من جوبا إلى أربيل

غسان شربل

لا تُغتال البلدان من خارجها.

الطعنات القاتلة تأتي من الداخل.

من التسلط وغياب مفهوم المواطنة.

من رفض التسليم بحق الاختلاف.

من محاولة شطب ملامح وفرض ملامح.

من التمييز وفقدان المؤسسات الجامعة.

من اعتبار التعددية خطراً ومحاولة معالجته بفرض لون واحد او فكرة واحدة.

من عدم احترام تراث وانتماءات وتطلعات.

من العجز عن الإصغاء الى الآخر.

ومن رفض البحث عن منتصف الطريق للقاء في رحاب دولة تتسع لكل مواطنيها.

ومن محاولة ضمان الوحدة بالقسر والترويع لإرغام المختلفين على التنازل عن هوياتهم وكتبهم وأسلوب حياتهم.
لا تتصدع بلداننا فجأة.

لهذه النتائج مقدمات لم تكن سراً.

الإصرار على عدم الالتفات اليها يعمّق التباعد بين المكونات ويجعل الصدام بين الهويات حتمياً.

وكثيراً ما تم التعامل مع مطالبة مجموعة من المواطنين بالحكم الذاتي او حق تقرير المصير بوصفها خيانة ومجرد صدى لمؤامرة لفقتها دوائر اجنبية.

وكانت السلطة تلجأ الى الحرب.

وحين تعجز عن الحسم تبرم اتفاقات تعتبرها مجرد هدنات وتغتنم اي سانحة للتراجع عنها.

ويمكن القول ان الخارج لم يكن بريئاً في معظم الحالات، لكن اصل المطالبة او المشكلة موجود في الداخل.

وأحياناً كانت السلطة تفضل التنازل للخارج على إبرام تسوية حقيقية في الداخل.
ما كنا لنصل الى ما شهدناه امس في جنوب السودان لو ان الرئيس الراحل جعفر نميري احترم اتفاقية اديس أبابا للحكم الذاتي التي ابرمها في 1972 مع التمرد الجنوبي والتي وضعت حداً لـ 17 عاماً من القتال.

يمكن القول ان نميري سلك لاحقاً الطريق الذي يعزز التباعد بين شمال السودان وجنوبه.
لا يحمل الوضع الحالي بصمات نميري وحده، فله في ذلك شركاء كثر.

في 1979 زرت السودان للمرة الاولى والتقيت الدكتور حسن الترابي الذي كان يحمل صفة «النائب العام»، اي وزير العدل.

في نهاية الحديث مازحت المتحدث قائلاً: ماذا تفعل بمشاركتك في نظام نميري؟ وجاءني الجواب مشفوعاً بابتسامة: «إننا نؤسلم النظام خطوة خطوة».

لم اتوقع يومها ان ينجح برنامج الترابي وأدرجت كلامه في باب تبرير وجوده في السلطة.
بعد اربع سنوات ذهبت لتغطية مؤتمر عام للاتحاد الاشتراكي السوداني (الحزب الحاكم آنذاك).

تحدث نميري في المؤتمر مشدداً على عروبة السودان ومؤكداً عزمه على أسلمة التشريعات في بلاده.

وفجأة وقفت احدى مندوبات الجنوب الى المؤتمر لتقول بالانكليزية للرئيس: «إنك تشدد على العروبة والإسلام، فماذا يكون موقع سودانية مثلي ليست عربية ولا مسلمة».

وفي ايلول (سبتمبر) 1983 أعلن نميري تطبيق الشريعة الاسلامية وأخلّ باتفاقية اديس أبابا لجهة التقسيمات في اقليم الجنوب فتجددت الحرب هناك.
ظل جرح الجنوب مفتوحاً على رغم جولات المحادثات والهدنات.

ومع ما سمي «ثورة الانقاذ» التي ولدت من انقلاب 30 حزيران (يونيو) 1989 ازداد التباعد بين الشمال والجنوب وكان ذلك نتيجة طبيعية للمشروع الذي حمله الرئيس عمر حسن البشير ورفاقه بوحي من الترابي.

وبدا أحياناً ان فريقاً في الخرطوم ينظر الى الجنوب بوصفه عبئاً او عائقاً امام استتباب النظام الاسلامي في الشمال.

وتأكدت هذه النظرة عبر التصريحات الاخيرة للبشير الذي وعد بتعميق التجربة الاسلامية بعد حل مشكلة التعددية باحترام رغبة الجنوبيين في الانفصال.
على رغم الفوارق الكثيرة يذكّر الوضع السوداني بالوضع العراقي.

في 11 آذار (مارس) أعلن اتفاق الحكم الذاتي في كردستان العراق.

حمل الاتفاق بصمات «السيد النائب» صدام حسين.

بعد سنة ارسل صدام وفداً مفخخاً كانت مهمته اغتيال الملا مصطفى البارزاني الذي نجا بأعجوبة.

بعد ثلاث سنوات حاول التلاعب بالاتفاق فاستؤنف القتال مع الاكراد.

وفي 1975 فضل في «اتفاق الجزائر» تقديم التنازلات الى ايران على تقديمها الى جزء من شعبه.

والبقية معروفة.
من جوبا الى أربيل يمكن الحديث عن تجربتين تعنيان العالم العربي.

من دون استخلاص العبر قد نستيقظ في وقت غير بعيد على سلسلة من الحروب الاهلية وطموحات الانفصال والتحصن في أقاليم.

الضربات التي توجهها «القاعدة» في الدول التي تتعدد انتماءات اهلها تصب في هذا الاتجاه.

يستحق التطور في جنوب السودان وقفة عربية جدية.

الحياة

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…