أحمـــــــد قاســــــــم
تختلف الآراء بين المحللين والمتعابعين لعملية وقف إطلاق النار منذ إعلانه نتيجة لتوافق (روسي ـ تركي ـ إيراني) إثر لقائهم في أنقرة في كانون الأول الماضي. جاء ذلك بعد تقارب (روسي ـ تركي) وبرودة العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة, وكذلك الإتحاد الأوروبي على خلفية محاولة إنقلاب فاشلة في تركيا من قبل العسكر في منتصف حزيران 2016 والموقف الأوروبي وأمريكا من تلك المحاولة الفاشلة. حيث إستغلت روسيا الموقف, وعملت على توطيد وترسيخ العلاقة مع تركيا لطالما أن تركيا هي أيضاً تبحث عن فرصة تتيح لها تعميق العلاقة مع روسيا في المجالات الإقتصادية والسياسية والأمنية وكذلك التفاهم والتوافق على إدارة الأزمة في سوريا, وإلى حدٍ يرضي الطرفين في العراق, لما لها من مصالح إستراتيجية لا تتحقق إلا بالتفاهم مع روسيا ولو في المرحلة الراهنة التي تحمل في طياتها كثيراً من المخاوف والتساؤلات التي أنتجتها الأزمات في المنطقة, ورياح التغيير لم تغادر العواصم التي تعاني من أنظمة فاسدة ودكتاتوريات من مخلفات الحرب الباردة.
حقيقة الأمر, إن الأزمة التي نحن بصددها لم تأتي من فراغ, أو محاولة من فئة عسكرية أرادت الإنقلاب على السلطة الحاكمة في دمشق. بل إنها أتت نتيجة لإستمرارية قمع النظام لكل صوت مخالف, وكذلك للفساد الذي نخر جسم النظام والشعب معاً, وأوصلت الحالة إلى الإنفجار. يعني ذلك, أن الأزمة جاءت نتيجة طبيعية للتطور التاريخي الذي بدأ يعصف بذلك الجدار المانع الذي أنشده النظام الديكتاتوري في وجه أي تطور يحول المجتمع من حالة المقموع إلى فضاء من الحرية في ممارسة حياته الطبيعية والإستفادة من خيرات بلاده التي حرم منها طوال ستة عقود.
ومن منطلق الفهم الحقيقي الذي وصل إليه النظام إثر الإنفجار الجماهيري في وجهه بعد محاولات حثيثة من المعارضة السياسية المتمثلة ( بإعلان دمشق ) في الأعوام الأولى من العشرية الأولى لهذا القرن, من أجل إقناع النظام في دمشق للقيام بعملية التغيير المتدرج للحالة القائمة (سياسياً وإدارياً وإقتصادياً) من خلال السماح للمعارضة السياسية مناقشة الأوضاع والمساهمة بإجراء تغييرات قبل أن تتأزم الأمور نحو الإنفجار الذي قد يعصف بالبلد نحو حالة خارج عن السيطرة كما جرت في العراق على خلفية إسقاط النظام بتدخل أمريكي. إلا أن النظام واجه تلك المحاولات باعتقال كل من تحدث عن التغيير. لذلك, وبعد الإنفجار الجماهيري في 1532011 أقدم النظام إلى التمسك بالخيار الأمني كالمعتاد, وبدأ بمحاولات لقمع المتظاهرين بأشكال عدة كما يعلمها الجميع.. إلى جانب رفض أي مبادرة للحل السلمي للأزمة التي أنتجتها التطور التاريخي للمجتمع السوري كما أسلفت.. وكان للإيرانيين نصيباً من التدخل وكل من ناشده النظام لمساعدته من أجل البقاء, وحتى التنظيمات الإرهابية من أجل تغيير وجهة ” الثورة ” وفرض حالة من الحرب الأهلية بعنوان طائفي للتشويش على المجتمع الدولي بإدارة روسية (عسكرياً وسياسياً) تحسباً منها على أن سوريا هي محمية روسية محظورة لأي تدخل خارجي عدا عن روسيا وإيران.
إلا أن الحالة لم تبقى كما هي. فالأولويات لدى المجتمع الدولي والدول النافذة قد تغيرت. وكذلك الدول الإقليمية ذات الصلة بالأزمة أيضاً لم تبقى في حالة الإستقرار الأمني, حيث المخاطر بدأت تتحرك نحو تلك الدول, وخاصة تركيا التي تعاني من أزمة داخلية ( أمنية واقتصادية ) جراء استئناف الحرب بينها وبين قوات حزب العمال الكوردستاني من جهة, ومن جهة ثانية مخلفات تلك المحاولة الإنقلابية الفاشلة, والتي لم تتخلص تركيا من تأثيراتها السلبية على الحالة العامة في تركيا مع إعتقال عشرات الآلاف من مؤيدي الإنقلاب وتصريح عشرات الآلاف الأخرى من الوظائف, و التي أنتجت حالة من عدم الإستقرار النفسي لدى الأتراك. فكان لا بد من أن تقتحم الحكومة التركية قلب الأزمة في سوريا والعراق, قد تساهم في إخماد الحرب ووضع الحلول للأزمة بالتعاون مع روسيا قبل أن تعصف بها إعصار الأزمة بشكل أو بآخر, عندها قد لا يمكن محاصرتها. فكان من هذا المنطلق تم إنتاج تفاهم ( روسي ـ تركي ـ إيراني ) على المشاركة في محاصرة الأزمة في سوريا أولاً وإيقاف الحرب الدائرة, ومن ثم فرض حلول سياسية تؤمن مصالحها بشكل توافقي لطالما أن النظام في دمشق لا يمتلك إرادة الحل بأي شكل من الأشكال, وكل ما يهمه هو البقاء على رأس السلطة ولو بشكل مؤقت حفاظاً على أمنه وبعيداً عن المسائلة القانونية عن ارتكابه لكل تلك الجرائم التي ارتكب بحق الشعب السوري.
كان لقاء أنقرة بين الدول الثلاث, فأنتج فكرة ( محادثات آستانة ) بعد قرارهم لوقف إطلاق النار على مستوى سوريا بالكامل, مستثنى من ذلك ( داعش وجبهة النصرة ). حيث كانت محادثات آستانة مشروطة بتثبيت وتنفيذ وقف إطلاق النار, إلا أن جانب النظام وميليشياته من الإيرانيين وحزب الله لم تلتزم, ومع ذلك, وبتفاهم تركي ـ روسي تم الإقرار لإجراء المحادثات في كل الأحوال والظروف لضرورتها المرحلية, فتم تثبيت الموعد في 23ـ25 هذا الشهر, وتم دعوة الوفود من النظام والمعارضة العسكرية التي تبنتها وتحملت مسؤوليتها الجانب التركي, أما النظام ومؤيدوه من الوحدات المسلحة تتحمل مسؤوليتها الجانب الروسي بالتفاهم مع الجانب الإيراني.
لقد تم تحديد وفد المعارضة وسط إنتقادات حادة من قبل كثير من المعارضين.. إلا أن الأهم من ذلك هو غياب أطراف دولية مؤثرة على الأرض, وهو الطرف السعودي والقطري, وكذلك الطرف الأوروبي والأمريكي الذان بإمكانهما إفشال أي مشروع يُعْتَمَد عليه من دون مشاركتهما. وأن إبعاد هذه الأطراف تعني ما تعنيها روسيا بشكل خاص للتأكيد على أن سوريا وأزمتها لايمكن إدارتها إلا من قبل الجانب الروسي, وعلى بقية الأطراف مساعدة روسيا لحل الأزمة سياسياً إن أرادوا ذلك. أما الجانب التركي, وبعد تدخلها العسكري إلى الريف الشمالي لحلب بتوافق روسي وإيرني, ومساعدة روسيا لتنفيذ مشروع سيطرة النظام على كامل مدينة حلب بعد سحب المقاتلين والمدنيين من القسم الشرقي والجنوبي الشرقي من المدينة, أوكلت إليها روسيا الدور الفاعل والشريك في العملية العسكرية والأمنية والسياسية في سوريا لتطمينها على أن روسيا لن تتخلى عنها لطالما أنها ” تبتعد يوماً بعد يوم عن المشروع الأمريكي “.. وقد تكون يوماً ما العضو الفاعل والأهم في المحور الروسي ودورها في المنطقة بدلاً من إيران التي قد تتعارض مصالحها مع مصالح روسيا و تركيا في قادم الأيام.. وهذا ما يتخوف النظام منها, لذلك يسرع في أن يحسم المعركة بينه وبين المعارضة المسلحة قبل نشوب الخلافات بين حليفاته, وكذلك هناك مخاوف حقيقية والتي تكمن في ” ماهية السياسة الأمريكية في عهد ترامب تجاه المنطقة “. كل ذلك حاضراً في حسابات كل الأطراف, وكل طرف يجاور المخاوف حسب مصلحته وفهمه وإمكانياته المتاحة لتفادي أي خطأ قاتل في هذه المرحلة ( الإنتقالية ) إن جاز التعبير.
” محادثات آستانة ” ليس فيها الكثير, لطالما أن وفد المعارضة لا تخرج خارج المظلة التركية, إلا أن موقف إيران والنظام في دمشق قد يختلف عند حدود البحث للجانب السياسي إن أمكن, لطالما أن المحادثات ستشمل أيضاً وضع صورة أولية لمستقبل النظام في سوريا إلى جانب الحوار الأهم حول عملية وقف إطلاق النار وتثبيته بصورة كاملة وشاملة. ومع ذلك ستسعى روسيا للحصول على موافقة أولية من النظام للورقة السياسية في خطوطها العريضة من دون الدخول إلى التفاصيل, وترك ذلك لمحادثات ( جنيف ) القادمة تلبية لما قرر مجلس الأمن مؤخراً على أن محادثات آستانة ليست في مستوى الإقرار وإنما تشكل أرضية لتسهيل عقد واستئناف المفاوضات في جنيف تحت المظلة الدولية. يعني ذلك, أن محادثات آستانة تبقى تشاورية وليس في مستوى إتخاذ قرارات نهائية وملزمة حول الأزمة في سوريا, وبالتالي هي مرحلة إنتقالية من موقع إلى موقع أكثر أهمية وهو ( عقد المفاوضات في جنيف ) وتحت المظلة الدولية.
مما تقدم, أعتقد أن الرهان على ” محادثات آستانة ” ليس بهذه الأهمية التي تعلنها الأوساط الإعلامية, لكنها وبنفس الحالة تشكل محطة قد تنتج نقطة تحول نحو الخروج من حالة الإستعصاء التي أنتجتها ( جنيف3 ) إلى حالة أكثر إنفتاحاً نحو البحث عن مخارج الحلول السلمية ووقف هذه الحرب المدمرة وتوقيف نزيف الهجرة التي لا تقل آلامها عن آلام القتل والتدمير أولاً. والجانب الآخر الذي يشكل أهمية لايمكن إهمالها, وهو فرز المعارضة الوطنية والديمقراطية عن الدخلاء من الإرهابيين وتجار الحرب وأمرائها. فإن بقاء هذا الخلط المروع من الكتائب المسلحة باسم المعارضة لا يمكن أن ينتج أي حل لطالما أن تلك الكتائب لا تعمل تحت قيادة موحدة واضحة المعالم والرؤية السياسية لمستقبل سوريا, وبالتالي لا يمكن حصرها وإلزامها بتنفيذ أي قرار دولي من دون تدخل عسكري لفرض تنفيذ القرار بالقوة. لذلك من الواجب والضروري فرز المعارضة الوطنية السورية من تلك التي تشكل أجندات مختلفة تعارض أجندات وطنية, ومن ثم البحث ومناقشة خارطة طريق لحل الأزمة في سوريا. وهل ستتمكن الأطراف المشاركة في ” محادثات آستانة ” تنفيذ هذه المهمة المعقدة؟ أعتقد إن تم تنفيذها نكون قد سلكنا الطريق الصحيح ولأول مرة منذ أن وقعت ” الثورة ” فريسة بين مخالب الإرهابيين.
” كوردياً ” أعتقد أن وجود وفد يمثل المجلس الوطني الكوردي يشكل خطوة نحو فتح الطريق أمام الدبلوماسية الكوردية, وذلك, قد يُكَوِنُ طرفاً ثابتاً ومعتمداً من قبل الجهة الدولية التي تهتم بالشأن السوري وتعمل من أجل إخراج سوريا من أزمتها, حتى وإن كان الوفد محصوراً من المجلس, لكن حمل الأسم والمشروع الكوردي كعنوان له على طاولة المحادثات بحد ذاته, أعتقد يشكل أهمية يجب أن لا نستهين بها, ولطالما أن تلك العناصر سيكونون حاضرين في مفاوضات جنيف غداً ( إن كتب لهم النجاح ). ومن الممكن أن نقوي الوفد إن نجحنا في عملية التوافق التي نعمل من أجله بين أطراف الحركة الكوردية غداً. ولكن في حالة التعذر, أعتقد أن وجود وفد من المجلس خير من عدمه, وأن محاربة هذا الوفد أعتقد أنها تشكل حالة مَرَضِية لدى الأطراف الأخرى التي لا ترى من وجود هكذا وفد أية فائدة للكورد, وهناك من يذهب أبعد من ذلك, حيث يعتقدون أن وجود هذا الوفد يضر بالمصلحة الكوردية, فإنني أشك بمصداقية مثل هؤلاء. أرجو أن نستخلص العبر ونعمل على ما هو أفضل لقضيتنا ولشعبنا ولبلدنا سوريا وشعبها.
18/1/2017