قضية للنقاش: نحو مؤتمر طائف سوري بدلاً عن جنيف دولي

م.رشيد   

    تعد سوريا قلب الشرق الأوسط الحبلى بالصرعات والأزمات بحكم موقعها الهام جغرافياً وديمغرافياً، فهي من دول الطوق المقاوم لإسرائيل، والجارة الجنوبية للحلف الأطلسي، وبوابة العبور إلى إيران والشرق الأقصى عبر العراق، ونافذة الشرق المطل على الغرب عبر المتوسط، إضافة إلى غنائها بالثروات الطبيعية، البترولية منها بشكل خاص.

     استقرار سوريا سياسياً واقتصادياً لعقود من الزمن كانت تراعي إلى حدٍ ما أجندات كافة الأقطاب الدولية نسبياً وتوافقياً إلى أن جاءت ثورات الربيع العربي، وعكست حقيقة اختلاف الإرادات وتناقض المصالح واختلال التوازنات، وذلك لحدوث تغيرات ملموسة وسريعة على الخارطة السياسية إقليمياً ودولياً، والتي استدعت إعادة الحسابات وترتيب الأوضاع من قبل صناع القرار الدوليين، الذين كانوا وراء تعبئة شعوب المنطقة بوسائلها الدعائية والتحريضية لتنتفض ضد أنظمتها تحت عناوين الإصلاح والتغيير والانتقال إلى حياة تسودها الديمقراطية والكرامة والحرية..
    تحولت تلك الثورات إلى أزمات إنسانية كارثية تنتج القتل والدمار وتخلف المأساة والمعاناة ..والحالة السورية أكثرها قساوةً وبشاعةً وفداحةً ..ومازالت تلك القوى مستمرة في إدارتها وإدامتها.

    لقد جعلت تلك القوى من سوريا مسرحاً لتصارع المصالح والمحاور، وساحةً للمساومات وتصفية الحسابات، فالروس لن يتخلوا عن آخر موضع قدم لهم على المتوسط في ظل استنهاضهم لقواهم واستعادتهم لمكانتهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وإعلانهم إنتهاء حقبة القطب الواحد وابتداء مرحلة جديدة من الحرب الباردة لمواجهة الغرب عسكرياً واقتصادياً بكل الوسائل والطرق، فقد أنذروا من سوريا، ونفذوا في أوكرانيا.  
     كما أن إيران آيات الله لن تقبل بسقوط النظام، التي تعتبره جزءاً أساسياً من مشروعها الاستراتيجي(الهلال الشيعي)، وتركيا العثمانية لن تدع إيران بالسيطرة على حدودها الجنوبية والتي ستحد من امتدادها الحيوي نحو الحاضنة السنية العريضة بلاد الشام ومصر والخليج جنوباً، أما إسرائيل فهي لن تسمح لإيران أن تصل إلى حدودها عبر حلفائها كحزب الله اللبناني، ولا لتمتلك أسلحة الدمار الشامل كالنووي أو الكيماوي، فتهدد أمنها ووجودها، وكذلك دول الخليج العربي الرافضة والمانعة للتمدد الإيراني إلى داخلها وجوارها، والغرب وإسرائيل معاً متفقان تماماً على إنهاك سوريا وإخراجها من جبهة المقاومة، ومن معادلة الصراع الاقليمي.
   مع استمرار الأزمة, تتناحرمكونات الشعب السوري فيما بينها بالنيابة عن القوى الدولية المتصارعة، فكل قوة منها تدعم مكوناً بدافع عرقي أو طائفي أوديني بشكل أو بآخر، وتحت عناوين شتى و شعارات عدة، وتفتح الأبواب أمام جميع الخيارات لتعقد الأوضاع وتخلط الأوراق، لتخلق ظروفاً خاصة تحصّن مواقعها على الأرض كي تفرض شروطها وأجنداتها على باقي الأطراف لتحقق المكاسب في مواقع أخرى، هذه من جهة، ومن جهة أخرى إن تعاظم قوة المجاميع الراديكالية المتطرفة وبخاصة المرتبطة بمنظمات القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها، وتوسع نطاق سيطرتها، من شأنها تهديد الأمن والاستقرار في كل المنطقة، وبالتالي ضرب مصالح جميع الأطراف المعنية والداخلة بالأزمة السورية.
    كما أن إطالة أمد الأزمة, تؤكد استحالة الحسم العسكري لصالح أي طرف, بالتالي لابد من حل سياسي بين الأطراف المتصارعة على أساس تبادل المصالح وتوزيع المواقع ..، وتطبيقه على الأرض يتم على الطريقة اللبنانية (بعد التعديل الموافق للحالة السورية) بتقاسم السلطات والثروات وفق نسبة وتركيبة المكونات العرقية والدينية والطائفية وحضورها على الخارطة السورية..، ووضع دستورعصري توافقي يضمن حقوقها ويلبي طموحاتها وتطلعاتها، والدلائل تشير أنه لابد من مؤتمر طائف سوري الهوية كبديل عملي وواقعي لمؤتمر جنيف الدولي، الذي فشل بالرغم من الرعاية الأممية له.
   وفي اطار البحث عن مخارج للازمة، يبدو أن عقد مؤتمر وطني تمثيلي لجميع المكونات ضروري للخروج من الأزمة الخانقة والمتفاقمة, يحقق لكل الأطرف المعنية والمنخرطة فيها غاياتها و أهدافها ضمن حدود التراضي و التوافق, والشراكة ضم دولة اتحادية ديمقراطية تعددية علمانية, تتوفر فيها مساحة كافية من الحرية والإدارة الذاتية ضمن المحافظات والمناطق مراعية خصوصياتها القومية والدينية والثقافية والاجتماعية..، والانطلاقة تبدأ بالاعتراف بالأمر الواقع وفشل كافة أشكال الحكم الشمولية والمركزية ذات الطابع القومي أو الديني، والتي كانت محتكرة من قبل طائفة أو قومية معينة..دون باقي المكونات الأساسية والأصيلة للوطن السوري.
    إن تفرد أي مكون بالسلطة وتحت أي مبرر سياسي أوغطاء قانوني أو شعار وطني سيلحق الغبن والظلم بباقي المكونات، ستخلق القلاقل والاضطرابات، وستنعدم الأمن والاستقرار، وستستمر الصراعات وستعرقل التنمية والتطور في البلاد, وما الاوضاع الكارثية والوخيمة التي نعيشها الآن إلا نتيجة مباشرة  لتلك النماذج التي فرضتها الدول الاستعمارية حفاظاّ على استمرار سياستها وضمان مصالحها.

————    انتهت    —————-

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

جليل إبراهيم المندلاوي   في خبر عاجل، لا يختلف كثيرا عن حلقة جديدة من مسلسل تركي طويل وممل، ظهرت علينا نشرات الأخبار من طهران بنغمة هادئة ونبرة مطمئنة، تخبرنا بأن مفاوضات جديدة ستعقد بين إيران وواشنطن، هذه المرة في “أجواء بناءة وهادئة”… نعم، هادئة، وكأنها نُزهة دبلوماسية على ضفاف الخليج، يتبادل فيها الطرفان القهوة المرة والنظرات الحادة والابتسامات المشدودة. الاجتماع…

إبراهيم اليوسف بعد أن قرأت خبر الدعوة إلى حفل توقيع الكتاب الثاني للباحث محمد جزاع، فرحت كثيراً، لأن أبا بوشكين يواصل العمل في مشروعه الذي أعرفه، وهو في مجال التوثيق للحركة السياسية الكردية في سوريا. بعد ساعات من نشر الخبر، وردتني رسالة من نجله بوشكين قال لي فيها: “نسختك من الكتاب في الطريق إليك”. لا أخفي أني سررت…

مع الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر وطني كردي في الثامن عشر من نيسان/أبريل 2025، في أعقاب التفاهمات الجارية بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأحزابه المتحالفة ضمن إطار منظومة “أحزاب الاتحاد الوطني الكردي”، والمجلس الوطني الكردي (ENKS)، فإننا في فعاليات المجتمع المدني والحركات القومية الكردية – من منظمات وشخصيات مستقلة – نتابع هذه التطورات باهتمام بالغ، لما لهذا الحدث من أثر…

فرحان كلش   قد تبدو احتمالية إعادة الحياة إلى هذا الممر السياسي – العسكري ضرباً من الخيال، ولكن ماذا نقول عن الابقاء على النبض في هذا الممر من خلال ترك العُقَد حية فيه، كجزء من فلسفة التدمير الجزئي الذي تتبعه اسرائيل وكذلك أميركا في مجمل صراعاتهما، فهي تُسقط أنظمة مثلاً وتُبقى على فكرة اللاحل منتعشة، لتأمين عناصر النهب والتأسيس لعوامل…