حقيقة فوز الديمقراطية في تركيا

درويش محمى

الانتصار الساحق لحزب العدالة والتنمية التركي في الانتخابات التشريعية الاخيرة, لا يعد مجرد حدث انتخابي عادي, بل هو حدث مفصلي كبير في غاية الاهمية, ويحمل في طياته الكثير من الحقائق الجديدة المؤثرة, سواء على الصعيد التركي ام الاقليمي وحتى العالمي .
الحقيقة الاولى, والاهم باعتقادي, تكمن في ظاهرة حزب العدالة والتنمية التركي الفريدة من نوعها, كحركة اسلامية معتدلة عصرية, هذه الظاهرة الجديرة بالاحترام والاهتمام معاً, اثبتت وبشكل قاطع ان الاسلام السياسي المعتدل المنفتح على العقل والمنطق, والقابل للحداثة والعصرنة, قادر على خوض غمار السياسة بنجاح منقطع النظير, اذا اقترن نهجه بالواقعية السياسية والاصول الديمقراطية والبعد عن التزمت, كالاحزاب السياسية المسيحية الغربية
واعتقد ان التجربة الاسلامية التركية الناجحة, ستشكل من اليوم وصاعداً, شئنا ام ابينا, انموذجاً مثالياً للاسلام السياسي, ليس في تركيا وحدها بل ستمتد الى كل ارجاء العالم الاسلامي, ومن المفترض ان تحظى بالتأييد الدولي كبديل عن الاسلام المتطرف والاسلام الارهابي .


الحقيقة الثانية والتي لا تقبل الجدل, ان الناخب التركي باختياره لحزب رجب طيب اردوغان الاسلامي المعتدل, وللمرة الثانية على التوالي, بعد تجربة حكم ناجحة لمدة خمس سنوات, اثبت انه يملك الحس الصحيح في اختيار ممثليه في الحكومة والبرلمان, وفضل النزيه الذي بامكانه تأمين حياة افضل للمواطن والقادر على تحقيق التطور الاقتصادي والاجتماعي على القومي المثالي والشعاراتي, وبامتلاك الناخب التركي لمثل هذه البوصلة المتطورة الواعية, تكون تركيا قد دخلت الى عالم الديمقراطية من اوسع ابوابها, والانتخابات التشريعية الاخيرة تعتبر بحق مفصلا حاسما في انتقال تركيا من مرحلة شبه الديمقراطية الى صلب العملية الديمقراطية, والسبب ببساطة يكمن في الوعي الذي برهن الناخب التركي انه يمتلكه, بحيث يشكل الناخب الضمانة الاساسية لدمقرطة المجتمع التركي .
الحقيقة الثالثة التي افرزتها الانتخابات التشريعية التركية الاخيرة, تثبت بما لا يدع مجالاً للشك, امكانية نجاح التجربة الديمقراطية ¯ على الطريقة الغربية ¯ في بلدان المشرق الاسلامي, لا بل تثبت حتمية نجاحها, كما تثبت ان شعوب منطقتنا شأنهم شأن الشعب التركي, قادرة على ممارسة الديمقراطية وبناء مجتمعات مدنية معاصرة, عكس ما يبشر به منظرو ثقافة الاستبداد من قوميين واسلاميين متطرفين, فالمجتمع التركي ينتمي للاسلام والشرق, ولايختلف عن غيره في الوسط الاسلامي والمشرقي, والذي يجري في تركيا اليوم ممكن تكراره في اي بقعة من العالم الاسلامي, والتجربة التركية الناجحة تؤكد مدى وهن وهزالة نظريات فقهاء الاسلام المتطرف وسفهاء الفكر”القومي” ومنظري ثقافة الاستبداد ودعاة النهج الشمولي, الداعية بخصوصية الشرق واستحالة تطبيق الديمقراطية .


الحقيقة الرابعة والاخيرة, تؤكد ان الايديولوجيا الحزبية والشعاراتية لم تعد بحد ذاتها, تشكل العامل الحاسم في التأثير على خيارات الناخب الحر, بل البرنامج الانتخابي ومايقدمه المنتخب للناخب, من خدمات معيشية واسعة, صحية وتعليمية واجتماعية وغيرها, والمسألة تكمن في الاساس على مدى التزام هذا الطرف او ذاك بالعملية الديمقراطية ومدى الشفافية والنزاهة والاخلاص الذي يتمتع به, فالايديولوجيا الحزبية لا تأثير لها في المجتمعات الديمقراطية والمتحضرة, وهي ظاهرة مقتصرة على المجتمعات الشمولية والاستبدادية المتخلفة, وتستخدم حصراً لتمرير سياسات استبدادية, فالناخب الغربي يصوت للافضل بغض النظر عن المسميات والايديولوجيات, والناخب التركي كذلك صوت للافضل, واختار حزب العدالة والتنمية الاسلامي التركي المعتدل, لقيادة البلاد لخمسة اعوام قادمة .
رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان, كان محقاً بقوله “ان فوز حزبه هو نصر للديمقراطية في تركيا”, فقد اختار الناخب التركي النهج الديمقراطي الذي يمثله حزب العدالة والتنمية الاسلامي, ولم يصوت للاحزاب التركية الحليفة والداعية للابقاء على نفوذ الجيش وهيمنته في الحياة السياسية, كما اختار الناخب النزاهة والكفاءة التي تميز به اردوغان وحزبه, وفضلهم على العنتريات القومية والشعارات الاتاتوركية للاحزاب التقليدية التركية .
على الرغم من كون الديمقراطية اصبحت حقيقة ثابتة في تركيا, ستبقى تركيا تعاني من ازمتين لابد ان تجد لهما حلولا ناجعة, المسألة الكردية وتعقيداتها, والجيش المهزوم الذي سيستغل في المستقبل المسألة الكردية كذريعة للعودة الى التدخل في الحياة السياسية للحفاظ على امتيازاته, وحكومة اردوغان التي صوت لها الكرد بكثرة, بالاضافة للبرلمانيين الكرد المستقلين, سيجدون انفسهم امام امتحان صعب في الفترة المقبلة, ويتوقف الكثير على مرونة الطرفين ودهائهم في التعامل مع التحديات المقبلة, وفي كل الاحوال ستبقى الديمقراطية التركية ناقصة من دون ايجاد حل سلمي وعادل وديمقراطي للمسألة الكردية .

——
* كاتب كردي سوري
d.mehma@hotmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بوتان زيباري   يا سوريا، يا رعشة التاريخ حين يختلج على شَفَة المصير، ويا لُغزَ الهوية حين تُذبح على مذبح الشرعية، ما بين سراديب القهر وأعمدة الطموح المتداعية. أنتي ليستِ وطناً فقط، بل أسطورةٌ تمشي على أطرافِ الجراح، تهمس للحاضر بلغةٍ من دمٍ، وتُنادي المستقبل بنداءٍ مختنقٍ بين الركام. أيُّ قدرٍ هذا الذي يجعل من أرض العقيق محرابًا للدم، ومن…

نتابع، في الشبكة الكردية لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، بقلق بالغ تصاعد حالات اختطاف الأطفال القُصَّر، خاصة الفتيات، من قبل ما تُسمى بـ”منظمة جوانين شورشكر” أو “الشبيبة الثورية”. حيث يُنتزع هؤلاء الأطفال من أحضان عائلاتهم ويُخفَون في أماكن مجهولة، دون تقديم أية معلومات لأسرهم عن مصيرهم. لقد حصلنا على قوائم بأسماء عدد من القاصرين والقاصرات الذين تم اختطافهم…

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم منذ سقوط النظام، وشهدت البلاد تحولًا سريعًا- يشبه ما يحدث في الخيال العلمي- وكأنها عاشتها على مدى قرن بل قرون. هذه الفترة القصيرة كانت مليئة بالأحداث الجسيمة التي بدت وكأنها تحولات تاريخية، رغم قصر الوقت. ومع كل هذه التغيرات، تبقى الحقيقة المرة أن السوريين يواجهون تحديات أكبر من أي وقت مضى. بدأت المرحلة الجديدة…

نظام مير محمدي*   في خطبته التي ألقاها الولي الفقيه علي خامنئي بمناسبة عيد الفطر قال وهو يشير الى التهديدات المحدقة بالنظام الإيراني: “يهددوننا بالشر. لسنا على يقين بأن الشر سيأتي من الخارج، ولكن إن حصل، فسيتلقون ضربة قاسية. وإذا سعوا لإشعال الفتنة في الداخل، فإن الشعب الإيراني سيتولى الرد”، وفي کلامه هذا الکثير من الضبابية وعدم الوضوح لأن…