ثنائية الكراهية و التسامح الواقع ومقاربات تدقيق المصطلح

 إبراهيم اليوسف*
 
 توطئة في مقام المغامرة
لا تحتمل الوقفة – هنا- ونحن أبناء مكان اشتعل فيه أوار ثقافة الكراهية إلى أقصى درجاته، وأمدائه، و أتى على مفردات مكاننا، بل وكائننا، على مدار العقد الزمني الذي نعيش أواخره، ليكون هذا المكان مسرح أشلاء. أنقاض. محرقة. حاضنة مجزرة مفتوحة. مقبرة مفتوحة. بحر دم جار، الذهاب بعيداً، في الحديث عن تعريفات ثقافة الكراهية، مقابل نقيضتها ثقافة التسامح، ومن ثم الغوص في دواعي نشأتها: أهي فطرية؟ أم هي مكتسبة، لأنه ليس أسهل من الإمساك برأس خيط كل طرف من هذه الثنائية- على حدة- ونحن نستعرض ذاكرتنا. تاريخنا. واقعنا. قراءاتنا، وهو ما يحتاج إلى دراسات معمقة، تتناول عنوانات كثيرة، لتتبع مظان هذه الثنائية، ورسوخها لدى الإنسان، لاسيما في ظل معرفتنا أن النبي زرادشت””551-628″* ق.م، قد شخَّص في أسفاره أرومة هذا الصراع بين نقيضين هما: الخير/ أهورا مزدا والشر/ أهرمان، وهما امتداد لطبيعة كونية: الليل والنهار وغيرهما من المتضادات، لنكون أمام سلسلة متناقضات يتم التنظير لها-عادة- انطلاقاُ من طبيعة الآدمي، ومن محيطه، ومن طبيعة الكون!
لا يمكن النظرإلى الإنسان باعتباره مصدر أحد طرفي ثنائية: الكراهية التسامح، أو كليهما معاً، بل لا بد من ترتيب أدوات الثنائية، كما هو مفترض: التسامح – الكراهية، في ممارساته اليومية، لأن هذه الكراهية ليست صفة سلوكية راسخة، عامة، لدى الإنسان، وإن كانت الأسطورة تمضي إلى أول جريمة في التاريخ: قتل الأخ لأخيه. قتل قابيل لهابيل، وهوما تم نتيجة ردة فعل تالية، على خلاف غريزة الألفة بين أبوي الأسرة الأولى، وأطفالهما، أو ضمن نطاق علاقات هذه الأسرة، وما تفرزه غريزة البقاء، من ثقافة التعاضد بين أفرادها، ليكون التسامح بمعانيه السامية- ولو في نطاقة الفطري- من عداد هذه المعاني، في النطاق الحياتي الممارس، إذ إن التسامح – بهذا المعنى- متأصل لدى الآدمي، بينما الكراهية مكتسبة، وليدة الانفعال و”الثقافة” المشوهة، المتلقاة، ليظل التسامح عبارة عن فعل متواصل. سمة، بينما تبقى الكراهية مجرد انفعال!
إن هذه المقدمة، تزعم، بل تؤكد فطرية ثقافة الحب، إذ إن التقاء إنسان بآخر في صحراء ما، كما سواه من الكائنات حين تلتقي بأشباهها، لا يمكن إلا أن تكون مدعاة بهجة، وسعادة، لدى هذا الإنسان أو ذاك، في ضمن إطار الطبيعة المعتادة، وقبل أن تبدر شرارة- الشرِّ- كنتاج ردة فعل هي- في الأصل- نتيجة ثقافة- والتربية ذاتها جزء من الثقافة – بل هي الأس الأول، والدعامة الأولى، والعماد الفقري في أية ثقافة، حتى وإن حصلت حالات افتراق تالية، أحياناً، عن محور تأثيرات هذه الثقافة الأولى!
ثمة مستويان اثنان يمكن الإشارة إليهما، ونحن بصدد تشخيص خطاب الكراهية، أولهما عفوي ذو نتاج تراكمي مكتسب أو حتى ربما جيني موروث ضمن ظروف خاصة، وما هو مفتعل، منهجي، يتم فرضه ونشره – عادة- بأدوات نخبوية، وفق تراتبيات الثقافة الاجتماعية، ووسائل إعلامها المرتبطة بالآلة السياسية التي تحركها، وقد يكون منشأ هذه الأخيرة قضية عادلة أو غيرعادلة، لا فرق، إذ قد تسلك القضية العادلة مسلك ماهو غيرعادل، أو قد يتدرأ هذا الأخير بلبوس ما هو عادل، ما يدعو إلى بعض الالتباسات التي لا فرق في نتائجها، من جهة فعل الكراهية، وأدواته التي تتوزع بين ماهومعنوي وما هو مادي!
في تدقيق المصطلح
هل إن مصطلحي ثنائية ” الكراهية- التسامح” دقيقان، حقاً؟ هل إن سمة الكراهية كافية لترتقي كي تكون معادلاً لفعل القتل أو الدمار ورسم مخططات احتلال بيت ووطن الآخر، وانتهاك كرامته، و سرقته، وتعذيبه؟. وهل إن مصطلح- التسامح- وفعله الثلاثي سمح. وروح أو سياسة سمحاء إلخ كافية للإحاطة بهذا الفعل العظيم باني الحياة بعكس نقيضه الهادم المدمِّرالقاتل؟ لا ضير، لأعدْ إلى المصطلح الأول: الكراهية وجذره الثلاثي، أو فعله كره الذي يشمل مجالات كثيرة، إذ هناك كراهيات متعددة: كراهية الآخر. كراهية الآخرين. كراهية الذات. كراهية المحيط زملاء المدرسة. العمل. المهنة. القربى. الحض على الكراهية. كراهية الثقافة. كراهية الإعلام. كراهية الإيديولوجيا. كراهية الدين والمعتقد. كراهية الجماعة. كراهية الرّباط الاجتماعي ومنها: الأسرة- العائلة- القبيلة- العشيرة- المدينة- البلد- الوطن- كراهية الدين إلخ……
في المقابل، نجد مصطلح التسامح، بجذره الثلاثي الذي أشرنا إليه، حيث إن كلمة- سَمْح- تدل على النقيض للكراهية، بيد إنه- وهو رأي ربما جدّ شخصي- لا يتسع للمدلول، بمعنى أن الدال يقصرعن المدلول، إذ إن مصلح- الحب- أحد وجهي أو وجوه العاطفة، بالرغم من رومانسيته، وشاعريته، ولربما كان أوسع، ليشمل التسامح، في ما إذا كان هذا الحب ذا أسس راسخة، مختلفاً عن النزوة، أو بعدها الشهوي العابر
لست، في موقع تقديم مصطلحين بديلين، في هذا المقام، عن المصطلحين اللذين تناولتهما، إلا إن ما أفعله هو محاولة مقاربة من كنه كل مصطلح منهما على حدة، وفق تصورات أولى من لدني، لأن هناك مترادفات عديدة، لغوياً: الغل- الحقد- الضغينة- الكره، ولعل الكراهية أعمق من الكره- العابر- إلا إن أرومة الكراهية: كره، وفق هذه القراءة تعدُّ أقل درجة، من الغلِّ، والحقد، والضغينة، فقد أكره أمراً ما ولا أعاديه، بينما الحقد- الغلّ- الضغينة مكونات قنبلة هالكة، ولعل ما يجري حولنا من حروب، ترتكز على أسس، وأسباب، ودواع، أعمق بكثير من مصطلح الكره!
  محطات عابرة
يتناول بعضنا، وهو بصدد استقراء حدّي ثنائية: الكراهية التسامح، في ضوء راهنية دلالاتهما، بعض معطيات هذا الجانب أو الآخر، منطلقاً من تطبيقاتهما العملية في واقع محدد، أو على ضوء معطيات تاريخية تتعلق بمراحل التطورالبشري، بأحقابه التي تمت دراستها، لنكون- وإن تباينت رؤانا- أمام ارتكاز على تفاصيل عابرة، وإن كان العبور هنا حقبة ما، إذ إنه علينا ألا نتجاهل جوهر طبيعة العقل البشري، في حدوده العفوية الأولى، وإن يمكننا أن نضيف إلى فضاءاته المنجز الذي حققه هذا العقل في مسيرته الزمنية، وتأسيساً على هذا فإن محطات عصبية من قبيل: الذاتانية- العائلة- الدين- المكانية” القرية- المدينة- الجبل- السهل- الساحلية- أو الوطن- القومية- العرق- الأيديولوجيا- السياسة..، ولربما غير ذلك كان لكل منها تأثيرها في إضرام الأحقاد، أو إذكاء روح التسامح البيني- لافرق- إذا كنا نؤمن بأن الحب والكراهية قطبا العاطفة، إلا هذه المحطات المشار إليها لا تظل شاملة، كلية، لأن هناك عنصراً آخر- وفق منظورنا- يعد المحرك لكل عاطفة، في وجهيها السلبي أو الإيجابي، ألا وهو المصلحة، فإن الملك قتشاسب/ كتشاسب تقبل أو نفر من أفكار النبي زردشت بحسب مصلحته، كما إن الكهان حاربوا زرداشت انطلاقاً من منفعيتهم، وخوفهم من إجهازه على أدوات منفعيتهم الوثنية، وهوما تكرر مع كل نبي. كل في زمنه، بحسب المرويات، والمدونات، حتى في زمن النبي محمد- ص- ويمكن تعميم مثل هذا على كل مجتمع، وكل ثقافة، وفي كل مكان، وزمان.
لم نشأ، هنا، أن نتوسع، في تناول كل محطة على حدة: عصور التطور البشري- ومرحلة إطلاق الإنسان الأول أسئلته في الوجود، والسياسي الأول أسئلته في صناعة هذا الرابط بين أفراد مجتمعه، إذ في أسئلة الأول منهما الشعور بالطمأنينة الوجودية، وإن كانت ستؤدي به عبر التفكير الغيبي، إلى- صناعة الله- صناعة فكرة الله” وأنا ممن يؤمنون بوجود خالق للكون” لتكون في ذلك نفعيته في عالم ما بعد الموت، بعد أن شهد أول ميتة في التاريخ أمام عينيه، وتتالت المحاولات في عصورالأنبياء، ولما تتوقف حتى الآن، وإن كان مجتهد مرحلة- ما بعد اختتام النبوات- يغامر بحياته، في سبيل مايراه: مكمن لذته. منفعته!
لعل بعضنا يرى أن كاتب التقارير. الجلاد. السجان. بل قوافل الناس التي استبعثت في سوريا بعد العام1963 ولاسيما بعد وصول الأسد إلى سدة الحكم 1970، وتقطعنت وفق بارومتر مصلحتها- مكرهة بدافع الحاجة وبوصلة المنفعة- إنما فعلت ذلك نتيجة إكراه النظام لهم على ذلك، بعد أن أعدم كل الخيارات، ليكون هناك خيار الولاء وحده. هنا، جزء من الحقيقة. العنف. الرعب. استمالة الناس. شراء الذمم. التغييب القسري كل ذلك عبارة عن أدوات صهرت كثيرين في جبهة النظام، ولما تزل مستمرة، إلا إن فضاء المنفعية هو الذي حول هؤلاء إلى- قطيع- مذعن، يؤتمر بما يقال له، إلى الدرجة التي تم اختراق الأسرة الواحدة، البيت الواحد، بل حتى المخدع الزوجي، والشخص الواحد. أجل الفرد الواحد، إلى حد التمزق، والفصام، تحت وطأة المنفعية التي عززها الاستبداد.
الجنس أداة منفعية
إن مدى تأثير الجنس في تكريس ثقافة الحب لا بدَّ من أن يتم إيلاؤه الأهمية في مباحث عديدة، سواء أكان على الصعيد الفردي أو المجتمعي الواسع، فلقد كانت منفعية- الجنس وسيلة للتقارب الاجتماعي، عبرالتاريخ، على صعيد الأسرة، المجتمع، الممالك، والإمارات، و الإمبراطوريات، فلقد كان زواج الوزير جاماسبا – رئيس الوزراء- من بوروكستا ابنة زرادشت سبباً في تعزيز مكانة وفكر وديانة أبيها، بل تزوج هو نفسه هفوفي ابنة ابنة الوزير فراشا اوشترا، كما إنه تم توظيف الجنس- أوالمصاهرة كعامل لإيقاف الحروب، وإقامة العلاقات الودية، بل إرساء السلام، صياغة المعاهدات التاريخية، وامتصاص، وتبديد، ثقافة الكراهية. الحقد. الضغينة، وهي في ترجمتها الدموية، الحربية، أو تعزيز المكانة كما زواج كلو هيبا ابنة الملك الميتاني شوتارنا الثاني من فرعون مصر امنحوتب الثالث قد عزز التحالف والعلاقات بين العائلة الملكية الميتانية والفرعونية. ولعلنا في هذا المقام أمام سطوة الجنس، التي لا ينظر- وفق رأينا- إليها إلا ضمن إطار المنفعية، أي اعتبار الجنس شكلاً منفعياً، ليتم تسليع المرأة. الجنس، وإكراهها لأداء دور في توطيد السلام، ونشرالمحبة.
وغيربعيد عن صلب الفكرة، في بعدها المنفعي، فإن الجنس/المرأة/ غدا من عوامل اجتذاب الراديكاليين من إرهابيي” داعش وأشباههم” إلى مسرح الحرب، وتمَّ الإتجار بالمرأة، كأمّة، ناهيك عمن تمَّ جذبهم، وغسل أدمغتهم، ليروا أن انضمامهم إلى جبهة هؤلاء الإرهابيين، يمنحهم جواز سفر إلى فردوس الحوريات!

عرضية الاستبداد
قد يكون هذا العنوان الفرعي” عرضية الاستبداد” مدعاة دهشة، أو عدم تقبل من قبل بعضنا- وهم على حق- إذ إن الاستبداد استطاع أن يصهرالمجتمع في البوتقة التي يريد، وهوما دعا صانع أكذوبة المشهد يصدق صنيعه، ويسعى عبرأجهزته راصدة أنفاس الناس لتكريسه، وهو ذاته ما جعل الدكتاتور حافظ الأسد- وبعد تاريخه الدموي- إثر حكمه البلد بالنار والحديد أن يقدم على تأسيس ثقافة- الاستخلاف- لتكون سوريا مزرعة شخصية له ولأسرته، بل والآلم من ذلك إن وريثه الطاغية بشار الأسد لم يرث الحكم وحده عن أبيه، ولا سوريا وحدها عنه، ولاشعبها كله، بل راح يتوهم أنه هو الآخر قادرعلى السيرعلى خطى أبيه لتوريث البلاد لابنه الرضيع، ليورثه هذا لحفيده، وهو تحديداً وراء صدمته بالثورة عليه، وهو الذي أنكر لوسائل الإعلام- عشيتها- اندلاعها في سوريا” لأن سوريا غير تونس وليبيا واليمن ومصر”، معتمداً بذلك على قوة المنفعة المحصنة بالنار، لدى مواليه، ولدى داعميه الدوليين الذين حقق هو وأبوه مصالحهم في سوريا، وباتت تمضي إلى حفافي الانهيار العظيم؟!
كذلك، فإن أدوار المعبد، أو رجل الدين، كما دور رب العائلة- القبيلة/ العشيرة- التجمع- الحزب- الفريق الرياضي- كبيرة في مجال نشر ثقافة الكراهية أو نشر نقيضتها ثقافة: الحب/ التسامح، إلا إن كل هذه الأدوار تنطلق من عمل ىخر منفعي وراءها: قد يكون دنيوياً أو غيبياً” شأن من يفخخ ذاته كي يفوز بحوريات الجنة”، وإن كان هنا ثمة عامل-شبقي- جنسي .
ثقافات خائبة
إن استشعار العجز، أمام هيمنة ثقافة الكراهية- بمعناها المتداول- كأفق غير ممكن الاختراق، وكواقع مفروض، يدعو إلى عطالة الفعل البشري. لقد حاول حزب البعث الذي وصل في سوريا- ضمن إطار هيمنة الأيديولوجيا العنصرية القومجية- التي فككت المجتمع السوري” وهل كان هناك مجتمع سوري حقاً؟ أم تم فرضه على مراحل منذ سايكس بيكو وإلى زمن البعث والمعارضة، على حد سواء؟”، ما قزم إرادة ابن المكان لأن في ذلك ذريعة لارتكاب كل الموبقات. أجل، النظام أسس لحالة التجويع، والفرقة، واستعداء الملل والشعوب في سوريا على بعضها بعضاً، إلا إن ما تم من كتابة أحد الجيران، أو أحد الطلاب في المدرسة، أو الموظفين في المؤسسة، أو الفلاحين في الجمعية التعاونية ضد آخر سواه، نتيجة أفق تحديده، في ظل ارتكانه إلى منفعيته ولو كانت على حساب الآخر. إن المعارضة التي جاءت بعد خمسين سنة من اضطهاد المواطن السوري ولم تخرج في ممارساتها. سياساتها، عن دائرة ثقافة الكراهية: الكراهية في مواجهة من ليس معها، والكراهية تجاه الذات. ذات المعارضة، وما الإقصاءات، وعمليات الفساد، وجرائم اختراق صف-الثورة- والمؤازرة في خطف أحد، أو إعدام آخر، إلا نتاج مصلحة.
الكرد في سوريا، جميعهم، عامتهم، ما خلا استثناءات طفيفة كانوا مضطهدين، من قبل النظام العنصري في سوريا، وعندما بدأت الثورة السورية2011، وسقط جدارالخوف، فقد كان على الكرد أن يقفوا في صف واحد، إلا إن ما حدث، أن هناك من خرج على الصف، وإن كانوا قلة جد قليلة، وبحكم الارتهان لمنفعية ما، وسعوا دائرتهم، عبر اعتماد البطش، ليقدموا أنفسهم على أنهم الكرد كلهم، ولا كردي خارج دائرتهم، إلا وهو خائن، ليحدث العكس في الطرف الآخر، المغلوب على أمره. إن الثقافة التي زرعها نظام عمره نصف قرن، لا يمكن إلا وأن يكون لها إلا أثرها الجزئي- المدمر- على الناس، لاسيما عندما ننظر إلى هؤلاء الذين لم يسقطوا في مصيدة هذا النظام، مضحين بالكثير، في مواجهة الحيف والعنت اللذين عانيا منه، ومن أبسط أدواتهما: التمييز بحقهم، على صعيد الحياة والعمل واعتبارهم خونة، نتيجة توظيف ثقافة الكراهية ضدهم ذات البعد المنفعي من قبل السلطوي، وعيونه، وعسسه. ولعل عودة بعض من ينتمي إلى مثل هذا الأنموذج- بعد الثورة- وباسم واجهات المعارضة، أو فصائلها المقاتلة لاستعادة ماقام به النظام بحقه. حق أهله- كفصائل مرتزقة تابعة لتركيا عاثت قتلاً وفساداً ودماراً- فإن ذلك كان بدافع المنفعية، المحض، وغن كان النظام التركي سيجوع بعضهم، لإعادة تبعيثه- وفق أنموذجه- غي مواجهة أخيه السوري.
خطاب الكراهية
لاصعوبة البتة، في تتبع آثار أذيات وملامح خطاب الكراهية على حياة السوريين، على امتداد عقود من حكم الطغاة المتعاقبين على سدة الحكم، لاسيما في زمن دكتاتوريات البعث، لأن هذا الخطاب تراوح بين ماهو معنوي عنفي وما هو فعلي. حيث إن خطابات الإعلام السوري- وهكذا مناهج التربية والتعليم والمؤسسة السياسية- وحتى المعبد ظلت تابعة .ديدنها الزيف، والأذى، والتضليل، والتزوير، معتبرة كل خروج عما هو مرسوم- خيانة- تواطؤاً، لاسيما في ظل وجود عدو مفترض محتل، لعبت إزاءه دورين متناقضين: المواجهة النظرية والاستماتة لحمايته، كمسوغ لديمومة النظام، وهو ما يستمر حتى الآن.
لقد تسربت مفردات هذا الخطاب إلى الحياة الثقافية للسوريين، إذ بات ينظر السوري إلى الآخر بعين الريبة، والشك، والمؤامرة، ولذلك فإن موقعي التقديس والتدنيس ليس بينهما، في عرف هذا الخطاب إلا منفعية النظام، فمن مالأه نجا، ومن ناوأه خون، وأول أثمان ذلك حياته. مستقبل أطفاله.بيته. محيطه، ولذلك، فإن جهوداً جد كبيرة تحتاجها أية إنتلجنسيا، متطهرة، لم تكتر من قبل أقطاب قتل السوريين، للشروع بتنقية منابع ثقافة هذا الكائن من الآثار البائسة لخطاب العنف الممارس بحقه. خطاب التخوين. خطاب التحريض على الآخر. خطاب سلب حرية الآخر. خطاب حماية النظام ورأسه من أي نقد، وهدر دماء كل من يخترق هذه الحدود المرسومة.
إن من شأن إسقاط ثقافة طواطم العبودية، واسترقاق المواطن، وثقافة التزوير، في ظل حياة ديمقراطية حقيقية لا تخضع لسطوة وارث قوى القتلة من النظام والمعارضة، أن يؤسس فضاءات ثقافة تسامح حقيقية، ليس “قفزاً” فوق مرحلة معرفة وإحصاء أسماء من كانوا أدوات قتل ودمار، وذلك انطلاقاً من تكريس مصلحة ابن هذا المكان، ومن معه من مكونات لها خصوصياتها التي يجب أن يحدد أصحابها مصيرهم، وفق عقد مسؤول،لا يمكن أن تتم صياغته إلا من قبل عقل منزَّه فوق درون و شوائب خطاب الكراهية البائس الذي كان وراء إقصاء هذا الشريك- على نحو خاص- والتنكر لحضوره الديمغرافي/ الجغرافي التاريخي في وطنه.
 صناعة التسامح
بعد تسع سنوات من الحرب على السوريين. الحرب التي بدأها النظام معتمداً على ثقافة الكراهية بين السوريين، من أجل الاستئثار أوالحفاظ بمجرد كرسي عرش هزيل لمن نُصب رئيساً، مصادفة، كما أبوه، على البلاد، وبعد أن تداخلت المواقع وبات من يشكو المظلومية، في موقع المستبد القاتل، بعد انقلابات واصطفافات جديدة في المواقع، بما جعل استقراء ثنائية: التسامح الكراهية جدَّ صعبة، إلا بالعودة لمعرفة دواعي تذبذبات وانزياحات هذين البعدين المتضادين، المتنافرين، ضمن جسم مغناطيسي واحد، وبعد أن غدا قطب الكراهية مدمراً، هالكاً، مستبيحاً للدماء، هادراً للدماء. الأرواح. الكرامات، وبات من الصعب تشخيص مكامن التسامح في المشهد المكاني، في ظل وجود احتلالات عدة، ولكل منها تبعياتها، وتحت تأثير المحرك المنفعي لدى أطراف الصراع كلها، إذ بات كل طرف يستثمرالدين- مثلاً- ويهدم المعبد، ويكره القائم عليه لنصرته، بل غيرت المنفعة ملامح من قدم ذاته في مظهرالثائر- وهنا أشير إلى حالات بعض قادة المعارضة ومنتفعيها السياحيين لا الثائر الحقيقي الذي تمت تصفيته، وأسرته، أو تهجيره، أو إسكاته، إذ لا سبيل قط إلا عبرالعودة إلى المكاشفة الحقيقية، لمعرفة كنه ثقافة التسامح التي تمَّ تناولها في أطرها السطحية، من قبل الخطابات المهيمنة، وتمَّ لأجل ذلك استغلال ما قد بدا مقدساً في سبيل هيمنة المدنس، الذي لما يزل مهيمناً في المشهد لدى قطبي السطوة. الفعل. القوة: النظام، ومعارضته التي لاتختلف- الآن- وبعيداً عن رؤى صانعيها الحقيقيين، دافعي ضريبتها العظمى من رصيد وجودهم، وحيواتهم، وأسرهم، ما أدى إلى غياب أسر كاملة، وإلى الأبد:
ومن هنا، هلا احتكمنا بعد كل ماتم من دمار وخراب وقتل وتهجير لأجل مستقبل إنسان المكان، بما في ذلك من منفعيته، وهي أعظم منفعية: منفعية الوجود في مواجهة الزوال الذي نال وينال من أبناء المكان، في ضوء أرقام ضحاياه، من شهداء، وأسرى، ومهجرين، ومغيبين، بعد أن غدا مسرحاً لأبشع أنماط قتلة مابعد الوحشية:داعش والنصرة والراديكاليين وفصائل الارتزاق التي تحتل عفرين، على سبيل المثال!
إن التسامح ليس معجزة البتة، إذ بإمكان السوريين المغلوب على أمورهم، وليس كل من كانوا بيادق أو مخططين أو والغي دم وأمراء حرب في لوحة الصراع: معارضة- لاحقة- ونظاماً وأدوات وقود، العودة لإرساء دعامات مكانهم، على أسس التفاهم، بعيداً عما لحق بثقافتهم التي انمازوا بها، عبر عقود ماقبل البعث، لتكون سوريا للسوريين، ولإنصاف الكردي الذي يعيش فوق ترابه على امتداد قرون- كما تفرضه لائحة حقه التاريخي- بعيداً عن أية ثقافة مزورة تمت صناعتها في مختبرات معروفة، ولما تزل بعض المراكز التي ساهمت في صناعة الحرب- داعش وأشباهه- تشتغل على صناعة ثقافة الكراهية، في مراكز بائسة، آيلة للزوال، معروفة لدينا جميعاً، معتمدة على عقول مأجورة، مكتراة، لاتقل قماءة وقبحاً عن القتلة ذواتهم.
* شاعر كردي سوري يقيم في ألمانيا
* برادوست ميتاني- ديانة زردشت-

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…