بين البساطة والارتزاق

د. ولات ح محمد
    كثيراً ما ترى أحدهم يطلق صفات مثل السذاجة والبساطة والسطحية على شخص ما بغية إظهار نفسه بأنه ذكي ومثقف وألمعي وعميق الإدراك وبعيد النظر مقابل ذلك الشخص الذي يصفه بالبسيط والساذج ظناً منه أنه كلما حط من قيمة الآخر فإنه يرفع من شأن نفسه.  ولكن مطلق هذه الصفة قد لا يتوقف أحياناً عند فرد، بل يتجاوزه إلى جماعة فيصف مثلاً أسرة أو عائلة كاملة بأنها ساذجة وبسيطة، بل قد يطلق تلك الصفة على كل المنتمين إلى شريحة اجتماعية ما. وقد يصل الأمر بهذا “الذكي” إلى أكثر من ذلك ليصف شعباً بأكمله بأنه ساذج وبسيط. 
    وسواء أكان الموصوف المقصود فرداً أم جماعة فإن هذا “الذكي المثقف العميق” يطلق هذه الصفة إما بطريقة مباشرة وصريحة فيكون المقصود معروفاً ومحدداً، وإما بطريقة غير مباشرة فيفعل ذلك عن طريق الإشارة والتلميح أو التعميم والإطلاق. وبغض النظر عن اختياره أي من الأسلوبين، فإن الغرض من مثل هذه الممارسة هو إهانة الطرف المعني (فرداً أو مجموعة) وتحقيره والتقليل من شأنه. أما الهدف النهائي لفعله هذا فقد يكون أكبر من ذلك بكثير. وأما الدافع لمثل هذا السلوك فإنه مختلف من شخص لآخر تبعاً لهدفه ومبتغاه ودرجة وعيه وحالته النفسية أيضاً.
    من بدهيات الأمور أن كل واحد من شعوب الأرض يعمل ويتعامل مع قضاياه حسب الإمكانات المتاحة لديه، وأن كل فرد يعمل كذلك حسب إمكاناته وقدراته ويعبر عن رأيه في تلك القضايا حسب رؤيته وفهمه للأمور وبالطريقة التي يراها هو مناسبة. هذا يحدث بشكل طبيعي في كل زمان ومكان لأن الناس يتفاوتون في القدرة على رؤية الأشياء، ولا يمكن لأحد أن يدعي أن ما يراه هو الصواب وأن ما عدا ذلك خطأ مبين. وليس لأحد أن يعطي نفسه الحق في وصف الناس بالبسطاء والأغبياء والسطحيين بسبب اختلافه معهم في الرأي أو الأسلوب أو الهدف. وعليه يمكن للمرء أن يتساءل: إذا كانت هذه بدهيات لا يختلف عليها اثنان فبأي وجه يعطي بعضهم لأنفسهم الحق في إطلاق مثل تلك الصفات (المهينة) على الآخرين لمجرد اختلاف آرائهم عن رأيه حول قضية ما أو اختلاف أساليبهم عن أسلوبه في التعبير عن تلك القضية أو لاختلافهم معه في الأهداف المرجوة؟. 
    الحقيقة أن ممارسة مثل هذا الفعل تنم عن المرض الذي يعاني منه صاحبه، لأن انتهاج مثل هذا السلوك يدل على أحد أمرين أو على كليهما معاً: فإما أن مطلق هذه الصفة على الناس كائن ساذج وبسيط لدرجة أنه يرى فقط نفسه ذكياً ومثقفاً وعميقاً ويرى الآخرين أو شريحة كبيرة منهم بسطاء وسذجاً (وهذا مرض)، وإما أنه يعلم أن الأمر ليس كذلك ولكن الوظيفة التي يؤديها تحتم عليه إطلاق هذه الصفة على فرد أو جماعة أو شريحة أو شعب خدمة لجهة معينة (والارتزاق أيضاً مرض). وفي النتيجة نكون أمام شخصية مريضة يدعي صاحبها أنه يعرف المخفي من العالم، ولكنه في الواقع يجهل حتى الظاهر من مرضه.
    عموماً، إذا كان الأمر كذلك فإن (الفرد/ الشعب) الشريف البسيط الساذج السطحي السليم يبقى خيراً لنفسه وللعالم من العميل المرتزق الذكي المثقف العميق المريض… هل أنا على خطأ؟. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…