ابراهيم محمود
كنت أكتب مقالاً عن صدمتي بما جري ويجري بصورة غير مسبوقة في تتالي أحداثها سرعةً، سوى أن قراءة كلمة الرئيس مسعود بارزاني وهو بوجه مخطوف لونه، وجه لم يسبق لي أن رأيته بهيئة كهذه، كما لو أن جرحاً غائراً داخله يتكتم عليه، ويسعى جاهداً إلى عدم الإشارة إليه، منعتني من المتابعة. وبعيداً عن أي دفاع عن الرئيس، قريباً من بلاغة الجرح الذي تراءى مرتسماً في كامل وجهه ونظرة عينيه الأسيانة، دفعت بي إلى كتابة هذا المقال، وأنا أفصح بوعي كامل عن تأثري بما رأيت، من منطلق أن هناك مصيبة حادثة فاجأته داخلاً وخارجاً.
ربما كانت قراءة الملامح تختصر أموراً كثيرة في ضوء ما جرى حتى ليل الاثنين ” 16-10/ 2017 “! كان الرئيس في أوج تماسكه وإشراقة الأمل، والغلبة على الصعاب، وهو وسط الذين كانوا يتحدثون بلغته، وهم كرده، وهو كردي مثلهم، ليكون الجاري صادماً، وهو في دراماتيكيته التي تحتفظ بعلامتها الفارقة، لها صلة بالوضع. أي خذلان غير مسمى وراء هذا الوجه المخطوف؟ أي إعادة لعشرات الصدمات المروّعة التي ينقلب فيها الكردي على الكردي، ويدخل العدو إلى الحد الفاصل بين سواد عين الكردي وبياضها، وينقلب العرس الكردي مأتماً ؟
وربما لأن هناك من اعتبروا يوماً كهذا بداية تاريخ منتظَر لهم، إنما هل هم على يقين أن ما باتوا فيه سيبقيهم بالطريقة التي تصوَّروها، دونما خوف مما سيصدمهم، ولم يفطنوا إليه؟
شعرتني وأنا أسير في الشارع الرئيس في دهوك، وأنا أتأمل وجوه الناس مساء، كأني بالجميع وهم يتحدثون، يشيرون إلى هذا الوجه ومغزاه، أو يستغرقون في حديث لا ينفصل عنه، أو وهم شاردون، ربما وهم يضعون سيناريوهات لما سيحصل قريباً، وفي أي وضع سيكونون.
ما أكثر ما سمعت من ألسنة متفاوتة المواقع عن أنهم اعتادوا حالات كهذه، بالعكس، كانوا في قرارة أنفسهم يتوقعون حدوث حالة كهذه بصورة ما أو بأخرى، اعترافاً ضمنياً منهم، بما هو عليه كردي التاريخ، وهو أن ليس من نصر مسمّى إلا وفي إثره نكبة/ نكسة صادمة، تعيد الأمور إلى نصابها من حيث نكأ الجراح ومعايشة حلم يصبح أبعد من ذي قبل.
سوى أن وجه الرئيس مسعود بارزاني كان أشبه بنعي حلم لم يستطع تسميته باسمه، وهو الذي أعلمَ كرده أنه بات واقعاً أو على وشك أن يكونه، وها هو بلسانه يشير إليه، ويعجز عن تهجئته، وهو الذي استمد عزيمة ممن حوله بالمقابل، ومن أصحاب القرار في محيطه، كان وجهه مترعاً بحزن لا قبَل لي به، وربما فداحة الوضع كانت وراء صعوبة الظهور بالصوت والصورة معاً، لكن الناظر الدقيق، لا يخفى عليه ما وراء انكسار الروح، النظرة، اللون، كل ما يصله بسابق غير بعيد، كما لو أنه يستسمح عذراً ممن وعدهم بما يسعدهم، وها هو مهيض الجناح،جرّاء طعنة من هم بجواره، وربما وجِد آخرون من أهل القوة خارجاً تنكّروا له وأي تنكُّر.
قلق أكثر من كونه قلق انتظار، إنما قلق ما يصعب التفوه به، وهو الذي حرِص على فعله، قلق يخص حيثيات واقعة تفعَّلت وأثَّرت في الإقليم وخارج الإقليم، وهو يدرك ما يكون الوضع النفسي لمن استجابوا لدعوته، وما يكونه وضع الذين خيَّبوا ظنه فيما انتواه وفارقوه.
وما كان للرئيس فيما قام به من مصلحة إلا ما يرفع من شأن الكردي، ويكون التالي ما يعاكسه خارج إرادته، لكأن الأمور خرجت من يده، ويدعو إلى الحيلولة دون انفجار داخلي، لئلا يزداد الجرح الكردي نزفاً، ولكم نزف هذا الجرح، سوى أن الخوف هو ألا يتوقف الدم عن النزف.
إلا أن وراء هذا الجاري: سلسلة الانسحابات ما خلا الانسحاب الأول والمشين من تل الورد، حكمة في وسع المتبصّر وحده معرفتها، تتجلى في كونه تخوَّف من أن يحصل خرق آخر، أو لأن الخرق الأول كان بمثابة إشارة للبيب سياسي تمرَّس في السياسة ويقرأ الحاصل قبل وقوعه كثيراً، فكان تتالي الانسحابات وحفْظ دماء بيشمركته وليقل الخصوم، الأعداء وذوو الغمز واللمز وضحالة الوعي ما يقولون، فيكون المنتصر هو، وهذا ما سينكشف أمره لاحقاً
في مسرحية السوري سعدالله ونّوس” الفيل يا ملك الزمان “، كان هناك من ينبّه الناس إلى طغيان الحاكم عبر فيله، والدعوة إلى لزوم حد لطيشه، فعبّروا عن وقوفهم معه والسير خلفه، وهو ما تم، حتى اقترب من القصر، وهو يشير للحاكم إلى الفيل قبل أن يسمّي أذى الناس منه، وقد كانت التفاتة منه، فلم يجد سواه، وغيَّر مجرى الحديث: ليطالب بفيلة أخرى حسب مطالب الناس..ما أقرب مسعود بارزاني إلى هذا الرجل، سوى أنه لم يطالب بفيلة أخرى، إنما بدا منكفئاً على نفسه، وجرحه، داعياً إلى المزيد من الجلَد والتماسك الداخلي، وملئه مرارة وألم .
سلامتك أيها الرئيس !
دهوك، 17-10/ 2017