الثقافة العراقية ومسافة الالف ميل …

فوزي الاتروشي
وكيل وزارة الثقافة في العراق

ذات يوم حين كان (ديغول) يضع الاسماء لحكومة جديدة في فرنسا، لم يجد اية صعوبة في تحديد الشخصيات التي تشغل الحقائب الوزارية , ولكنه حين وصل الى وزارة الثقافة توقف وقال انني اشعر برهبة في تعيين الشخص الذي يمثل الثقافة الفرنسية العريقة في التاريخ.

هذا هو الموقع الذي تمثله هذه الوزارة المهمة في كل اوروبا المتحضرة.

اما في دولة مثل العراق فأنها ينظـــر اليها كوزارة اقل شأنـــاً من الداخلية والدفاع والماليــة وغيرهـــــا, رغم انها الاهم على الاطلاق , لأن كل مشاكلنـــــا اساسهــــا انعدام الثقافة الحضـــــارية , فالسياسة الانيقة والاقتصاد الناهض والوئام الاجتماعي واشراك النساء على قدم المساواة مع الرجل في كل اوجه الحياة ونشر افاق الديمقراطية , واتباع السلوك التربوي المتطور وتوسيع سلة الحقوق الفردية وما عداها تعزى بالاساس الى وجود او عدم وجود ثقافة ووعي متقدم لدى الشعب.

 في العراق تم على الدوام تسييس الثقافة بالمعنى الضيق للكلمة اي ربطها بالاغلال ودمجها في سياسة الحكم او الحزب الحاكم , لذلك اصبحت تمثل هوية حزب بعينه او شخص الدكتاتور او سياساته , ولم تعد تمثل هوية وطن ومجتمع وشعب.


وبعد التغيير كان الرهان على تطوير النظرة لدور الثقافة , لكن المفارقة هذه المرة ان الحكومات العراقية منذ عام 2003 لم تقدم على اي اجراء انعطافي ينقذ الثقافة ووزارة الثقافة من ازمتها.


وظلت ميزانية الوزارة ضئيلة وبقيت الوزارة ممزقة اكثر من اية وزارة اخرى بالحساسيات الطائفية المنغلقة على نفسها , ومازالت القطيعة هي السائدة , قطيعة شرائح واسعة من المثقفين العراقيين للوزارة , وقطيعة مثقفي الداخل مع الخارج , والقطيعة بين مثقفي مكونات العراق القومية.


انقاذ وزراة الثقافة وتطويرها امر حتمي وذلك يتطلب قبل كل شئ تثقيف السيــــاسة العراقيـــة وعدم اقحام الثقافة والعمل الفكري الابداعي في اي تخندق طائفي او ديني او قومي او اثني او حزبي, فالثقافة والابداع بالاساس عمل اجتماعي, تغييري, نقدي, تقويمي يمثل حضارة شعب في مرحلة معينة وتطلعاتــــه الى المستقبل , والثقافـــة اساساً انفتاحية , حضارية , انسانية لاتقبل اي تقوقع واذا قبلت ذلك لن تعود ثقافة.


لقد ازدهرت الفاشيـــــة في ايطاليا لان (موسولوني) لم يقرأ من التــــاريخ سوى كتاب ميكافيلي , وعلا شأن النازية في المانيا لان (غوبلز) وزير اعلام (هتلر) كان يردد دائماً انه يتحسس مسدسه اذا سمع كلمة ثقافة , وطغى الطابع الشمولي على الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه لانها سلمت قرأة فلسفة (ماركس) الى الشرطة والعسكر ومنعت قراءات المثقفين والفلاسفة والمفكرين للفلسفة الماركسية.


اما النظام الدكتاتوري في العراق فقد اقحم الثقافة العراقية في الادلجة والنمطية والشخصنة والانتقائيـــة , وربطها بخطاب السياسة اليوميـــــــة لتتحول الثقافة من خطاب استراتيجي بعيد المدى , الى رسالة اعلامية باهتة وصفراء وكان ان ادمجت الثقافــــة والاعلام في وزارة واحدة .

كل هذه الامثلة تقودنا الى حقيقة ان الثقافة العراقية كنسيج لهوية العراق بكل مكوناته لايمكن ان تخرج من المأزق الا برؤية العراق ككل وكتاريخ وحضارة ومجتمع منفتح عليه التواصل عبرجسر الثقافة مع الحضارة الانسانية , وهذا يقتضي كما اسلفنا اهالة التراب على تعريف الثقافة الحالي الذي ترتكن اليه الاطراف  السياسية المشاركة في العملية السياسية , واعادة الوجه المشرق الى ثقافة وادي الرافدين وضخ دماء عناصر مشبعة بالديمقراطية , والفكر الانساني في وزارة الثقافة العراقية .

انه امل ومسافة الالف ميل تبدأ بخطوة واحدة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نحن أبناء قبائل الملية وحرصا منا على وحدة الصف وتمسكا بقيم وتضحيات أجدادنا التاريخية التي دأبت على توحيد الكرد، فإننا ندين ونستنكر بشدة زج اسم عشيرة الملية في البيان الصادر والمعنون ب بيان الكتل السياسية والعشائرية والمدنية الكردية برفض وثيقة مؤتمر القامشلي والذي نشر بتاريخ ٢٨-٠٤-۲۰۲٥- والذي يرفض وثيقة مؤتمر وحدة الموقف والصف الكردي المنعقد في قامشلو بتاريخ ٢٦ نیسان…

بيمان حسين ما حدث في 8 ديسمبر من عام 2024، على قدر جماله وروعته، كان شيئا غير متوقع على الإطلاق. فحلم الانعتاق والتحرر من نير النظام القمعي كان حلما تطلب تحقيقه مهرا غاليا من التضحيات اللامتناهية. في أعرافنا وثقافاتنا، نربط الأشياء غير المفهومة بالقدرة الإلهية، ولكن في هذا الموضوع بالتحديد، هناك رغبات وقدرات أخرى غير إلهية كان لها التأثير الأكبر…

المهندسِ باسل قس نصر الله في زمنٍ مضى، كانتْ سوريّٞةَ تصنعُ رجالاً لا تصنعُهمُ ٱلظروفُ، بلْ يصنعونَ ٱلظروفَ ذاتَها. فارسُ ٱلخوريِّ كانَ واحداً منْ هؤلاءِ: معلماً، ومشرِّعاً، ورجلَ دولةٍ يعرفُ أنَّ الوطنَ ليسَ شعاراً يُرفعُ عندَ ٱلحاجةِ، بلْ عقدَ شرفٍ يُمارسُ كلَّ يومٍ. فارسُ ٱلخوريِّ لمْ يُعرفْ بطائفتِه ولا بمذهبِه، بلْ بسوريّتِه المطلقةِ. وقفَ في وجهِ الانتدابِ الفرنسيِّ،…

جلسة حوارية منظمة من قبل منصة ديفاكتو الحوارية حول مفهوم الإعلان الدستوري في سوريا في فندق الشيراتون . حاضر فيها الاستاذ أحمد سليمان نائب سكرتير الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا والأستاذ معن الطلاع مدير قسم البحوث العلمية في مركز عمران للدراسات و بتيسير من الأستاذ خورشيد دلي بمشاركة عدد من المثقفين و المهتمين بالشأن السياسي السوري. تمحورت الجلسة حول…