في زمن كورونا.. ما حقيقة «القرية الصغيرة»؟

د. ولات ح محمد
 
    “كورونا وحّد العالم” عبارة ترددت خلال الأسابيع والشهور الماضية في الكثير من الكتابات والحوارات الخاصة بالموضوع، وكأن وحدة العالم في وجه الجائحة حقيقة، علماً أن الكثير من الوقائع والأمثلة التي نشاهدها ونقرأ عنها كل يوم تقول إن توحد العالم في وجه كورونا كذبة كبرى وأن الفيروس كشف أكثر من أي وقت مضى أنانية هذا العالم وتشتته وفردانيته وجشعه وإجرامه ولا إنسانيته. دعونا نقلب صفحات الألبوم، إذاً، لنشاهد بعض الصور عن “توحد العالم” في وجه كورونا، ثم لنضع المشهد أمام حقيقة “القرية الصغيرة”: 
ـ بدلاً من التعاون وتبادل المعلومات للقضاء على الفيروس راحت أمريكا والصين تتبادلان التهم بصناعة الفيروس ونشره ضد الآخر. أما الصين فقد أخفت انتشار الفيروس وخطورته والمعلومات المتعلقة به عن العالم، بينما كانت هي في الداخل تواجهه وتتحضر له. 
ـ إيطاليا ظلت تئن تحت ضربات كورونا وتصرخ لأسابيع دون أن تجد عوناً من أحد إلا بعد أن تجاوز عدد إصاباتها المائة ألف. حتى جيرانها في الاتحاد الأوربي اكتفت بغلق حدودها مع شريكتها المكلومة، وكأن الأمر لا يعنيها البتة أو كأن هذا الاتحاد بلا معنى. وهذا ما دفع سفير رئيس الوزراء النمساوي للقول إن “مبدأ التضامن والتكاتف لا يعمل في أوروبا في ظل هذا الوضع الخطير”. 
ـ أمريكا لم تتحرك باتجاه مساعدة إيطاليا إلا بعد شعورها بالإهانة والقصور جراء تقديم كل من روسيا والصين لبعض المساعدات. في كلتا الحالتين، كان التحرك نحو البلد المصاب بدافع سياسي لا إنساني اجتماعي تضامني. 
ـ الحكومة الألمانية اتهمت أمريكا قبل أسابيع بارتكاب “قرصنة حديثة” حينما حاولت تحويل مسار شحنة كمامات (خاصة بألمانيا) تحتوي على 200 ألف قطعة إلى واشنطن. وهو ما فعلته تركيا أيضاً عندما احتجزت شحنة أجهزة طبية كانت إسبانيا قد دفعت ثمن تصنيعها لشركة تركية سابقاً، فاستولت عليها تركيا لفترة قبل أن تتراجع وتفرج عنها لاحقاً. المثالان يوضحنا “توحد العالم” في وجه كورونا!!!.
ـ أردوغان داخل حدود بلاده يحاول حماية شعبه من كورونا. أما خلف الحدود، فبدلاً من تقديم المساعدة لجيرانه راح حيناً يقطع المياه عن نصف مليون شخص، وحيناً راح يعاون كورونا في زرع الرعب في قلوب الناس بقصف مناطقهم هنا وهناك. فهل وحد كورونا العالم أم كشف قذارته؟.
ـ اليونيسيف حذرت تركيا من قطع المياه عن المدنيين وقالت: “إن انقطاع المياه خلال الجهود الحالية للحد من انتشار مرض فيروس كورونا يعرض الأطفال والأسر لخطر غير مقبول. (…) استخدام مرافق المياه والمياه لتحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية أمر غير مقبول؛ فالأطفال هم أول من يعاني من هذا الأمر”.
ـ قال أنطونيو غوتيريش في 23 مارس آذار: “حان الوقت لوقف النزاعات المسلحة والتركيز على المعركة الحقيقية في حياتنا… إن هذا ما تحتاج إليه أسرتنا البشرية، الآن أكثر من أي وقت مضى”. ثم قال: “يجب على البشرية جمعاء العمل من أجل القضاء على كوفيد 19. إن الجهود التي تبذلها البلدان في شكل منفرد من أجل التصدي له لن تكون كافية”. 
ـ منظمة آفاز الدولية من جهتها أطلقت مبادرة تدعو فيها كل الأطراف المتحاربة إلى وقف الحروب والتفرغ لمواجهة كورونا. هذه الدعوة وسابقاتها دليل على أن الفيروس لم يوحد العالم وأن بعضهم حتى في مثل هذه الظروف المهلكة يحتاج إلى نداءات ورجاءات وضغوط وكسر أنف كي يوقف حروبه القذرة وجشعه الذي لا ينتهي. فأين ومتى توحد العالم؟!.
    هذه المشاهد وغيرها تظهر أن كورونا لم يوحد العالم. ما حدث هو أن كل دولة انشغلت بمحاربة كوروناها الداخلية وكذلك فعل كل فرد. ولأن العدو واحد وبمسمى واحد (كورونا) ومنتشر في كل أرجاء العالم، ولأن العالم كله منشغل به يظن المراقب للوهلة الأولى أن العالم قد توحد فعلاً في وجه الفيروس الجائح. لكن الواقع يقول إن الفيروس قد كشف تشتت العالم وانعزال جزره ودوله وأفراده، على الرغم من (أو بسبب) وجود كورونا في “قرية  صغيرة” فقط.
    “العالم بات قرية صغيرة”، هذه العبارة/ الفكرة التي روجوا لها وضحكوا بها على عقولنا خلال العقود الماضية تَبينَ أخيراً أنها كذبة كبرى وأنهم اختلقوا هذه “القرية الصغيرة” كي يدخلوا من خلالها إلى عوالمنا وإلى بيوتنا ليعرفوا ماذا نقول وبم نفكر وماذا نشاهد وما هي ميولنا ورغباتنا، لا لكي يقوموا بتلبيتها لاحقاً، بل ليقوموا بتوظيفها في تجارتهم وأرباحهم ورسم سياساتهم وحروبهم وإنتاج صناعاتهم أيضاً. خلقوا “القرية الصغيرة” كي يعرفوا من خلال تطبيق على هاتفك ـ مثلاً ـ ماذا تشاهد وبماذا تفكر وأين تسكن وما هي الأماكن التي تتنقل فيها، علماً أنك بعيد عنهم ربما مئات الأميال. 
    في المقابل كشف كورونا أن في هذه “القرية الصغيرة” يعرف الجار (أي الدولة) كل أسرار جاره وخصوصياته ومشاكله الداخلية، ولكنه لا يتدخل لمساندته أو إنقاذه حتى لو رأى البيت يحترق أو أفراد العائلة الجارة يتذابحون. وإذا أصاب مرض أحد أضاء “القرية الصغيرة” اكتفى الجيران بغلق أبوابهم كي لا يتسرب المرض إليهم. أما إذا حل بالقرية فقر وعوز فإن بعضهم يلجأ إلى سرقة جاره والاستيلاء على محصوله ومؤونته كي يعيش هو على حساب موت الجار. تلك هي “القرية الصغيرة” التي جعلونا نتغنى بها منذ عقود فرحين بما لدينا وبما يقال لنا عنها ومخدوعين باللعبة إلى آخرنا.
    الكل أغلق حدوده في وجه الكل كي يعالج أمره بنفسه منعزلاً حتى عن جاره الذي يشاركه حدوداً طويلة. وحتى الحدود الوهمية في أوربا صارت حقيقة. فجأة عاد كلٌ إلى داخل حدوده وأغلق بابه على نفسه وعياله. تماماً كما فعلت الأسرة في البيت ومع الجيران. واختفى مفهوم “القرية الصغيرة” والشعب الواحد والمصير الواحد والعالم الواحد المتكامل، الذي لم يكن يوماً على المحك ولم يظهر على حقيقته كما هو اليوم. 
    معطيات “القرية الصغيرة” مكنت الفيروس من الانتشار فيها بسرعة هائلة، ولكنها لم تستطع أن تكون الوسيلة للقضاء عليه أو للتخفيف من آثاره. “القرية الصغيرة” لم تستطع أن تشكل عالماً موحداً لفعل الخير والتضامن في وجه الشر. كل ما فعلته هو أنها جعلت الأزمات تنتشر بسرعة أكبر وعلى نطاق جغرافي أوسع وجعلت أخبارها في متناول الجميع وزرعت الخوف في قلوب الجميع وإن كانوا على بعد آلاف الأميال من مصدر الكارثة والخوف؛ ففي “القرية الصغيرة” لم تعد هناك مسافات إلا وقت الحاجة، إذ لا يجد صاحبها من حوله أحداً.
    لو أن دول العالم وشعوبه وضعت خلافاتها ومصالحها وحروبها جانباً واجتمعت إلى طاولة واحدة لتوحيد الجهود والخبرات وتبادل المعلومات وبحْث سبل التصدي للفيروس الفتاك، كنا سنقول بصوت عال إن كورونا قد وحد العالم. فهل حصل شيء من هذا أم أن بعضهم استغل انشغال العالم بالفيروس كي يحقق أهدافه التي عجز عنها في زمن ما قبل كورونا؟. ألا يخوضون سباقاً محموماً لأخذ قصب السبق في اكتشاف الدواء بدلاً من التعاون وتبادل الخبرات؟. هل أرسلت الدول الغنية معونات وأطباء وأجهزة إلى مناطق فقيرة من أجل تمكينها من مواجهة الفيروس؟ كل هذا لم يحصل. فأين وكيف ومتى وحد كورونا العالم؟. 
    كورونا باعد بين الأحبة الأفراد وفصل بين الجماعات وقطع بين الدول. أما الذين قالوا رغم جرائمه “شكراً كورونا” (لأنه وحد العالم من وجهة نظرهم) فيبدو أنهم لا يرون المسألة إلا من زاوية واحدة.. وميتة. كورونا لم يستطع أن يوحد العالم، وإنما فقط ساوى بين الناس. وهذا ديدن كل الفيروسات والأوبئة وليس ماركة كورونية خاصة. بجملة واحدة: العالم تساوى في المصيبة ولكنه لم يتوحد ضد المصيبة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…