عبدو خليل
أبدع العقل البشري فكرة الكوندوم ، أو ما يعرف بالواقي الذكري. بجدوى حماية البشرية من الأمراض والفيروسات المعدية والقاتلة. ولم يعد يخفى ما لهذا الأبداع من فوائد جمة، أقلها أنه منح البشر روح الطمأنينة في ممارسة الحب كإحدى الحاجات البشرية الملحة. خاصة لدى من يمتلكون عواطف جياشة تفيض عن حاجة مؤسساتهم العائلية وتغدو عابرة للقارات. لكن ربما لا يعلم علماء البيولوجيا أن النظم الشمولية سبقتهم في إبداعهم هذا بزمن طويل .
في السياسة والفلسفة والمعرفة و باقي العلوم تبدو فكرة. التحصين ، غير مستحبة. وإلا لما كنا رأينا كل هذا التطور للنوع البشري وتفوقه على الطبيعة وترويضها وتجنب كوارثها. وليس من المحبذ. أخلاقياً، رد هذه الإنجازات لنوع بشري معين، كما حاولت النازية أن تفعل ذلك عبر تسويقها لنظرية تفوق العرق الأري على غيره من بني البشر . لأن هذا التطور بالنهاية هو محصلة لجملة معقدة من عمليات التواصل و ثمرة تبادل الخبرات والثقافات والمعارف.
في القرن الماضي. تحديداً، تبلورت النظم الشمولية أكثر من أي وقت أخر في التاريخ. حزبية كانت أم دولتية ، وباتت تعي أنها لا تقدم للبشرية شيئاً يذكر. لا على صعيد المعرفة ولا على صعيد السياسة. هذه النظم أدركت بوضوح أنها ليست أكثر من وبال على شعوبها، تستنفذ مقدراتها وتسخرها لصالح شبكاتها المافيوية التي تستولي على السلطة بهدف الثراء المادي أو لتلبية رغبات ونزعات مرضية في التسلط والاستيلاب . لذا كان لابد لهذه النظم من تحصين شعوبها، حتى لا تنقلب عليها بين ليلة وضحاها. لهذا أنتجت ما يمكن تسميته، بالكوندوم السياسي أو الفكري، من أجل عزل شعوبها عن العالم الخارجي ومنع التلاقح الفكري. أي، إسقاط عكسي لوظيفة الكوندوم بيولوجياً ضد الأمراض المعدية في سبيل الحفاظ على ديمومة جماليات عمليات التواصل. الأمر ذاته، كما أسلفنا. في العلوم، تصقل بالتواصل، وتتمدن أكثر وترتقِ عبر تبادل الآراء والأفكار والمعارف .
إلا أن المفارقة أن ثمة نظم. سياسية إيديولوجية، أو عقائدية دينية. مثل حزب الله والقاعدة وحزب العمال الكردستاني تفوقت على الدول الشمولية في طريقة استخدام هذا الكوندوم ، على سبيل المثال. استطاع النظام السوري عزل شعبه عبر حشره في كوندوم مواجهة العدو الإسرائيلي، وباتت البطالة وشح الحال تعزى لمواجهة هذا العدو، وتضييق الحريات وتبرير الاعتقالات ترد على أن هؤلاء عملاء للعدو الخارجي. وهكذا ندخل في متوالية لا تنتهي من المحرمات والمقدسات غايتها القصوى التحصين والعزل للتمويه على الحقائق. لكن وبالرغم من الامكانات المتاحة لمؤسسات هذه الدول الشمولية، وما يتوفر لديها من جيوش الموظفين ورجال الأمن والعسس. إلا أن نظماً عقائدية وايديولوجية. خارج نطاق مفهوم الدولة، تفوقت في هذا المضمار وبالغت من استخدام هذا الكوندوم. لدرجة ربما تعجز كل نظريات السلوك والظواهر عن تفسيرها، والفضل بالتأكيد يعود لاستخدام كوندوم سياسي وفكري متين وغير قابل للتمزيق.
لكن أكثر المنظومات. ضمن الراهن، بروزاً في استخدام الكوندوم السياسي والفكري لعزل كوادره الحزبية ومن يقع تحت سطوته وسلطته هو حزب العمال الكردستاني. التركي المنشأ، هذا الحزب يمارس اليوم شغفاً منقطع النظير. بالكوندوم، ليس للتحصين الفكري والسياسي. فقط، إنما عمل على تحويله كضرورة من ضرورات الحياة اليومية. وأنتجت مصانعه في جبال قنديل كوندومات مغلفة بشعارات وفلسفة القائد ” آبو” وبنكهات مختلفة. هذا الكوندوم قادر على تحصين عقول كوادره وعزلهم عن أية جدليات أو محاكمات منطقية للوصول إلى جوهر الحقائق، حتى لو كانت بديهيات. إذ ليس بالضرورة أن يكون ناتج واحد زائد هو أثنين، قد يكون للقائد رأي مختلف. و لا بأس من إعادة اختراع العجلة كإحدى إنجازات هذه الحركة الثورية، وأحياناً لا مانع من تفسير رسائل القائد بما يتلاءم ومصالح الحركة وضرب فحوى هذه الرسائل بعرض الحائط. لأن القائد بات في سجنه مسيراً وليس مخيراً، وقد يكون القائد ذات نفسه لم يعد يعرف إن كان مريضاً وعلى شفا حفرة، هناك في مكان ما. مجهول، من يعرف ويقدر أن عينا القائد غائرتان ووجه أصفر. هبوا من أجل إنقاذ حياة القائد، لا حياة بدون القائد.
ضمن هذه التراجيديا، و دون تمزيق هذا الكوندوم. تبدو أية محاولة لتغيير أو استمالة العمال الكردستاني لصالح المشروع السوري، وهذا ما يفعله بعض الانتهازيون بحسن نية أو بغاية الحصول على كرسي لحضور مؤتمر هنا وهناك، أو كما يسعى بعض الكرد لحل القضية الكردية السورية عبر الولوج لنفق هذا التنظيم. كل هذا ليس سوى ضرباً من العبث محشو بلبوس. كوندوم، ذو رائحة جذابة لبعض المهووسين بالسلطة.