جناية استفتاء الاستقلال ونهاية التاريخ الكردي «1»

 ابراهيم محمود
هنا، أي من هذه اللحظة، وفي أكثر من حلقة، أتحدث عن جناية استفتاء الاستقلال، لأن العبارة شديدة التناقض، ولأنها في بنيانها تنطوي على عنف يلغي مشروعية أي دعوة إلى الاستقلال. أتحدث عما لا يجوز الحديث فيه، لأن أحدنا لا يُسأل ما إذا يريد هواء، ودونه لا تنفس لا حياة، يريد ماء وخبزاً، ودونه لا مجال لاستمرار الحياة. أتحدث عن نهاية التاريخ الكردي الذي ينظر فيه الكردي إلى نفسه ممزقاً/ مِزقاً، ضمن حدود لا تعنيه، خلف حدود تستبد به، في ذمة أصوات تخفّض من نسبة الإنساني فيه، وتلقّنه درس التاريخ: تاريخه، بأن حقيقته هي فيما هو عليه وكفى. لنبدأ إذاً، حيث الحديث عن جناية استفتاء الاستقلال، ونهاية التاريخ الكردي الشؤم :
منذ متى كان الاستقلال، والدعوة إلى استقلال العبد من سيّده، المضطهَد من طاغيته، يحتاج استفتاء؟ كيف نعمل على فرز الأصوات لجعل الاستقلال سؤالاً تاريخياً والإجابة عنه استفتاء بين نعم وربما لا للبعض؟ أليس في ذلك مفارقة كبرى ؟ أليست هي حيلة المظلوم حين يعطي للتمرد على ظالمه، أو للثورة على المستبِد به قيمةً تاريخية غير مسبوقة؟ حين يهلل للتحرر منه، كما لو أن الحرية مطلوبة بهذا الشكل، ليصفَّق لها، وليست حقاً طبيعياً. كما هي حيلة الكردي حين يُسأَل ما إذا كان مع الاستقلال في دولة تسمّيه كغيره أم لا، كما لو أنه بالطريقة هذه يظهِر مدى الغبن التاريخي الملحق به. أيُسأل المرء ما إذا كان يريد أن يكون حراً أم لا! إنها عودة إلى مطلب الهواء، الماء والخبز لكائن الحياة، التفكير الذي يليق به، لتكون شخصية تسمّيه، ليكون حرّاً. فالكردي في مختلف مراحل التاريخ، وإلى يومنا هذا أبعد من أن يُسمى، أو يكون حرّاً كسواه، وهو بلسان يشير إليه، وهو بصوت يميّزه، وحتى بلباس يعرّف به .
ربما، من هنا، تجدر الإشارة إلى القرار السياسي المفصلي والخطير لرئاسة إقليم كردستان في الشهر الفائت بلزوم إجراء الاستفتاء في ” 25 ” أيلول سبتمبر 2017، على مستوى الإقليم، وتعلم الرئاسة هذه في شخص ممثلها السيد مسعود البارزاني، أن قراراً كهذا يُعدُّ من أخطر القرارات في التاريخ الكردي ” الحديث على الأقل “، حين يتَّخذ في مثل هذا التوقيت، والمنطقة تغلي، والعالم يغلي، ومصائر البشرية تتصادم، والكرد ليسوا على ما يُرام، وثمة حروب جرت، حمي فيها الوطيس على بواباته الكبرى لا بل وحتى داخل حدوده ” المرسومة ” وغير المصانة كما يجب، لم تكن حرب شراذمة ” تنظيم الدولة الإسلامية ” بأولها، ولن تكون آخرها، فالأعداء بمقدار ما يختلقون ذرائعهم للإغارة على الكردي في عقر داره، بمقدار ما يمتلكون المقدرة على اختلاق شذاذ آفاقهم، فيروساتهم الناخرة من داخلهم، وأن يمنعوا الكردي من الشعور يوماً بأنه كردي له بيت كغيره، وأرض كغيره، وحدود كغيره من أمم الأرض.
والقرارات السياسية قد تلعب دور الصاعق في بعض الحالات، تنبّه إلى المخاطر، مثلما أنها تدفع بالتفكير في مخاطر قد تكون أشد وأعنف من ذي قبل، حيث الأعداء يمارسون وضع خطط احتياطية، وأخرى قيد الدرس، وأخرى تنفّذ، إيعازاً للكردي بلزوم الكف عن أي تفكير بالاستقلال، والسلطة السياسية لا تخلو من روح مغامِرة في هذه الحالات، لكنها قد تدفع بالكردي إلى المزيد من التفكير وضبط النفس، ومعرفة أن ليس ما يبقي الأعداء على حدوده، بجواره، بينه وبين رغيف خبزه، بينه وبين أولاده وزوجته، وبينه وبين نفَسه، مثل الخوف منه .
بالطريقة هذه، ليست السلطة السياسية هي التي تعطي درساً في الحرية لأبنائها، للتابعين لها، ولا كان ممثّلها، مهما علا مرتبةً بأكثر ميلاً إلى الكردية المستقلة من أي كردي، فالكردي كتكوين عضوي، كأي كان من البشر، خلِق حراً وعليه أن يبقى حراً، ويموت حراً ليكون إنساناً، وتلك بداهة، سوى أن موقع الرئيس، وهو في السلطة، لا يمنحه حق التصرف في اتخاذ قرار كهذا، ولا بأي شكل، وكأن الذي يعلَم به، كأن وعيه للحرية يفوق وعي أي كردي،إلا لأن الموقع الذي يشير إليه رئيساً، والمساحة الممنوحة له للتحرك، هو الذي يخوّل له أن يتكلم، أن يتصرف بشأن ما هو مصيري، مشروع، كما لو أن كلامه كلام أي كردي، وقراره قرار أي كردي لا يؤخَذ رأيه في : هل هو مع الاستقلال أم لا، وإنما الإسراع إلى ذلك، وتلك ريادته.
لا شيء يتهدد الرئيس، من يتولى إجارة دفة السلطة، وهي تعيش تحديات جمة، مثل موقعه، والرهان على خطوة حاسمة، خطيرة كهذه، لا تعرَف بنتائجها، وتلك هي حالة السلطة التي تكون سلطة مقاوِمة، في وضعية حرب، وباللباس الميداني الكامل، ولو أنها بالزي المدني .
في وسع قرار، رهيب، مهيب كهذا، أن يضع أي كردي، وليس القائم في نطاق إقليم كردستان في مواجهة مصيره الفعلي، لأن ما هو غال يتطلب حزماً، إرادة واعية أكثر، تكاتفاً، ويكون أي كردي، أنّى كان، وليس في الأجزاء الكردستانية فحسب، طالما أن أعداءه أنفسهم لا يميزون بين كردي وآخر إلا بنسبة كرديته، فكيف يرفض ما يراه الأعداء فيه ؟ وأن يكون البدء من إقليم كردستان فليس مكرمة من رئيسه مسعود البارزاني، إنما واجبه الذي يراه، وهو الذي يضعه في واجهة التاريخ. دون ذلك، كيف يمكن لمسئولية أن  تعظَّم أو تثمن خارج قرار تاريخي كهذا؟
دهوك، في 13-7، 2017 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي. أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً. كالهند،…

د. محمود عباس بصوتٍ لا لبس فيه، نطالب الحراك الكوردي في غربي كوردستان بعدم التنازل، تحت أي ظرف، عن مطلب النظام الفيدرالي اللامركزي، وتثبيته بوضوح في صلب الدستور السوري القادم. فهذا المطلب لم يعد مجرد خيارٍ سياسي ضمن قائمة البدائل، بل تحوّل إلى صمّام أمان وجودي، يحفظ ما تبقى من تطلعات شعبٍ نُكّل به لأكثر من قرن، وسُلب…

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…