه من صرخات واستعراضات بهلوانية!
وكان هذا الجمهور قد أعد العدة لمواجهة جمهور فريق الجهاد القامشلاوي، من خلال جلب السكاكين وأحجار- سكة الحديد- من مدخل المدينة، ودخل الملعب من مدخل خاص،  بعد أن تواطأت الشرطة العسكرية من خلال إدخالهم عبر مدخل خاص من دون أي تفتيش، بينما تعرض جمهور المدينة المضيفة لتفتيش دقيق من قبل رجال الشرط هؤلاء، إذ إنه ووفق شهود عيان تمت مصادرة: أية صحيفة أو مجلة أو قارورة ماء أو حتى قلم مع أحد، ورفع بعض هؤلاء قبل بدء المباراة صورة للطاغية صدام حسين مع أخرى كتب عليها: الموت القادم من الشرق، وسط الملعب إمعاناً في الاستفزاز، انتصاراً لهذا المجرم الذي ارتكب مجازر بشعة بحق كرد إقليم كردستان في مجزرة حلبجة، ما دفع بجمهور الجهاد- ذي الأكثرية الكردية- أن يرد على هؤلاء بشعارات مواجهة، ليتلقوا بعد ذلك الحجارة والسباب من قبل جمهور الفتوة الذي هب للهجوم عليهم، وقد اكتشفت خيوط المسرحية المخطط لها، من خلال حماية الشرط الجمهور الضيف، ومحاولة منع الجمهور المضيف من المواجهة، قبل وصول محافظ الحسكة الذي كان متواجداً في قامشلي، وقيل من قبل كثيرين كانوا قربه إنه أمر بإطلاق النار، ما أدى إلى استشهاد عدد من الشباب الكردي وجرح آخرين، وبقيت جثث الجرحى في ثلاجات المشفى الوطني، بينما منع تواصل ذوي الجرحى مع فلذات أكبادهم، كي يأتي الفصل التالي من المؤامرة في اليوم الثاني من الانتفاضة 13-3-2004، عندما سمح من قبل اللجنة الأمنية التي اجتمعت في قامشلي، بعد وساطات خيرين، وبتنسيق وإشراف الأحزاب الكردية التي اجتمع مسؤولوها في تلك الليلة، باستلام ودفن أجساد الشهداء الطاهرة بعد الحجز عليها، ليغدر العقل الأمني بتعهد أجهزته بالسماح بتشييع جثامين الشهداء إلى مثواهم الأخير، عبر أحد الوجهاء الكرد الذين تمت الاستعانة بهم، ويتم إطلاق الرصاص الحي على مشيعي الجنازات، وليتم استشهاد وجرح آخرين، وتبدأ الانتفاضة الحقيقة في هذا اليوم، الذي اجتمع فيه مئات الآلاف من الكرد من أبناء المدينة، وريفها، بل ومن مدن المحافظة، كرد فعل على آلة النظام، وتتسع دائرة الانتفاضة، لتنضم إليها المدن الكردية، كما وسينتفض الشباب الكردي خارج مناطقهم في بعض المدن الكبرى، ما أدى إلى اعتقال الآلاف من الكرد، إذ إن كل من كان يضبط في الشارع يعتقل، أو يطلق عليه النار، ولعب الأطباء والصيدلانيون الكرد- كما سيفعل كل الغيارى كل من موقعه- دوراً كبيراً من خلال توفيرسبل معالجة الجرحى في بيوتهم، لأنه كان يتم اعتقال كل جريح يتم إسعافه إلى أي من مشافي المدينة.
 ولقد انقطعت أخبار هؤلاء المعتقلين الأسرى، قبل أن يتم السماح لمحاميهم باللقاء معهم، هؤلاء المحامون الذين تطوعوا مشكلين لجنة من عدد من الغيارى الذين رافعوا عنهم في كل مكان، وقد علمنا بعد أسابيع من الاعتقال الكيفي الذي تم أن المعتقلين ومن بينهم أطفال قاصرون قد تعرضوا لتعذيب وحشي، وكان من نتيجة ذلك استشهاد الشاب فرهاد محمد علي صبري الذي أقمت وعدد من الأصدقاء الذين تعاونوا معي  حفلاً تأبينياً في الذكرى الأولى لاستشهاده، وبمساعدة والده وعائلته، وقيل إن هذا الحفل: كسر هيبة آلة الرعب التي أراد النظام فرضها، والاستفادة مما حدث.
ويأتي هذا الكتاب الثالث في سلسلة الكتب التي خصصتها للانتفاضة- وتأخرت طباعتها كلها- لدواع خارج يدي، إذ كنت قد قررت طباعة ثلاثة أجزاء منها في الذكرى الخامسة للانتفاضة، إلا إنه، وللأسف، لم أتمكن من ذلك بسبب الظروف التي مررت بها، وما آلمني كثيراً أن أرشيف الانتفاضة الشخصي ضاع في أكثره، إذ إنني كتبت لمواقع إلكترونية عديدة، متوهماً أن ذاكرة غوغل أمينة، بيد أن توقف بعض المواقع، وتهكير بعضها الآخر وشيخوخة بل خرف غوغل، أفقدني جزءاً كبيراً من هذا الأرشيف، ناهيك عن المشاكل التقنية التي تعرض لها أكثر من كمبيوتر لي، كان وراء ما اعتبرته كارثة، وكتبت عن ذلك مراراً داعياً إلى جمع أرشيف الانتفاضة، ولم يستجب للنداء إلا الصديق الباحث خليل مصطفى الذي كتب عن الانتفاضة في بدايتها- وإن بأسماء مستعارة- إلا إنه حول تحقيقاً موسعاً له في الذكرى التاسعة عشرة للانتفاضة إلى مشروع أرشفة ذاكرة الانتفاضة، في مشروع داعم لأرشيف الشهادات هذا، بل لأرشيف الانتفاضة كله، ولا أنسى دور هؤلاء الذين أصدروا كتباً عن الانتفاضة، منذ ذكراها السنوية الأولى!*
لقد حزنت كثيراً، على ضياع جزء كبير من أرشيفي الشخصي عن الانتفاضة، نتيجة كل ما ذكرت، وتنقلي من عاصمة إلى أُخرى، بسبب التضييق علي، وتعرض حياتي للخطر، وضيق ذات اليد، إلا إن هاجس الأرشيف ظل يحتل مقدمة أولويات اهتمامي، ولعل مناشداتي عبر وسائل التواصل الاجتماعي- للعمل على جمع أرشيف الانتفاضة- تدل على ذلك.
ثمة مسألة أريد الإشارة إليها، ألا وهي أن بعض الشهادات التي تضمها دفتا هذا الكتاب، ودونت لتكون نواة كتاب في الذكرى الخامسة عشرة للانتفاضة، إنما كتبت بعد خمس عشرة سنة على هذه الانتفاضة، وهناك من بينها شهادات كتبت عشية الذكرى العشرين للانتفاضة، ولكم كان مهماً لو إن الظروف أتيحت لنا وتم توثيق مثل هذه الشهادات بعيد الانتفاضة، مباشرة، لئلا يتم نسيان تفاصيل جد مهمة عما تم منذ لحظة دخول أول حافلات جمهور الفتوة القادم من ديرالزور- صاحب شعارالموت القادم من الشرق- كما رفعوا لافتة بذلك، متحدين ومستفزين مشاعر وإرادة الكرد، لكان ذلك أكثر أهمية. أذكر أنني في ندوة أقيمت للشهيد مشعل التمو و لي بعد بضعة أسابيع على الانتفاضة في” استوكهولم” قلت للحضور الكبير الذي أمّ صالة الندوة:
” أرى ضرورة التوثيق، من قبلكم، ذاكراتنا معرضة للنسيان، ما وصلني وقلته في الأيام الأولى التي تلت الانتفاضة، ها أكاد أنساه، فكيف سيكون عليه الحال بعد سنة، أو كذا سنة؟”
من هنا، فإنني بدأت أسمع بعض ما ليس له علاقة بالانتفاضة من قبل من لم يكن لهم دور بعد محاولة قمعها، وفي مرحلة أسابيع الرعب، إذ ثمة من بالغ في دوره أو دور سواه، أو قزم أدوار آخرين، ومع سقوط آلة الخوف تدريجياً بدأنا نسمع الكثير من التزوير الذي لا يخفى على المتلقي النبيه، إلا إنه سيغدو فيما بعد تأريخاً، وهنا مكمن الخطورة على الأمانة العلمية والتاريخية..!
قد يلاحظ القارىء الكريم تناقضاً بين شهادة وأخرى، إذ إن كلاً منها يبين موقف صاحبها، إلا إنها جميعها تركز وتتفق على مدى بشاعة آلة القمع بحق هؤلاء المدنيين العزل ما دفع الكرد العزل للانتفاضة في وجه آلة الاستبداد، كما أشير إلى أنني لم أتدخل في متون نصوص من ساهموا بشهاداتهم، سواء أاتفقت معها أن اختلفت، مضطراً إلى إجراء بعض التصحيحات النحوية أو الإملائية، من دون التدخل في السياق البتة. كما إنني لأعتذر كثيراً من الأخوات والأخوة الذين أرسلوا شهاداتهم إلي في وقت مبكر، وتأخر نشر هذا الكتاب إلى الآن.
وأخيراً، أحيي أرواح شهداء الانتفاضة الذين روت دماؤهم التراب في: مدن الجزيرة وعفرين  ونضال ووقفة أهلنا في كوباني وفي مدن التواجد الكردي. ومنهم طلاب الجامعات، من دون أن أنسى الشهداء الأحياء الذين يحملون آثار جروحهم نياشين تدعو للكبرياء، وأحيي هؤلاء الأبطال الذين واجهوا السجان في زنزاناتهم بشجاعة جعلت آلة النظام تهتز في دمشق، بل على امتداد خريطة- جمهورية الرعب- ما دعا ابن الطاغية الأسد ماهر الأسد يقول: سأمحو مدينة عامودا التي حطمت تمثال أبيه من الوجود.
تحية إلى أبناء شعبنا الذي التفَّ حول انتفاضته: في داخل الوطن وخارجه، إذ إن الشباب الكردي في الخارج استطاع أن يوصل صوت الانتفاضة إلى العديد من عواصم العالم، ما اضطرَّ رأس النظام إلى التراجع وإصدار ما سمي بالعفو الذي كانت لي فيه كلمته، بالقول: من يعفو عمن؟ وأي عفو يستطيع استعادة الشهيد إلى أمه الثكلى وأسرته إلخ!
إبراهيم اليوسف
إيسن/المانيا
أوائل شباط 2024
1-  أصدر كل من د. رضوان باديني- أ. صلاح بدرالدين- أ.محي الدين عيسو- وربما آخرون سواهم كتباً عن الانتفاضة!
في كتابه “القبيلة الضائعة” ل إ. إبراهيم محمود مساهمة مطولة عن الانتفاضة.
2- يأتي ترتيب الشهادات والحوارات بحسب تسلسل ورودها إلي  ضمن فترة  زمنية امتدت حوالي ست سنوات!
3- تم الاكتفاء بصفات: ناشط- سياسي- كاتب- معتقل- قيادي إلخ.. لجميع الأخوات والأخوة الكاتبات و الكتاب المشاركين مع حفظ الألقاب والتقدير لتعاونهم الكبير.
4- لم يتم التدخل من قبل المؤلف في آراء السادة الكتاب
5- وجهت الأسئلة إلى من كانوا في الوطن أثناء الانتفاضة
6- مساهمة أ.خورشيد شوزي بمثابة مقدمة ثانية-
3- بعض الأصدقاء الذين وجهت إليهم دعوة الكتابة لم يتمكنوا من المشاركة نتيجة ظروف خاصة بهم
7- أخبار حلب وعفرين كانت تصلني عبر: حفيظ عبدالرحمن وحسو عفريني. كما إن العشرات من المقربين في الجزيرة والمناطق الكردية ومناطق تواجد الكرد كانوا يزودوننا بالانتهاكات التي كانت تتم يومياً. تحية لهم جميعاً….
……….. يتبع
الحلقة الثانية:
خورشيد شوزي: انتفاضة الكرد 2004

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…