إسرائيل بين الإثارة والتحريم

ماجد ع  محمد
يُحكى عن الشاعر الفرنسي شارل بودلير أن من بعض صاحباته كانت ثمة مومس من ذوات السعر البخس، حيث كانت صاحبة أجرٍ رخيص جداً وهو خمس فرنكات، وصودف أن رافقته يوماً إلى متحف اللوفر في باريس، وحسب بودلير كانت تلك هي المرة الأولى التي تزور فيها تلك المومس ذلك المتحف، حيث أنها وفور رؤيتها للوحات العارية احمر وجهها وراحت تغطيه وتجذب الشاعر من كم سترته، متسائلةً أمام تلك اللوحات الخالدة: كيف أمكن عرض كل هذه العورات على الناس؟! ناسية طبعاً بأنها مومس، وأن عورتها تؤجر لعموم الزبائن بخمس فرنكات فقط لا أكثر!! 
ومن كل بد أن هذه الإزدواجية المرضية لا تقتصر على تلك المومس وحدها، إنما هي موجودة كذلك لدى كبار المؤسسات والكثير من الكتاب والساسة في الشرق الأوسط، علماً أن كل من قرأ الإنجيل  يعرف بأن السيد المسيح صرخ بوجه المنافقين منذ أكثر من ألفي سنة قائلاً “يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ” ومع ذلك ينسى الكُتاب والنشطاء والساسة ومن ورائهم الرؤساء وآخرهم الزعيم الذي يعلم عُلم اليقين بأن علم إسرائيل مرفرفٌ بإباءٍ في عاصمته فيما يبدي إنزعاجه من ظهور علمٍ إسرائيلي في حفلة من حفلات الكرد لوَّح بها مشجعون طائشون.
عموماً فهذا الإصرار على معاداة إسرائيل إعلامياً له دلالة واحدة فقط وهي أن إسرائيل وراء كل زعماء المنطقة، وإلا لما حاربوها في الإعلام  بهذه القوة وعقدوا معها أكبر الصفقات في السر، وأن فقط المعاداة هي لأجل إيهام الدهماء بأن الزعماء الأشاوس لا يزالون من حلف الممانعة، إذ درجت العادة في منطقة الشرق الأوسط على أن يستحمر الزعماء شعوبهم حتى آخر رمق، لذا فإن الزعيم الذي يعتبر شعبه قطيعاً، يزور إسرائيل بنفسه أو يرسل إليها مَن ينوب عنه في السر ثم يشتمها في العلن، ليتأكد بأنه لا يزال يسوق ذلك القطيع.
حيث كالعادة راحت الأقلام التي تستمد مدادها من لُعاب الزعماء تتهم الإقليم الكردي بالعلاقة مع اسرائيل، والتخريف بأن اسرائيل تعتمد بشكل رئيسي على نفط اقليم كردستان، علماً أن اسرائيل يعود تأسيها كدولة إلى عام 1947 أي أنها تستهلك النفط وتستورده منذ تأسيس ذلك الكيان من الدول العربية المجاورة والتي يتم التغافل عنها عمداً، بينما يتم ذكر إقليم كردستان الذي لا يزال قيد التأسيس بأنه يصدر النفط الى إسرائيل ولكن من أين وكيف؟ باعتبار أن ثمة دول ومضارب ومفازات تفصل بين إقليم كردستان ودولة اسرائيل. 
كما أن علاقة دولة قطر التي تتبجح جزيرتها الإعلامية بمعاداة أورشليم مع إسرائيل تعود الى توقيت ما بعد مؤتمر مدريد، وكان أول لقاء قطري إسرائيلي مع رئيس الحكومة الإسرائيلي وقتها شمعون بيريز بعد زيارته لقطر عام 1996 وتم وقتها افتتاح المكتب التجاري الإسرائيلي في الدوحة وتوقيع اتفاقيات بيع الغاز القطري لإسرائيل، ثم إنشاء بورصة الغاز القطرية في تل أبيب، وقطر صارحت بالفعل بعلاقتها بإسرائيل في معاهدة التجارة الحرة الجات فهذه الاتفاقية لها شروطها ومنها انه لا توجد مقاطعة، والعلاقات القطرية الإسرائيلية على أفضل ما يكون،  كما ذكرت إحدى وثائق “ويكيليكس” العلاقات السرية بين إسرائيل ودول الخليج، خاصة مع دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، وكل تلك العلاقات الرسمية والعلنية للدول العربية وإيران وتركيا لا تثير أية حساسية لدى الكتاب والمثقفين الباحثين، علماً إذا ما كانت هنالك نوع من الحميمية بين اسرائيل وباقي دول المنطقة، فإن الأكراد هم في نهاية الطابور الذي يقوم بالعلاقة مع اسرائيل وليس وجهاً لوجه، إنما من خلال وسيط من دول المنطقة وهي تركيا قبل أن تتوتر العلاقة بين الإقليم وتركيا بسبب استفتاء الإقليم نهاية الشهر الماضي. 
أما بالنسبة لرفع بعض الشباب الكردي في المهرجانات علم اسرائيل فذلك حتى الغبي يدرك بأنه تصرف فردي ولا يتحمل أي شخص آخر مسؤوليته، بينما علم اسرائيل المرفرف في قطر ومصر وعمان والامارات وأنقرة هو مرفوع بشكل رسمي، ونتمنى من النشطاء والكتاب وشلة الممانعة الذين يستمدون أحبارهم من ملافظ السلاطين شرح معنى كلمة الرسمي لجماهيرهم! رغم أنه ما من علاقات رسمية ومباشرة بين دولة إسرائيل واقليم كردستان كما هي علاقة الدول المذكورة أعلاه والتي تحارب اسرائيل في إعلامها، وبالرغم من أنه ما من عداوة مباشرة بين الكرد ودولة اسرائيل على غرار العداوة التاريخية بين الدول العربية واسرائيل، إلا أنه بالرغم من تلك العداوة المزعومة وبخلاف الإقليم تتمتع بعض دول المنطقة علناً بعلاقات اقتصادية متينة مع دولة اسرائيل!.
ولكننا تعودنا كل فترة أن يخرج علينا بعض النشطاء والمثقفين ليرموا بهذه الورقة الرخيصة على المواقع الالكترونية، بينما أنفسهم يتناسون العلاقات الإسرائيلية العربية والاسرائيلية التركية على وجه الخصوص والتي تأسست في آذار 1949 عندما أصبحت تركيا ثاني أكبر بلد ذات أغلبية مسلمة (بعد إيران عام 1948)، حيث تعترف بدولة إسرائيل، ومنذ ذلك الوقت، أصبحت إسرائيل هي المورد الرئيسي للسلاح لتركيا، وحققت حكومة البلدين تعاونًا مهمًا في المجالات العسكرية، الدبلوماسية، الاستراتيجية، في 1958، وفي 1986 عينت الحكومة التركية سفيراً كقائم بالأعمال في تل أبيب، وفي 1991، تبادلت الحكومتان السفراء، وفي فبراير وأغسطس 1996، وقعت حكومتا تركيا وإسرائيل اتفاقيات تعاون عسكري، وقد وقع رئيس الأركان التركي چڤيق بير Çevik Bir على تشكيل مجموعة أبحاث استراتيجية مشتركة، ومناورات مشتركة، وهي تدريبات بحرية بدأت في يناير 1998، والعملية أورتشارد للقوات الجوية، كما يوجد مستشارون عسكريون إسرائيليون في القوات المسلحة التركية، وتشتري جمهورية تركيا من إسرائيل العديد من الأسلحة وكذلك تقوم إسرائيل بتحديث دبابات وطائرات تركية، ومنذ 1 كانون الثاني/يناير 2000، أصبحت اتفاقية التجارة الحرة الإسرائيلية التركية سارية ولكن كل هذا يتم تناسيه من قبل أصحاب تلك الأقلام المصابين بالعور الأيديولوجي.
وثمة حقيقة غائبة وحاضرة وهي أن إسرائيل تستورد النفط الإيراني والخليجي على نطاق واسع جداً رغم ادعاء ايران والدول العربية لعداوتهم مع اسرائيل في وسائل الاعلام، وذلك على الرغم من مقاطعة الاتصالات والتجارة مع إيران وغيرها حيث تحصل إسرائيل على النفط عبر شركات أوروبية وسيطة .
ختاماً فيبدو لي أن إسرائيل بالنسبة لرؤساء وسلاطين المنطقة أشبه بالغانية اللعوب والفاتنة التي يستقتل كل حاكمٍ في المنطقة التقرب منها، التودد إليها، المكوث بكامل التدله في حضرتها، حتى يفوزوا منفردين بلحس سيقانها، إلاّ الكردي فوفق فتاويهم الممانعاتية محروم عليه الإقتراب من محاسنها، لذا يحاولون قدر الإمكان استقباح الكردي من جهة وتجفيله من جهةٍ أخرى لضمان إبعاده عنها، وذلك لكي تبقى الغانية البهية خليلتهم وحدهم، وحتى يستفردوا هم دون غيرهم بها، فيتمرغوا منشرحين في مخدعها، متمتعين بحسنها وجمالها الأخاذ إلى يوم الدين!. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سعيد عابد* في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني ألقى المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي خطاباً أمام مجلس الخبراء، مؤكداً على الدور الحاسم الذي تلعبه هذه الهيئة في اختيار “المرشد المقبل”. وأعرب عن شكره لاستعدادهم، وحثهم على اليقظة في أداء هذا الواجب الذي وصفه بأنه ضروري لضمان استمرارية النظام ومنع انحرافه. ويعتبر المجلس، الذي أنشأه مؤسس النظام روح الله الخميني،…

صدرت للكاتب والباحث د. محمود عباس مؤخراً ثلاثة كتب جديدة، وبطباعة فاخرة، ضمن سلسلة مخطوطاته التي تتجاوز الأربعين كتابًا، متناولةً القضايا الكوردية من مختلف جوانبها: النضال السياسي، والمواجهة مع الإرهاب، والتمسك بالهوية الثقافية. تُعدّ هذه الإصدارات شهادة حيّة على مسيرة د. عباس، الذي يكتب منذ أكثر من ربع قرن بشكل شبه يومي، بثلاث لغات: العربية، الكردية، والإنجليزية. إصدارات الدكتور محمود…

اكرم حسين تستند الشعبوية في خطابها على المشاعر والعواطف الجماهيرية، بدلًا من العقلانية والتخطيط، حيث أصبحت ظاهرة منتشرة في الحالة الكردية السورية، وتتجلى في الخطاب السياسي الذي يفضل دغدغة المشاعر الجماهيرية واستخدام شعارات براقة، ووعود كاذبة بتحقيق طموحات غير واقعية، بدلاً من تقديم برامج عملية لحل المشكلات المستعصية التي تعاني منها المناطق الكردية. إن تفاقم الاوضاع الاقتصادية وانتشار الفقروالبطالة، يدفع…

خالد حسو عفرين وريفها، تلك البقعة التي كانت دائمًا قلب كوردستان النابض، هي اليوم جرحٌ عميق ينزف، لكنها ستبقى شاهدة على تاريخٍ لا يُنسى. لا نقول “عفرين أولاً” عبثًا اليوم، بل لأن ما حدث لها، وما يزال يحدث، يضعها في مقدمة الذاكرة الكوردية. لماذا عفرين الآن؟ لأن عفرين ليست مجرد مدينة؛ هي الرئة التي تتنفس بها كوردستان، والعروس التي تتوج…