ردّ على دبي الحربي: المسألة الكرديّة.. أيّة مواطنة؟

بدرخان علي

حَسناً فَعَل الكاتب الكويتي دبي الحربي حين أَجْلى بعضَ الغموض في مقاله الأوّل، بصدد المسألة الكردية في العراق، انطلاقاً من عقدة «كركوك» (أكراد العراق… وأزمة كركوك، الثلاثاء- 12 أغسطس 2008، «أوان» )، بكتابة مقالٍ ثانٍ أَبْلغ من سابقه.

وأزمة «كركوك»، اليوم، تصلحُ مناسبةً جيّدة لمن يهمّه الأمر، ومن لا يهمّه، أن يُدلي بدَلْوه في نُصح ووَعظِ الأكراد وتحذيرهم من مغبّة الخروج على الصّراط العراقيّ المستقيم، والوطنيّة العراقيّة الأصيلة..

كما التنويه إلى خُبث الأكراد وغدرهم واستقوائهم بالأعداء على إخوتهم الذين أحْسَنوا واجبَ الضيافة معهم في العراق وغيره.
 ولن أتوقّف كثيراً عند النزاع حول كركوك، لأنّ ما جاء في مقال الأستاذ «الحربي» الثاني (المواطنة بدلاً من أكاذيب الخصوصية، الثلاثاء- 2 سبتمبر 2008، المصدر السابق) يشكّل برأيي، موضوعاً أَبْلغ من «كركوك» لجهة الوضوح والمرامي الإيديولوجيّة والسياسيّة غير المُسْتترة.

وعلى أية حال فإن وجهة النظر الكردية غير خافية في هذا الشأن، لمن يهمّه الأمر، وقد يستطيع كرد العراق بواسطة مثقفيهم وسياسييهم المُرافَعة، أكثر مني أنا الكرديّ السوريّ، في حيثيات هذه المشكلة الملتهبة.

ففي المقال الأول كانت رؤية الأخ الحربي في المسألة الكردية في العراق على النحو التالي: «فهذه الدولة (يقصد العراق) ذات الأغلبية العربية، شكل فيها الكرد شوكة، ومصدرا للتدخلات الأجنبية، أحبطت كل مساعي العراق للنهوض والتقدم»..

«بقي الكرد عنصر التأزيم الأبدي لعراق معافى وديمقراطي»..

«من هنا، على زعماء الكرد في العراق أن يكفوا أذاهم عن الديمقراطية الوليدة في العراق».

والواقعُ أنّ المسألة الكردية كانتْ، بالفعل، مشكلةً كبيرة وبنيويّة في العراق منذ تأسيسه، على هندسةٍ بريطانيّة، وضمّ إقليم كردستان إلى العراق العربي بشكل تعسفيّ ومن دون رغبة أهله، وظلّت كذلك إلى يومنا هذا، الأمر الذي سيعني للمراقب الحياديّ، كما نتوقّع، أنّ حيفاً كبيراً وقَعَ على كرد العراق، يدفعهم للتمرّد والانتفاض على البناء الدوليّ القوميّ المُمركز حول قوميّة واحدة ولونٍ واحد وثقافة واحدة، وتالياً، أن تستمرّ المشكلة لقرنٍ من الزمان وبهذا الشكل الصّاخب دون هَدْأة أو ملل.

أمّا مَنْ استبدّت به الحمية القوميّة والهوى الإيديولوجيّ، الذي لا يتبدّل، فستعني له القضية برمّتها، كما هو متوقع أيضاً، مؤامرةً كرديّة (والغرب من خلفها بالطبع) مستمرّة على العراق والعروبة، ليس إلاّ..

أو ربّما أكذوبةً من «أكاذيب الخصوصيّة»!
والحقيقة أن محاولة الأخ الحربي في تبرير رؤاه القاصرة والمُجحفة، بل المتعالية والاتهاميّة لكرد العراق (وكرد سورية الذين يبلغ عددهم وفق إحصائيات الأخ الكاتب مليون نسمة، وكرد العراق ثلاثة ملايين!) تبريرها من طريق الاستناد إلى «نظريّة» تاريخيّة- سوسيولوجيّة منسوبةٍ لمؤرّخ وعالم اجتماع وفيلسوف (يمكن وضع اسمه إلى جانب ديكارت وهيغل وكانط..)، هو «البروفسور الكردي عمران ميران»! ولمن لا يعرف البروفسور ميران فعليه بتعريف السيد الحربي: «حاصل على شهادة الدكتوراة من جامعة السوربون العام 1952 تخصص تاريخ شعوب الشرق الأوسط، والمولود في شقلاوة-أربيل، وقد تم اغتياله في العام 2005 بسبب آرائه المخالفة لما يسوّق له قادة كرد العراق».
لكن ماذا يقول هذا العالم الكرديّ حتّى يَحوزَ هذا الإعجاب منقطع النظير، من طرف الكاتب الحربي؟ فلنُصغِ جيّداً إذاً لما يقوله صاحبنا البرفسور»: إن الشعب الكردي كله شعب بسيط وبدائي في كل ما للكلمة من معنى حقيقي… إن البعض يحاول أن يقنع نفسه بحضارة كردية وهمية كانت في زمن من الأزمان وأقصد هنا الدولة الأيوبية.

وهنا أقول إنها لم تكن كردية، ولكنها إسلامية، وإن كان قادتها ومؤسسوها من الأكراد.

هناك الكثير من العوائل، بل والعشائر الكردية وذات التأثير في المجتمع الكردي، هي من أصل عربي، ومن تلك العشائر على سبيل المثال لا الحصر (البرزنجية والطالبانية)..

ولكن الباحث العلمي يجب أن يتحلى بالصدق والأمانة العلمية الدقيقة.

وخوفي هنا أنهم سيجعلون من الشعب الكردي شعبا كاليهود في فلسطين، وسيجعلون عليهم قيادات تسير بهم نحو الهاوية.

ويعيب د.ميران على التسمية التي يطلقونها على المنطقة (كردستان)، ويقول «كلما ذكرت أمامي وأنا ابن تلك المنطقة، أشعر بالاشمئزاز لما تحمله هذه التسمية من عنصرية بغيضة».!!
ويختتم السيد الحربي مقالته الصارمة المستمدّة بأكملها من مقولات العالِم السابق، المنقولة من صفحة إنترنت رديئة:
«هذا ماكتبه مفكر ومؤرخ كردي، لعل فيه الرد على من أساء فهم مضمون مقالي، والقرن الـ21 هو قرن المواطنة العالمية لا دعوات وادعاءات الخصوصية وحقوق الأقليات التى تخفي ماوراءها ويصدقها البعض».
من جهتنا نظن أنّ مجرّد ركون السيد الحربي إلى بروفسور كرديّ ، «اعترف» بعيوب قومه على الملأ، بالطريقة اللاعلميّة واللاتاريخيّة تلك، لا يعني أن ما يقوله يشكل نظريات تاريخيّة لا يأتي الباطل إليها من خلفها أو أمامها.

ولماذا لا يتنوّر السيد الحربي بآراء باحثين ومؤلفين كرد آخرين من باب التنويع في الآراء والمصادر، فيزيد قرّاءه نوراً ومعرفة؟ وإلاّ لكانَ الإتيانُ بأمثلةٍ عربية من هامش الثقافة العربيّة ومتنها، ناهيك عن الأجنبية، (ومن خريجي السوربون وغيرها)، تقول بحقّ العرب أكثر ما قاله هذا الكردي الحصيف بحق الكرد، لكانَ ذلك مشروعاً لمن كان يريد الانتقاص من «العرب»، أو في المقابل سيكون مشروعاً لأي كرديّ آخر أن يأتي ويتكلّم على عَظَمَةِ أمّته الكرديّة ورسالتها الخالدة وحضارتها الغابرة بالطريقة الإنشائيّة التي تكلّم بها السيد البروفسور، مادَامَت الأمور بهذا الاستسهال العلميّ المجانيّ.

لكنه أسلوب لا يمتّ للثقافة والفكر بشيء.

وهذا موضوع لحديثٍ يطول ويطول، ويجب الحذر دائماً من زجّ التاريخ، المتخيّل أو الواقعي، في غير مكانه الملائم.

وليس هناك أسوأ من استحضار مقولاتٍ تبدو للبعضٍ، للوهلة الأولى، تاريخية وعلميّة من أجل تبرير سياساتٍ حاليّة، من قبيل ما ذهب إليه السيد الحربي حين اتّكأ على تلك المقولات العامّة والإنشائيّة والسطحيّة لكرديّ، يشعر بالاشمئزاز لمجرد ذكر اسم «كردستان»، لأنها تسمية عنصريّة بغيضة! وهو بنظر السيد الحربي مصدر موثوق، لا لكونه مُعمّدا بالتخرّج من جامعة السوربون، بل لأنه نَاسب رؤية الأخ الكاتب وهَوَاه.

كأن به –أي السيد الحربي- يقول بطريق اجترحها للكرد كَيْما يتخلّصوا من تخلّفهم وبدائيتهم وهمجيتهم وفقرهم.

لكن متى، وأين، كان من الضروري أن يكون لشعبٍ ما «حضارة عظيمة» حتّى تكون حقوقه مشروعة وقضيته عادلة؟ وهل كلّ الشعوب التي نالت حقوقها ،الجماعية، في هذا العالم، أو حتى الدول التي شُيّدت، نَهَضْت على حضاراتٍ عظيمة وما شابه؟ هل تذكّرتم الخطاب الصهيونيّ عن الفلسطينيين والعرب؟.هل تذكّرتم الخطاب العنصريّ ضد اليهود، لمجرد كونهم يهوداً، في بعض الخطاب الغربيّ، الدينيّ المسيحيّ منه على وجه الخصوص، قبل أن يُصار إلى توظيف تاريخ اضّطهاد الغرب لليهود أنفسهم لتبرير سياسات عنصريّة ظالمة، وعلى حساب فلسطين وشعبها هذه المرّة؟
يقيناً إن ما أتى به السيد الحربي يَرْقَى (أو ينحطّ بالأحرى) إلى سويّة الشوفينية الكريهة، والتعاليّ القوميّ الذي لا يشرّف أحداً من معتنقي المذهب هذا.

وقد يكون من المفيد لكلّ من أشْكَل عليه الموضوع الكرديّ، العودة إلى باحثين ومفكرين عرب، وعراقيين تحديداً، لتفهّم أبعاد المسألة الكرديّة في المنطقة والعراق، ومدى عمقها وتجذّرها.

وليكُن الراحل الكبير هادي العلوي، على سبيل المثال، واحداً من هؤلاء، هو المفكّر الذي لم يوفّر يوماً ما القيادات الكردية العراقيّة من النقد القاسي، وأكثر، لكنّه سيظلّ نصير القضية القوميّة للشعب الكرديّ في المنطقة، من منطلقات فكريّة وتاريخيّة، ناهيك عن النُبل الإنسانيّ، خالية من أية شوائب عنصريّة بلا تحفّظ «مواطنوي» زائف..

ذاك الذي قال مراراً إن عرب العراق هم أكثر تفهّماً، من العرب الآخرين، لعدالة القضيّة الكردية وحقوقهم حتّى الدولة المستقلّة في المنطقة.
في الواقع يمكن الإتيان بكثير من الأمثلة في توظيف التاريخ المزعوم لأغراض السياسة الحاليّة.

وعن موضوعنا (الأكراد وكركوك) يمكن التذكير بما يردده الخطاب القوميّ التركيّ عن رقي الأتراك وتخلّف الأكراد وهمجيتهم.

لا بل عن مزاعم أقدميّة وجود الترك في المنطقة بناءً على أساطير مُخْتَلَقة، لكنْ ليس لدى الدول من يُسائلها.

أما الكرديّ الذي ينوي العودة إلى مدينته «كركوك» التي شرّد منها بمُقْتَضى سياساتٍ عنصريّة شوفينيّة، إنمّا يصوّر كمعتدٍ على المدينة وأهلها «الأصليين».

وللمناسبة فإنّ تركيا، هي أيضاً، حريصةٌ للغاية على مستقبل كركوك وسِلْمها الأهليّ وتوافق سكّانها، مثل بعض الأشقاء العرب الذين جعلوا من طاغية العراق فرعون العصر، بوصفه بسمارك العرب، وحارس البوابة الشرقيّة، وهو يوغل قتلاً وتدميراً في العراق وأهله.

وها هم العراقيون جميعاً يحصدون نتائج سياساته التدميريّة للاجتماع العراقيّ والنسيج الوطنيّ، وأكثر ما تتبدّى في الطائفيّة التي أجّجها في نفوس العراقيين، والتي ما كان ينقصها الإذكاء والتسخين أصلاً.

وإلا لماذا لا نسمع تنديداً عربيّاً بالتدخّل التركيّ السّافر في شؤون يُفترض أنها عراقية داخليّة، أمْ أنّ تركيا تقوم نيابة عن «الكلّ» في واجبها بالحفاظ على وحدة الأراضي العراقيّة؟ هل سيجد السيد الحربي نفسه في موقع السياسيّ العراقيّ، الوطنيّ الغيور، الذي يشعر بالامتنان دائماً، وعلى المنابر دون خجل، للموقف التركيّ الحريص على وحدة العراق، والميثاق القوميّ التركيّ مازال يعتبر «ولاية الموصل» في عداد خريطة تركيا القومية؟ وهو ما لا يتردّد حكّام تركيا، وعسكرها، من المجاهرة به علناً، والعمل بموجبه في سياساتهم تجاه العراق والكرد خصوصاً.
هذا غيضٌ من فيض ما أتى به الأخ الحربي في مقالتيه.

وإذا كانت غايةُ تلك المواطنة المقترحة من قبل السيد الحربي هي «حلّ» لمشكلة تخلّف الأكراد، كما نفهمُ من مقالته الثانية، فلا دامَتْ هذه «المواطنة» المزعومة، ولا بوركَ هذا الحلّ «الحضاريّ».
أمّا الحديثُ عن المواطنة العالميّة، فلا يحقّ إلاّ للذين تجاوزوا العصبيّات كلّها باختلاف أشكالها، وفي القلب منها المُفاضلة الزائفة بين الأعراق والشعوب والقوميّات.


كاتب كردي من سورية

السبت 27-9-2008

جريدة “أوان” الكويتية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…