د. محمود عباس
قبل زيارة أردوغان، كان الطرف الأول (وزارة الخارجية ومعها السي أي أيه)، وبتحفيز من اللوبي التركي، الذي بدأ يضعف بعد تخلي غولان عنه، يدفع بالبيت الأبيض بعدم التخلي عن تركيا كدولة استراتيجية في الناتو، تحت ذريعة التخوف من المد الشيعي، الذي يشكل خطراً مباشراً على الأمن الإسرائيلي، عن طريق استخدام مناطق الإدارة الذاتية الكردية، والامتداد الجغرافي للشيعة في العراق، ودرجت قضية شنكال تحت هذه الصيغة في بعض المحافل الدولية، خاصة وأن البعض من مستشاري وزارة الخارجية الأمريكية يضعون صراع الأطراف الكردية المنحازة إلى استراتيجيتي القوى الإقليمية السنية والهلال الشيعي في المنطقة، كحجة لتحديد رأيهم حول القوة الكردية.
وفي الواقع أن تحرير بعض مناطق شنكال مؤخرا بيد الحشد الشيعي (كقرية كوجو المعروفة على خلفية المجازر التي حصل لإيزيدييها بيد داعش، قرية (نادية مراد)) وتقاربهم مع قوات منظومة المجتمع الديمقراطي في شنكال تضعف الموقف الدولي أمام التهم التي يسخرها أردوغان لدعايته.
أما الطرف الأخر (وزارة الدفاع) فيرفض تدخلا عسكريا لتركيا في جنوب غربي كردستان، على الأقل في هذه الفترة، مرحلة تحرير المنطقة من داعش، وهي رؤية عسكرية خالصة، لا علاقة لها بالحيز السياسي، ولا يستبعد أن التطمين من خطر التمدد الشيعي، تستمده إسرائيل، من الاتفاقات العسكرية السرية بين أمريكا وروسيا ضمن الجغرافية السورية.
وجميعنا نعلم إن دخول الجيش التركي لمنطقة جرابلس وحتى الباب، كانت صفقة روسية-تركية بموافقة أمريكية، وعلى قدر الصفقة سمحت بتغلغلها، وبعد إدراك أردوغان أن الاستلام لم يكن بحجم العرض، تراجع، ليحاول تكتيكا آخر، مع الأمريكيين والروس، وعن طريق الاعتراف بالمناطق الأمنة، وحتى المناطق المحمية، والتي تمت الموافقة عليها في مؤتمر أستانة الأخير، وهي في عمقها مناطق (كونفدرالية) مقدمة لتثبيت تقسيم سوريا الجاري، إذا طبقت فيها كل الشروط، كرسم الحدود، ومراقبتها دولياً، وعزلها عن سلطة دمشق، مع ذلك رحبت بها تركيا، فقط شريطة أن لا تتم إقامة فيدرالية كردية، وكانت هذه إحدى نقاط الحديث أثناء المخابرة بين ترمب وبوتين من مدينة سوجي في نفس اليوم الذي اجتمع فيه بوتين مع أردوغان، وكرر أردوغان هذا العرض والاعتراض على ترمب أثناء زيارته، وحواره الذي لم يدم أكثر من عشرون دقيقة.
للدول الإقليمية وعلى رأسها إيران وتركيا خبرة طويلة في الدبلوماسية، إلى درجة يمكن وصفها بالنفاق وحتى بالدونية الدبلوماسية وليست السياسة المكيافيلية، فليس صعبا عليهم التغيير في نهجهم، وعلاقاتهم الدولية، من أجل بلوغ غايتهم، وتمرير جزء من أجنداتهم، وما دامت المكتسبات الكردستانية تقلق مضاجعهم، فلن يتوانوا من فعل كل ما يتمكنوا منه حتى ولو بشكل مباشر لإيقافها وتدميرها، وللأسف فمعظم الأطراف الكردية والكردستانية تدرك هذه الحقيقة لكنها ولغايات حزبية وأحيانا شخصية تتغاضى عن هذه الحقيقة، وتظل تدور في فلكها، ولا تقدم على فعل للتحرر من هيمنتهم، رغم اصطدامهم الدائم بنهجهم العدائي تجاه القضية الكردستانية بشكل عام حتى ولو إنها تمرر تحت غطاء العداء لحزب معين. وهنا لا بد من تنبيههم وللمرة المائة، بأنه لا يمكن الثقة بأية من هذه السلطات الإقليمية، وكل تقارب لا بد وأن ورائها غاية، ومصلحة ذاتية، مضرة بالقضية الكردستانية، حتى ولو كانت تظهر بعض المصالح الحزبية الآنية. وفي الواقع الفعلي لا فرق بين التعامل مع الهلال الشيعي أو القوى السنية، بدءً من المعارضة السورية السنية أو الدول المساندة لها، وعلى رأسها تركيا وقطر، وعليه فما ذكرناه ل ب ي د وما يدور في فلكه ضمن الإدارة الذاتية، موجه بحد ذاته إلى المجلس الوطني الكردي، في الحالتين: حضوره على الساحة، أو وهو في ضعفه الحالي، وبشكل خاص أحزابها الكبرى (جدلاً) الكردستاني واليكيتي، أو التي انسحبت كالتقدمي.
علينا جميعا أن نكرر لبعضنا بأن تركيا لن تتوانى من استخدام كل ما لديها من الإمكانيات، مع الأطراف الكردية القريبة منها إما بشكل مباشر أو عن طريق المعارضة السورية، مثلما تفعلها إيران مع الإدارة الذاتية وعن طريق السليمانية أو غيرها، للحد من صعود القضية الكردية في جنوب غربي كردستان ضمن المحافل الدولية، وهذه السلطات المحتلة تعترض بشكل مباشر على تشكل المنطقة الفيدرالية الكردستانية، ويسخرون الأطراف الكردية لهذه الغاية بشكل أو آخر، بدءً من ال ب ي د ومن معه، إلى الأحزاب المشكلة للمجلس الوطني الكردي، ومن السهل تسخير الأخيرة وهي في هذا الوضع المالي والسياسي المنهك، والتي تستغلها الإدارة الذاتية لمصالحها الحزبية وليست الوطنية.
على الإدارة الذاتية وال ب ي د أن تدرك أن غياب الجانب الكردستاني في المواجهة، ضعف مباشر لها داخليا وخارجيا، أمام القوى المعارضة العروبية، والتي مهما تحججت بالأممية والنظريات الديمقراطية ستبقى القوة الكردية وقضيتهم مرفوضة عندهم، لذلك فإن محاولات الإدارة الذاتية إضعاف الديمقراطي الكردستاني السوري، أكثر مما هو فيه، ومحاربة حزب اليكيتي، وكل ما لا يدور في فلكها، لن تقويها، بل تضعفها، وقد تؤدي إلى حدوث نخر داخلي تنعكس على قوتها أمام الدول الكبرى.
الأولى بالقوى الكردية المسيطرة، خاصة في واقع جنوب غربي كردستان الجاري، بل وفي جنوبه، مساعدة الأحزاب المعارضة، ودعمها ماديا، والسماح لنشاطاتها داخل المنطقة، وقد يبدو العرض غريبا، لكنها الحكمة، في كيفية الاستفادة من النقد، والنقد عندما يصدر من قوة متمكنة سيكون أصح وأصدق وطنيا من قوة ضعيفة مفروضة عليها أجندات إقليمية، وبالتالي ستفتح أعينهم على العديد من أخطائهم، وتصحيحها ستجذب المجتمع بشكل أمتن إلى مسيرتها. إلى جانب أن نشاطات المعارضة في الخارج ستؤثر على مواقف الهيئات الدولية بشكل أعمق وهي في الداخل.
ومن المعروف أن القوى والسلطات الحاكمة في معظم الأنظمة الديمقراطية لا تهدف إلى القضاء على المعارضة، بل غايتها تسخير الاختلافات لصالح الأمة، والقوة الحاكمة تحاول إثبات وجهة نظرها أمام المجتمع، وتبيان صحة نهجها، فهي تعلم بأنها يوما ما ستكون في موقع المعارضة. وذلك بعكس الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي لا تتوقع يوما بأنها ستتخلى عن السلطة، ولهذا فجل غايتها، إما القضاء على المعارضة، أو فرض التبعية عليها، لتحركها حسب مشيئتها، وبها يصبح المجتمع والدولة بمؤسساتها مسجونون ضمن نهج مطلق الفكر، وهنا تغيب الحكمة، والتنوير، وتتكاثر الأخطاء وتغرق في السلبيات، فتتزايد معاناة الشعب، وهي التي كثيرا ما تؤدي إلى الثورات الدموية. وإن استمرت الإدارة الذاتية وال ب ي د على ما هي عليه، من تعاملها مع المعارضة الكردية، فلا نستبعد أن يكون هذا هو مصيرها، ومصير المجتمع الكردي في جنوب غربي كردستان.
جميعنا نرى المراحل الغريبة التي مر بها الحزب الديمقراطي الكردستاني السوري وبشكل متسارع، إلى أن حامت حولها الشكوك، وتكاثرت أصابع الاتهام، وشملت الأطراف الكردستانية التي تتخذها سنداً، ولا شك ال ب ي د مشمولة بشكل أو آخر في هذه، وذلك على خلفية تصعيدها الصراع الكردي الداخلي. فصيتها الجماهيري الذي كان يوما تشاع، استناد على تتبعها للنهج البرزاني، لا يوجد منه اليوم على ارض الواقع سوى الشكل، والشكل الموجود تحت عباءة النهج الدارج مع أسم الكردستاني أو نهج البرزاني، ولا يتعدى الضجة التي يحدثها اسايش الإدارة الذاتية أثناء الاعتقالات وإغلاق مكاتب الأحزاب الكردية، ولا يستبعد بأن هذه الضجة بحد ذاتها تفعيل لغاية إبراز اسم للمعارضة، وتحت الاسم يقومون باعتقال ما لا يتوافق مع سياسية ال ب ي د في المنطقة.
في الواقع التناقض هائل، ما بين أسماء الأحزاب الكردية وأفعالهم، بين بياناتهم وخلفية نشاطاتهم، ومثلها ما بين الواقع السياسي للإدارة الذاتية والقوة العسكرية لقوات الحماية الشعبية، وهذا التناقض عند الطرفين، هي من العوامل المؤدية بهما إلى السقوط في الخلافات الداخلية، والمسهلة للقوى الأجنبية لفرض إملاءاتها. فتركيز الإدارة الذاتية على مفهوم الأمة الديمقراطية والإيكولوجية، لا تتعدى الحيز الخيالي، تعرض كرؤى فلسفية فكرية، تتعارض والواقع العسكري للقوات على الأرض، فالمحارب الكردي على الأرض يملك فكرة الدفاع عن الوطن الكردستاني، أما السياسي في مكتبه يحاور المجتمع على تشكيل هيئات ومؤسسات كردية، وفي الواقع العملي يقضي الكثير من نشاطاته ضد الوجود الكردي الأخر، أما النظرية فهي ليست سوى طرح طوباوي، تعد إشكالية عند القوى الكبرى وموقفهم من التوجه الاشتراكي الأممي، رغم عدم وجودها على أرض الواقع. وهذه القضية هي ذاتها عند الأحزاب الأخرى، وخاصة اليكيتي، التي لم تعد ترى نضالا على أرض كردستان، سوى الصراع مع ال ب ي د، ولم تعد ترى عدوا سواهم، وكأن القوى الإقليمية المحتلة لكردستان زالت من المنطقة.
تزايدت الشكوك حول مصداقية البارتي الديمقراطي الكردي خاصة قبيل مؤتمرها التوحيدي، والمؤدي إلى تقزيم نشاطات ثلاثة أحزاب كان لهم دور ما في المجتمع، وبقدرة قادر، ذابوا ضمن حزب بدأ يذوب بذاته، بعد أن جمعوا تحت رئاسة مجموعة، عينت وانتخبت وبأوامر مباشرة من قيادة الإقليم أو بالأحرى من ال ب د ك-ع، وغابت شخصيات عن الساحة كان لهم قيمة وطنية، ودون أن يكون البديل جديدا أو أنشط أو أوسع مداركا أو تراكما معرفيا من سابقيهم، والكثير من العتب هنا تقع، بعد البارتي الديمقراطي الكردستاني في جنوب كردستان، على الإدارة الذاتية وال ب ي د ورضوخهما لإملاءات إقليمية بعد أن صعدت عسكريا وماديا لضرب الأحزاب الكردية المعارضة …
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
2/5/2017م