درعا….

جان دوست

أجد نفسي مضطرا للكتابة عن درعا…درعا التي ربطتني بها أيام العسكرية البيروتية صداقة شاب من عائلة أبو نبوت….وقد سقط منها الآن شهيد في اقتحام المسجد العمري… كان صديقي الذي يسمى سامر… مثالاً للطيبة ودماثة الخلق والترفع عن الصغائر… مع قليل من الخوف من الموت أشاركه فيه… وكنت أحبه وأفضله حتى على الكثير من أصدقائي وأبناء جلدتي الأكراد.

ولا أنسى ما حييت تلك اللقطة المرعبة عندما سقطت قذيفة هاون في مربض مدفعيتنا في الرمل العالي ببيروت عندما كنا نواجه قوات الجنرال ميشيل عون في تشرين الأول عام 1991، أسرعت أنا وسامر أبو نبوت لنحتمي بالملجأ وكان لارتباكنا أن حشرنا سوية في المدخل بسبب صفيحة ماء كان يحملها في يده لم ينتبه لها ولم يشأ رميها.

وكم ضحكنا بعد الحادثة على تلك اللقطة التي تم حشرنا فيها.
الآن نرى درعا تواجه وحيدة الرصاص والقتل بدم بارد… الآن نرى درعا ترسم وحيدة خارطة الحرية… تدفع من دماء شبابها فاتورة كسر حاجز الخوف وسط ذهول السوريين جميعاً وعدم تصديقهم لما يجري… أي درعا هذه التي قامت لتسبب الصداع للسوريين كلهم… ممانعة ومعارضة، مثقفين وكتبة نظام، شيوعيين وإخوانا وقبل كل شيء أكراداً ثوريين.

أي درعا هذه التي قامت رافعة لوحدها راية الدفاع عن الشرف الرفيع، عني وعنك وعن غيرنا! أية مدينة مجنونة بالحرية..

ممسوسة هذه هي درعا… التي تقف لوحدها ..

ناشرة شعرها الفاحم للريح… قائلة: يا حيف يا حيف… كانت مفاجأتها بالفعل من العيار الثقيل..
الله الله يا درعا….

أهذا هو دم شبابك الذي يراق أم شقائق النعمان مبشرة بنيسان… أهذا صرخة شبابك  أم رعود ربيع تأخر كثيراً؟
درعا الآن تضعنا جميعاً أمام أنفسنا وتعرينا! نعم تعرينا كما فعلت القامشلي قبلها منذ بضع سنين… تضعنا أمام أنفسنا وتمتحن شجاعة كل واحد منا، تمتحن وطنية كل واحد منا… تمتحن مدى صدق كل واحد منا مع نفسه، مع وطنه وقبل كل شيء… مع ضميره..

درعا الآن لا تريد مقاتلين..

لا تريد مزيداً من الدمع والدم… لا تريد هتافات ولا تصفيقاً حاراً من الجمهور المتسمر أمام الشاشات مستمتعاً للعرض البطولي الأخاذ الي يقدمه شباب درعا مكتفياً بهز الرأس وترديد عبارات الاستحسان والمديح لجمال قاماتهم… الجمهور الذي يفصفص البزر بمتعة وهو يرى فرض الكفاية يؤديه شباب درعا… إنها بحاجة لمواساة..

بحاجة لمن يمسد بحنان شعرها الفاحم الذي ضرجته الدماء..

بحاجة لمن يضمد جراحها بكلمة..

بحاجة لمدن أخرى تغني معها..

درعا هي قامشلي… وإن كانت درعا حزينة وحيدة اليوم..

فقد كانت قامشلي كذلك قبل سبع سنوات… وهاهو ربيع سوريا يتماهى مع ربيع الكرد… فربيع الكرد كان كل عام دامياً… لم تشأ درعا إلا أن تعيش أجواء نوروز المكفهرة… فهل تعيش كل المدن السورية ما تعيشه درعا الآن!!
شكراً درعا… واعذريني فليس لي سوى هذا الكلام الهزيل.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نحن أبناء قبائل الملية وحرصا منا على وحدة الصف وتمسكا بقيم وتضحيات أجدادنا التاريخية التي دأبت على توحيد الكرد، فإننا ندين ونستنكر بشدة زج اسم عشيرة الملية في البيان الصادر والمعنون ب بيان الكتل السياسية والعشائرية والمدنية الكردية برفض وثيقة مؤتمر القامشلي والذي نشر بتاريخ ٢٨-٠٤-۲۰۲٥- والذي يرفض وثيقة مؤتمر وحدة الموقف والصف الكردي المنعقد في قامشلو بتاريخ ٢٦ نیسان…

بيمان حسين ما حدث في 8 ديسمبر من عام 2024، على قدر جماله وروعته، كان شيئا غير متوقع على الإطلاق. فحلم الانعتاق والتحرر من نير النظام القمعي كان حلما تطلب تحقيقه مهرا غاليا من التضحيات اللامتناهية. في أعرافنا وثقافاتنا، نربط الأشياء غير المفهومة بالقدرة الإلهية، ولكن في هذا الموضوع بالتحديد، هناك رغبات وقدرات أخرى غير إلهية كان لها التأثير الأكبر…

المهندسِ باسل قس نصر الله في زمنٍ مضى، كانتْ سوريّٞةَ تصنعُ رجالاً لا تصنعُهمُ ٱلظروفُ، بلْ يصنعونَ ٱلظروفَ ذاتَها. فارسُ ٱلخوريِّ كانَ واحداً منْ هؤلاءِ: معلماً، ومشرِّعاً، ورجلَ دولةٍ يعرفُ أنَّ الوطنَ ليسَ شعاراً يُرفعُ عندَ ٱلحاجةِ، بلْ عقدَ شرفٍ يُمارسُ كلَّ يومٍ. فارسُ ٱلخوريِّ لمْ يُعرفْ بطائفتِه ولا بمذهبِه، بلْ بسوريّتِه المطلقةِ. وقفَ في وجهِ الانتدابِ الفرنسيِّ،…

جلسة حوارية منظمة من قبل منصة ديفاكتو الحوارية حول مفهوم الإعلان الدستوري في سوريا في فندق الشيراتون . حاضر فيها الاستاذ أحمد سليمان نائب سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا والأستاذ معن الطلاع مدير قسم البحوث العلمية في مركز عمران للدراسات و بتيسير من الأستاذ خورشيد دلي بمشاركة عدد من المثقفين و المهتمين بالشأن السياسي السوري. تمحورت الجلسة حول…