بدرالدين
مكثفة بين المؤسسات المعنية إستمرت لعدة أيام، صرح مسؤولون أتراك لصحيفة – صباح
ديلي نيوز – المقربة من أوساط حزب العدالة والتنمية الحاكم بأن أنقرة (قررت دعم
التحالف الدولي المتنامي ضد تنظيم الدولة الإسلامية بما يشمل إعطاء معلومات
إستخباراتية و تقديم المساعدات الإنسانية والأمنية، لكنها لن تنخرط، مع ذلك، في
أنشطة عسكرية مباشرة ضد التنظيم الذي يحتجز منذ ثلاثة أشهر 49 من مواطنيها أسرى).
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تأمل في أن تشغل تركيا، بإعتبارها عضوا مهما في
حلف شمال الأطلسي، وأحد أهم الدول الإسلامية “السنية”، موقعا رياديا في
التحالف الدولي الواسع الذي تعمل واشنطن على إنشاءه من أجل مجابهة الخطر المتنامي
الذي بات يشكله تنظيم داعش على مصالح حلفاء واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، وعلى
مصالحها الإستراتيجية ومصالح حلفاءها الغربيين.
لكن إستنكاف أنقرة عن التوقيع على البيان
الختامي لإجتماع جدة الذي ضم في قوامه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا مع
عشر دول عربية قبل أيام، جعل واشنطن تشعر بخيبة أمل، وإن هي حرصت على إخفاءها تحت
عبارات دبلوماسية فضفاضة، مما يعيد إلى الأذهان الموقف التركي من التحالف الدولي
الذي قادته الولايات المتحدة قبل مايزيدعلى عقد من الزمان من أجل الإطاحة بنظام الدكتاتور
السابق صدام حسين، عندما رفض البرلمان التركي الذي كان يهيمن عليه حزب الحرية
والعدالة على التصويت ضد إعطاء الحكومة تفويضا يخولها الموافقة على مرور ستين ألف
جندي أمريكي عبر الآراضي التركية إلى العراق، مما سبب إرباكا حقيقيقا
للأمريكان الذين سارعوا إلى تغيير خططهم العسكرية على وجه السرعة، مستعيضين عن
الدور التركي بإقليم كردستان العراق من أجل ردم الهوة المتشكلة ونجاح الحملة
الدولية ضد نظام صدام. وقد أدى الموقف التركي إلى فتح فجوة كبيرة في العلاقات
الأمريكية – التركية لم تجسر حتى الآن. ورغم أن الكثير من المحللين الأتراك، ومنهم
مقربون من أوساط السلطة الحاكمة، يعتقدون بأن موقف أنقرة آنذاك كان “خطأ
إسترتيجيا فادحا” أدى إلى تقوية دور كردستان العراق في الإستراتيجية
الأمريكية في الشرق الأوسط على حساب موقع أنقرة، فإن السياسة التركية الحالية
المترددة في الإنخراط في تحالف دولي واسع ضد أحدى أكثر القوى ظلامية ودموية،
وبالضد من توجهات حلفائها الغربيين وخصوصا واشنطن، يشير بوضوح إلى أن إلى
أسباب التردد التركي الرسمي هي أبعد كثيرا من مجرد وجود عدد من المواطنين الأتراك
أسرى لدى داعش، حتى مع الأخذ بعين الإعتبار أهمية هذا الموضوع لإبعاده الإنسانية
والسياسية بإعتبار أن معظمهم دبلوماسيين.
هناك،
بإعتقادنا، أسباب أخرى عديدة وراء التردد الرسمي التركي الذي يرقى إلى درجة الرفض
للدخول في مواجهة مباشرة مع تنظيم داعش الإرهابي من أبرزها:
السبب الأول
هو طبيعة القاعدة الإنتخابية للرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه. فالمعلوم أن حزب
العدالة والتنمية، ورغم الإدعاء بأنه حركة سياسية محافظة، إلا أنه في الواقع تنظيم
يضم في تركيبته، بشكل أساسي، الفئات ذات التوجهات الدينية السنية الواضحة. وأي
إنخراط حقيقي لتركيا في عمليات عسكرية ضد داعش سيفسر من جانب ذات القاعدة الشعبية
كإنحياز إلى جانب “النظام النظام النصيري في دمشق والشيعي الجعفري في بغداد
ضد المجاهدين الذين يبذلون دمائهم رخيصة من أجل الدفاع عن المظلومين من أهل
السنة”، وهو أمرسيكلف أردوغان غاليا، خاصة وأنه مقبل على خوض إنتخابات
برلمانية مصيرية خلال السنة القادمة.
السبب
الثاني، ويستتبع منطقيا السبب الأول المشار إليه أعلاه، هو أن أردوغان حرص على مدى
السنوات العشر المنصرمة على إظهار حكومته كمدافع عن حقوق المسلمين السنة في مختلف
مناطق العالم بحيث أن ذلك أصبح سمة بارزة للسياسة الخارجية التركية تجلت بشكل خاص
في دعمه المبالغ فيه لحركة حماس و دفاعه المستميت عن أخوان مصر ورئيسهم المعزول
محمد مرسي، و التعاطف الواضح مع سنة العراق. وعلى هذا الأساس إنخرط عميقا، وإن بعد
تردد قصير الأمد، في الأزمة السورية. وقد كان أردوغان من أوائل الذين دعوا صراحة
إلى إسقاط نظام الأسد “النصيري”، كما أنه إنحاز بشكل واضح إلى التيارات
الإسلامية في المعارضة السورية من أخوان مسلمين وغيرهم بما فيها كل من جبهة النصرة
وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أي داعش ذاتها. وتتهم الدوائر
الإستخباراتية الغربية تركيا بفتح حدودها للآلاف من المتطوعين الغربيين الذين
إلتحقوا بصفوف الحركات الإسلامية المتشددة في سورية، وبتقديم دعم عسكري ولوجيستي
لهذه التنظيمات في إطار سياستها الرامية إلى الإطاحة بنظام الأسد. ورغم أن تركيا
دأبت على إنكار أي صلة لها بدعم الإرهاب المتنامي في سورية والعراق، إلا أن دلائل كثيرة
تشير إلى أن أنقرة فعلت ذلك خلال السنتين المنصرمتين، ولم تخفف دعمها هذا إلا
مؤخرا تحت ضغوطات غربية متواصلة.
السبب الثالث
يتلخض في الخوف الذي ينتاب الدوائر الأمنية التركية من قدرة داعش على زعزعة
إستقرار البلاد من خلال تحريك خلاياها النائمة في صفوف اللاجئين السوريين في
البلاد التي تعد، بحسب بعض المراقبين، بالعشرات. والجدير بالذكر أن عدد
اللاجئين السوريين المسجلين في الدوائر الرسمية التركية بات يناهز المليون، لكن
يعتقد على نطاق واسع، أن العدد الفعلي هو أكبر من ذلك لواقع أن الكثير من السوريين
يعيشون على نفقهتهم الخاصة خارج معسكرات اللجوء. وقد هددت داعش مؤخرا تركيا
بإستهداف السواح الغربيين الذي يرتادون سواحلها إن هي إنحازت إلى الحلف الأمريكي
ضدها، كما أن أنقرة تتخوف أيضا، حسب بعض المصادر، من قيام داعش بالكشف عن العلاقات
السرية التي تربطها بمؤسسات الدولة التركية مما سيضعها في حرج حقيقي أمام حلفائها
الأوربيين والأمريكيين.
السبب
الرابع، ولكن ليس من حيث الأهمية، هو تخوف تركيا من التداعيات المحتملة لخطة
أمريكا في محاربة داعش على الأمن القومي التركي، وخصوصا فيما يتعلق بالقضية الكرية
سواء في تركيا، أو في جوارها. فالبيشمركة الكردية تبدو الآن القوة الوحيدة التي
تستطيع مواجهة داعش ودحرها من بين قوى عديدة مرشحة للقيام بهذه المهمة. الميليشيات
الشيعية العراقية ليست قوى يمكن للتحالف الغربي الإعتماد عليها في إطار محاربة
داعش كونها تتبع إيران مباشرة وهي ذات عقيدة قتالية معادية للغرب عموما وأمريكا
على وجه الخصوص. والجيش السوري الحر هو الآن من الضعف والتشتت بحيث أن إعادة
هيكلته وتقويته سيحتاج وقتا طويلا. والعشائر العربية في العراق مخترقة على نطاق
واسع من داعش والبعثيين ، كما التنظيمات العسكرية الأخرى الناشطة في سورية والعراق
هي في جلها ذات توجهات دينية متشددة لاتختلف كثير عن داعش إلا في بعض التفاصيل.
ومع تزايد الدعم العسكري والسياسي لكردستان العراق تخشى تركيا من أن هذه الأخيرة
قد “تخرج عن السيطرة” وتتحول من تابع إقتصادي لأنقرة إلى منافس قوي لها
في إطار الإستراتيجية الدولية في منطقة الشرق الأوسط ، وهو ماتعتبره تركيا تحديا
جديا لأمنها القومي.
منذ وصول حزب
العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في عام 2002 تعيش تركيا سياسيا حالة إنفصام واضحة.
فالبلاد التي تطمح إلى عضوية الإتحاد الأوربي، والعضو المهم في حلف شمال الأطلسي
تمارس فعليا سياسية تتعارض في الكثير من مفاصلها الأساسية مع توجهات حلفائها
المفترضين مما يعكس التناقض بين توجهات تركيا كدولة محورية في منطقتي الشرق الأوسط
والبلقان ومايستلزمه ذلك من براغماتية سياسية تتسم بالديناميكية والمرونة من جهة
وبين الطابع التقليدي والمحافظ للقاعدة الجماهيرية للسلطة القائمة التي تضعها في
تعارض مع توجهاتها الوظيفية المفترضة، وهو تعارض بنيوي يبدو أن حله مؤجل إلى إشعار
آخر.