في حكمة الصمت الرسمي السوري

حسين جلبي

لعل الشيء الوحيد الذي يُحسد عليه السيد بشار الأسد اليوم، هو هذه القدرة العجيبة في إظهار قدرٍ كبير من ضبط النفس، فسوريا تحترق أمام عينيه ، إن لم نقل يحرقها بيديه، والعالم يغلي كالمرجل من حواليه، ويضع الخطط لإطفاء الحريق السوري وحصر خسائره، في حين أن الرجل يبدو مستمتعاً بممارسة لعبة عض الأصابع مع شعبه ، ويعيش كما يُحب أن يُظهِر ترف الصمت، بإستثناء ممارسة بعض النشاطات الاجتماعية والعلاقات العامة، التي يجري تسريب أخبارها للإعلام، ليشعر الناس بأنه مازال موجوداً، وبأن الصور التي يحرقونها في الشوارع لا تمس الأصل في شيء.
وقد جاء في الأخبار أمس، أنه بتكليف من الرئيس بشار الأسد، زار السفير السوري في لبنان، الفنان نضال سيجري الذي أجريت له عملية جراحية في مستشفىً في بيروت، ناقلاً إليه إهتمام الرئيس الأسد بالاطمئنان على صحته وتمنياته له بالشفاء العاجل.
ومعروفٌ عن الفنان نضال سيجري أنه بطل مسلسل (ضيعة ضايعة)، في الحقيقة لم يتسبب أبطال المسلسل في ضياع قريتهم (أم الطنافس)، فقد ولدوا ليجدوها هكذا ضائعة، لكنهم مثل زملاءهم الفنانين أضاعوا فنهم بعدما رضي معظمهم بلعب دور الكومبارس في مسلسل العصابات المسلحة.
إن الحديث هنا عن اهتمام الرئيس بالاطمئنان على صحة هذا الفنان وتمنياته له بالشفاء العاجل، لايعني عدم اكتراثنا أيضاً بمرضه، ولا يعني كذلك استنكارنا لهذا السلوك الإنساني بالسؤال عنه مهما كان مصدر السؤال، بل يدفعنا للتأكيد على وجود مشاعر إنسانية مشتركة بين البشر مهما كانت مواقعهم، مثل ذلك ما ذكره صحفي كان معتقلاً في سوريا، من إن المحقق كان منهمكاً في تعذيبه عندما تلقى مكالمة إستنتج الصحفي من الحديث بأن على الطرف طفل، راح المحقق يخاطبه بأرق العبارات الإنسانية، واعداً إياه بإحضار كل ما يطلبه له عندما يعود من العمل، ليقفل الهاتف و يتابع (عمله).

و هنا يتوجب علينا شكر السيد الرئيس الذي يجد متسعاً من الوقت لمثل هذه الأمور الهامة حقاً، و لأنه لفت إنتباهنا إلى مرض الفنان سيجري، واعتذارنا له ـ للفنان ـ لجهلنا ذلك، لأننا في ظل هذه الأوضاع الشاذة التي تعيشها سوريا حالياً، من قتلٍ علني على الهوية الوطنية، لم تعد الفرصة متاحة لنا بسببها لقراءة المجلات الفنية ومتابعة أخبار الفنانين، فقد كانت آخر أخبارهم التي تابعناها، بعد قيامهم بلعب أدوارهم الحقيقية على شاشة التلفزيون السوري وملحقاته، هي خوفهم على الموسم الدرامي بسبب الثورة، وقلقهم الكبير من الخسائر المادية بسبب احتمال عدم تمكنهم من تسويق مسلسلاتهم، لبروز فنٍّ أكثر واقعية، يطلق فيه رصاص حقيقي وليس مطاطي، فتسيل من الممثلين القابلين للاستخدام مرة واحدة دماءٌ حقيقية، و يسلمون أرواحهم على الهواء مباشرةً، عدا عن المشاهد الغائبة التي يمكن للمشاهد نفسه نسجها، بالبناء على مقاطع الضرب و الدعس و التعذيب الوحشي و المقابر الجماعية، ليصنع في النهاية مسلسله الخاص (حمزة و هاجر)، الذي ضرب الدراما السورية التقليدية بعمق، و التي يأمل رجالها أن تصل استغاثاتهم إلى السيد بشار الأسد ثانية، فيشتري لحسابه أعمالهم كما فعل قبل أعوام عندما تبين أن هناك مؤامرة خارجية على هذا الفن.
ما يجري اليوم في (جمهورية الطنافس) هو نتيجةٌ لامتلاء دفتر الديون على آخره، و قد جاء وقت دفع الحساب.

لم تعد حكمة (قد تكسب بالصمت أضعاف ما يكسبه الآخرون بالكلام) مجدية، لأن ما دفعه الآخرون، المتكلمون، تقسيطاً، سيدفعه الصامتون دفعةً واحدة، و النتيجة في النهاية واحدة لا تختلف، إلا في معدل فوائد الدين.
محامي سوري مقيم في ألمانيا

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس في عالم يتأرجح بين الفوضى والنظام، يبرز المشهد السياسي للولايات المتحدة في ولاية دونالد ترامب الثانية (2025) كمحطة حاسمة لإعادة تعريف التوازنات العالمية. إن صعود ما يُمكن تسميته بـ “الدولة العميقة العصرية”، التي تجمع بين النخب الاقتصادية الجديدة والتكنولوجية والقوى السياسية القومية، يكشف عن تنافس ضمني مع “الدولة العميقة الكلاسيكية”، المتمثلة في المؤسسات الأمنية والعسكرية التقليدية. هذا…

تعرب شبكة الصحفيين الكُرد السوريين، عن قلقها البالغ إزاء اختفاء الزميلين أكرم صالح، مراسل قناة CH8، والمصور جودي حج علي، وذلك منذ الساعة السابعة من أمس الأربعاء، أثناء تغطيتهما الميدانية للاشتباكات الجارية في منطقة صحنايا بريف دمشق. وإزاء الغموض الذي يلف مصيرهما، فإننا نطالب وزارتيّ الإعلام والداخلية في الحكومة السورية، والجهات الأمنية والعسكرية المعنية، بالتحرّك الفوري للكشف عن مكان وجودهما،…

اكرم حسين في عالم السياسة، كما في الحياة اليومية عندما نقود آلية ونسير في الشوارع والطرقات ، ويصادفنا منعطف اونسعى إلى العودة لاي سبب ، هناك من يلتزم المسار بهدوء ، وهناك من “يكوّع” فجأة عند أول منعطف دون سابق إنذار. فالتكويع مصطلح شعبي مشتق من سلوك السائق الذي ينحرف بشكل مفاجئ دون إعطاء إشارة، لكنه في السياسة يكتسب…

إبراهيم اليوسف توطئة واستعادة: لا تظهر الحقائق كما هي، في الأزمنة والمراحل العصيبةٍ، بل تُدارُ-عادة- وعلى ضوء التجربة، بمنطق المؤامرة والتضليل، إذ أنه بعد زيارتنا لأوروبا عام 2004، أخذ التهديد ضدنا: الشهيد مشعل التمو وأنا طابعًا أكثر خبثًا، وأكثر استهدافًا وإجراماً إرهابياً. لم أكن ممن يعلن عن ذلك سريعاً، بل كنت أتحين التوقيت المناسب، حين يزول الخطر وتنجلي…