وفي الاول من اذار ايضا من عام 1979 وفي حدث احزن كل شعب كوردستان ، وبعيدا عن ارض الوطن ، لفظ القائد الخالد مصطفى بارزاني انفاسه الاخيرة راحلا بجسده عن هذه الدنيا بعد ان سجل لشعبه ماثر خالدة ومشرقة لايمكن ان تنسى ، لكن روحه الطاهرة ومبادئه بقيت خالدة في ضمير الاجيال الكوردية تنير لهم سبل المضي على درب المناضلين من اجل تحقيق كل اماني الشعب في التحرر واعادة كل المناطق المستقطعة الى الجسد الكوردستاني.
وفي عودة الى بدايات الستينات من القرن الماضي كان ثمة صحفيين اجانب اوروبيين واميركان يغامرون للوصول الى جبال كوردستان للاتصال بالثوار وقائدهم مصطفى بارزاني للتعرف منهم على هوية الكورد ومطالبهم وتفاصيل الثورة التي كانت كل الدول الاقليمية والدولية الاخرى تحاول خنقها بكل الاساليب القذرة من اجل مصالح خاصة .
ومرة التقى احد هؤلاء الصحفيين باحد افراد البيشمركة وسأله : لماذا تحمل السلاح وتقاتل الحكومة العراقية ؟ فرد عليه: انني احمل السلاح دفاعا عن شعبي وعن وطني ومن اجل حرية كوردستان واستقلالها.
وبعد ان التقى الصحفي بالمرحوم البارزاني قال له ان رجالك يدعون الى استقلال كوردستان ما رأيك ؟
فأجابه البارزاني الخالد ان الذي قال لك ذلك الكلام يحس بثقل ظلم كبير يعاني منه ، الا ترى ان له الحق في ان يتحررمن ثقل هذا الظلم؟
ومن هنا ايضا يمكن ان نفهم ان البارزاني لم يكن يركض نحو تبوأ مركز القيادة ..او بمفهوم اوضح ..
نحو السلطة ، بل ان واجب القيادة في الليل الكوردي هو الذي كان يأتيه مفوضا من فقراء الكورد ، من الفلاحين والكسبة والعمال والطلبة نساء ورجالا الذين كانوا يرفضون الظلم ورأوا فيه ذلك الشخص الذي يمكن ان يقود شعب كوردستان نحو الحرية والديمقراطية والحياة الافضل ، فكان الكورد يعرفونه ويثقون به ليس كرئيس حزب بل كقائد شعب.
اما اعداء البارزاني من حكام العراق انذاك وحكام الانظمة المجاورة التي حاربت الكورد وما زالت تمارس سياسات التامر والمراوغات والتهديد المباشر وغير المباشر ، فكانوا قد استولوا على مراكزهم بألف حيلة وخديعة ، بعد ان اذاقوا ابناء شعوبهم مر العذاب ، ولم تفدهم الالوان الفاقعة للديمقراطية المزيفة ، وادعاءاتهم الفارغة في الوطنية والدفاع عن الوحدة الوطنية وغيرها من الشعارات الفارغة التي تبين انها مجرد فذلكات و ثرثرة لا جدوى منها .
كان البارزاني الخالد طويل البال صبورا ومستعدا للحوار والتفاوض دائما ، مؤكدا من ان بندقيته ليست موجهة الى صدر الشعب العراقي او العربي بل موجهة الى من يقمع شعبه الكوردي ، ولذلك لم يأمر ابدا بتنفيذ اية عملية مسلحة يكون المدنيين ضحيتها ، وكان يستطيع ان يفعل الكثير لو اراد ، ولكن اخلاقيته الثورية الاصيلة و النظيفة ، وتربيته الوطنية الكوردية المتأصلة في ذاته وسلوكه لم تسمح حتى ان يفكر بتلك النوعية من الفعل العنيف ، واستمر النهج السليم نفسه فيما بعد وتحت قيادة الرئيس مسعود البارزاني الى الان ، وكلنا نعلم كيف ان الارهاب العنصري يقتل الكورد (المسلمين منهم او الايزدية او الشبك) في شوارع الموصل وكركوك وعلى الهوية حالهم حال الاخوة المسيحيين ، ولكن دون ان يكون هناك اي رد فعل عنيف من القيادة الكوردستانية خارج القانون في متابعة المجرمين الذين لا بد ان يأخذوا القصاص القانوني الذي يستحقونه اليوم او غدا .
.
وفي المجال العسكري كان القائد البارزاني قد ارسى مدرسة قتالية خاصة بالبيشمركة الكوردستانية تعتمد ( حسب خبراء عسكريين) على البقاء في حالة الدفاع مع هجمات سريعة باستعمال تكتيكات حرب العصابات خارج المدن ، لانهاك العدو والحاق اكبر اذى به مع محاولة عدم اعطاء ضحايا في المواجهات ، والرد على هجمات العدو بكتائب صغيرة ، واتخاذ التدابير العسكرية لمنع القوات المعادية من الوصول الى المواقع الستراتيجية (قمم الجبال ، المضائق ، الجسور وغيرها) والقرى الامنة والمواقع الخاصة بالقيادة والادارة ، وقلما اعطى الاوامر لخوض حرب الجبهات الكبيرة عدا معركة هندرين التي شاركت فيها فصائل من الحزب الشيوعي بفعالية كبيرة اشار اليها الرئيس مسعود بارزاني في كتابة (البارزاني والحركة التحررية الكوردية) ، وفيما بعد كانت هناك معارك سه ري حسن بك( ١٩٧٤ – ١٩٧٥ ) التي كانت ايضا في احد جوانبها معارك دفاعية ، من اجل الدفاع عن حوض كلالة حيث المواقع الادارية للثورة ، وقد حشدت لها اعداد غفيرة من قوات البيشمركة ، كنت حينها اعمل في اذاعة الثورة وكنا نرى بأم اعيننا الاعداد الكبيرة من البيشمركة يأتون من جبهات اخرى ليلتحقوا برفاقهم على مرتفعات سه ري حسن بك حيث الحقوا بجيش النظام هزائم كبرى .
لم يكن الراحل البارزاني يفوت اي فرصة سلام تلوح له من اجل حقن الدماء و الوصول الى حل مع الحكومات العراقية ، ولكن في الوقت نفسه كان حازما وحاسما عندما كان الموقف المبدئي يتطلب المواجهة ويرى ان الجانب الاخر يحاول الخداع واستثمار الوقت لصالحه ، لم يتهيب البارزاني ما تسميه القوى المعادية للكورد بالعقدة الكوردية غير القابلة للحل للسبب الجيوبوليتيكي الملعون ، ولم يتهيب من قوة وعدد وعدة خصوم شعبه ، كان واثقا من انه يقود شعبا مناضلا وطموحا وعنيدا وصابرا لا تهابه التضحيات الكبيرة ، ومعتدا بثبات ابنائه البيشمركة الاتين من الريف ومن المدارس والجامعات ومن اوساط العمال والكسبة في مواصلة مسيرة الدفاع عن شعبهم وتحقيق طموحاته القومية والديمقراطية ، ففي مسألة كركوك وفي الساعات الاخيرة من المفاوضات التي كانت تجري في بغداد في اذار عام ١٩٧٤ والاتفاق على الكثير من التفاصيل ، وافق الجانب العراقي على نظام للادارة المشتركة لمدينة كركوك ، وعند عرض الامر على القائد البارزاني رفض التوقيع على اية وثيقة توحي الى اي شك في كوردستانية كركوك او اي تنازل عن اية بقعة من ارض كوردستان ، لكن البارزاني قرر خوض غمار النضال المسلح الثوري من جديد ، وكان يعطي بذلك درسا للاجيال الكوردية اللاحقة بأن لا مساومة على الثوابت الكوردستانية مهما كلف ذلك من ثمن ، والموقف الذي تقفه القيادة السياسية الكوردستانية اليوم بكل فصائلها وقواها هو امتداد لنهج البارزاني الخالد في التعاطي مع متطلبات النضال .
لم يدخر اعداء الشعب الكوردي سلاحا او سلوكا مشينا الا واستعملوه ضد الحركة الوطنية التحررية الكوردية ، وكانوا يحاولون ان ينفذوا فعلتهم هذه من خلال الاساءة الى شخص الزعيم الراحل مصطفى البارزاني ، لآنهم كانوا يدركون معنى الرمز مصطفى البارزاني في الضمير الكوردي .
حاول بعض مزوري التاريخ ان يصوروا البارزاني بأنه لم يكن الا ورقة على طاولة السياسات الغربية والايرانية والاسرائيلية ، في حين ان هؤلاء انفسهم لا يفوتون اية فرصة من اجل الخنوع لاسرائيل والغرب عموما ، و كل منصف يعرف ان هدف ترويج هذا الطرح هو اساسا لتشويه صورة الحركة التحررية الكوردية عبر محاولة بائسة لتشويه صورة قائد الحركة ، فالبارزاني في كل مراحل نضاله كان له اجندته وتصوره وفهمه وبالتالي كان لاعدائه واصدقائه ايضا تصوراتهم واجندتهم ، والبارزاني كان يفحص مكامن الولوج الى تلك الشبكة المعقدة من المصالح والتكتيكات واللعب السياسية التي كانت اميركا وحلفائها في المنطقة يديرونها ، يقول جوناثان راندل في كتابه (امة في شقاق -ترجمةفادي حمود -دار النهار ١٩٧٧ – صفحة ١٩٩) وهو يتحدث عن رغبة الشاه في دفع الكورد الى القتال عام ١٩٧٤ ما يلي :
(..لكن الشاه كان يدرك ان البارزاني لا يثق به، سيما وانهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد) ويتحدث عن سبب عدم الثقة هذا فيعيده الى التاريخ الاسود لنظام الشاه ضد جهورية كوردستان الديمقراطية في مهاباد ١٩٤٦ ومواقف النظام نفسه ضد البارزانيين بعد سقوط الجمهورية الكوردية.
ان هذه الاشارة تدلل على ان البارزاني كان يتحسب كثيرا لعلاقاته ولخطواته ، ولكن يبقى ان نقول ان وعد كيسنجر للبارزاني وتراجعه عنه في وقته ١٩٧٥ كان مراة للسياسة الاميركية في عهد نيكسون ، ولكن مع عظم المصيبة التي المت بالشعب الكوردي اثر مؤامرة الجزائر القذرة ، وانسحاب البارزاني وقواته الى ايران وعودة الكثيرين الى العراق ، الا ان البارزاني ومنذ تلك اللحظة لم يغب عن باله ان يهيئ للثورة من جديد ، اذ كان يرى ان مرحلة انتهت لكن الكورد ما زالوا موجودين فقضيتهم اذن موجودة ولابد من المواصلة حتى ولو بعد حين.
مصطفى البارزاني سيبقى ذلك الرمز الخالد الذي ايقظ كوردستان من غفوتها ، وقاد نضالات شعبها في امر الظروف واحلكها ، والذي دعا وبأستمرار الى وحدة قوى كوردستان السياسية ، والتاخي بين كل مكوناتها القومية من كورد و تركمان وكلدواشوريين وارمن وعرب ، هو ذلك الرمز القومي الكبيرالذي وحد الهم الكوردي من اسوار دياربكر وديرسيم الى عيلام وكرمنشاه ومهاباد والقامشلي والسليمانية واربيل ودهوك.
انه ذلك الصقر الجبلي الذي يفرد جناحيه على جنبات وقمم جبال زاكروس رمزا شامخا للماضي وعناد الثوار ، ورمزا يقتدى لمرحلة الانتفاضة وتأسيس الادارة الحكومية الكوردستانية ، ونهجا للمستقبل الذي يحلم الكوردستانيون به جميعا …المستقبل الذي يرونه شعلة لم تخب يوما وظلت متوهجة في عيني البارزاني وقلبه وقلقه و تمرده وطيبة معشره وهو اقرار حق تقرير المصير لشعب كوردستان .