إبراهيم محمود
هل يمكن الحديث عما سمّيته عنواناً بـ” على اجتماع الجبن ” ؟ هل من معيار قاعدي: فلسفي يثبت وجوده ودعوى تسميته هكذا؟ أي مبرّر يحفّز على الحديث عنه والتأكيد عليه ؟
في ظل التطور الهائل في حقول علم الاجتماع: السياسي، الأدبي، النفسي، الديني، الاقتصادي، والثقافي …الخ، بات من الممكن، وفي ضوء الظواهر الدالة على كل حقل هنا، الحديث عن التفرعات في الحقل الواحد نفسه، ومن ذلك ما أذهب إليه، وهو : علم اجتماع الجبن، والذي يمكن أن تجد له سهماً أو رصيداً في كل مجالاته/ حقوله المذكورة وغيرها، ومن ذلك ما صار عنواناً، وضمناً، ما يرتد إلى صفته ” الكردي “، والذي ربما لا ينظَر في أمره، ولا أكثر منه حضوراً، لحظة التجرد من العواطف المجيَّشة التي تحول نظر الكردي إلى الخارج، إلى الأعداء المرئيين وغير المرئيين، وما في ذلك من مكر أولي أمره، وجبنهم الفعلي واقعاً.
أقول منذ البداية، ومن باب التوضيح الذي ينير مَعْلَم هذا المقال، أنه ليس من مجتمع إلا وفيه مثل هذه الظاهرة: جبن يفسَّر على أنه مشروع، ويشدَّد عليه، لكنه محدود جداً في المجتمعات الأوربية، والتي يقف فيها المجتمع المدني في مواجهة المجتمع السياسي الخاص بالدولة، حيث يسهل الحديث عن مفهوم المجتمع بكل اعتباراته المؤسساتية، وسلطاته التي تصله بما يجري فيه من متغيرات ومشاكل قانونية وحقوقية، أي ما يصل بين الحق والواجب. بينما في المجتمعات التي تكون فيها الدولة رأس النظام السياسي، والنظام السياسي رأس المجتمع، بات من اليسير جداً الحديث عن الأغلبية على أنها القوى الغضبية والشهوية التي تتصرف بأمر منه، فهو يأمر ولا يؤمَر، وهو يسمي ولا يُسمى، أي إنه يملك حق الموت والحياة واقعاً تجاه أي كان، فلا يعود في الإمكان، ولا بأي شكل، الحديث عن المواطن، كشريك في بناء السلطات وتقويمها، يصبح من السهل جداً الحديث عن عدم وجود ” مجتمع ” بالاعتبارات السالفة: أي مجتمع يكون مضبَّعاً أو موجهاً من الأعلى؟ بحيث يكون- وفي الحالة هذه- أي حديث عن منظمات المجتمع المدني، شهادة عيان تصب لصالح النظام المعتبَر سياسياً، والمحتكر للسلطة، ودعاية له، وحتى على مستوى الحزب ، أي حزب، وتحت، أو في ظل هذا النظام، رغم تعرضه للمضايقات، صورة مصغَّرة لبنية النظام، بما أن ممثله، أو سكرتيره العام، وعلى صعيد تمثيل السلطة الرمزية، يشار إليه بالبنان، ويكون رأس الحزب جهة التعامل مع أعضائه ” رفاقه: التعبير الأكثر مأساوية “، وهذا ما يفسّر استمراريته، ليس لأنه جدير بالمنصب الذي يعرّف به، وهو من ناحية القيمة أو القوة عملياً ” خلَّبي “، وإنما يتولى جانباً من مهام ” جُبنية ” تصب لصالح النظام، حيث يضبّع رفاقه، أو أعضاء حزبه، وهو لا يسمَح لأي منهم الحديث في أي قضية، أو أصغر مشكل في المجتمع إلا بتوقيع من لدنه، وهذا ينطبق على من هم خارج النطاق الحزبي.
في مجتمع كهذا، يكون حضور الجبن طاغياً، وهو ما يسهّل فعل الطغيان السياسي، والفساد، والمحسوبيات، وأنواع المراوغات، والشطارة الممرَّرة من قبل أجهزة النظام.
إذ حين نجد أن الإعلامي بوق نظام، أو متحكَّم في صوته بنسبة تبقيه شبه معدوم الصوت، أو مشوَّش عليه، أو ضمن زاوية معينة، وليس باسم المجتمع تحديداً،في ظل التنافس الحزبي والذي وجد ضالته، في نشأته في المجتمعات التي عرِفت بالمدنية والدولة المؤسساتية. حين نجد أن المعتبَر فيه كاتباً، أو مرسوم مثقفاً، وهو ينظّر في أمور، أو قضايا، يتجنب فيها أي حديث، وبالاسم عما هو سياسي خاصة، أو اجتماعي، أو جنائي، وهو حر التوجه، وإن وجِد، فباعتماد تعابير عمومية، وعلى السطح، وليس في العمق، حيث تتم التعرية، أو تشريح الواقعة .
في وضع كهذا، ليس من إنسان، كإنسان، يمكن أن يشار إليه، على أنه يتمتع بخاصية كونه ” إنساناً “، انطلاقاً من تميّزه بشخصية لها قوامها النفسي، الاجتماعي، الخُلُقي، وقابلية للتعلم، وتوجيه النقد ساعة يشاء، وليس مجرد التشهير ” في المجتمعات الغربية، يكون التشهير محالاً على ما هو قانوني، قضائي، إذا جرى اتهام شخص، أو طرف ما، دون أدلة، فيكون التغريم، أو الحكْم الصادر في حق المتصرف، وعلى قدْر الاتهام ونوعيته. في مجتمعاتنا، يمكن للتشهير أن يأخذ مقاماً، أو توصيفاً مختلفاً، حيث يتعرض المتصرف لأشكال عقاب مختلفة، ومن داخل جماعته القبلية، الحزبية، الفئوية، أو المذهبية، لأنه محكوم بها، قبل الجهة السياسية في الدولة، على أنه يعمل لصالح ” جهة، طرف، أشخاص، هنا وهناك، فيتم تجنيسه، وتلبيسه بما يجرّده من كل اعتبار قيمي “، فالنقد يعني وجود مستمسكات، أدلة عيانية، مستندات قانونية تفيد المجتمع.
وفي ضوء ما تقدَّم، يُطرَح السؤال التالي: ما موقع ” الإنسان ” الكردي، وحصته من هذا الجبن؟
كيف يمكن النظر إليه، في موقع العمل، أو في علاقاته بنفسه وبالآخرين؟ ما هي أساليب تفكيره تجاه المشاكل الاجتماعية والسياسية من حوله، وفي الشأن الثقافي بجلاء أكثر؟
كما أشيرَ إلى شارة الجبن، علامته، رائحته، ملمسه، شكله ومحتواه كذلك، فإن الجبن يتركز على التهرب من الحقيقة، والاكتفاء بالقليل القليل منها، وبحسب موقع الشخص، أو الموقف الذي يكون فيه، وعلاقته بمحيطه، لا بل وطبيعته النفسية بالذات .
ما يؤكد وجود هذا الجبن وهو مستفحل، حيث يُرى، ويُسمَع، إن جاز التعبير، من خلال من يدير شئونه، ويتولى المهام التي تزيد في حضوره ترسيخاً، في جوانب اجتماعية شتى، هو في مقدار تزايد المشاكل، تنامي الوعود بحلها، ولا يحصل شيء من ذلك، ما نجده من تهريج، ومن طرح قضايا، وهي مبالَغ فيها، لحظة تناولها، وهي لا تمس صميم المجتمع ومن يدير شئونه.
في علم اجتماع الجبن هذا، ثمة شراكات، وثمة منافسات يسهل النظر فيها، بين أشخاص، وفي مختلف المراتب، وهي تفسَّر على أنها أنشطة اجتماعية، فعاليات مختلفة، أو حراك متعدد المهام هنا وهناك، وتحت الأضواء، ويجري بثه، ولكنه أبعد ما يكون عما يجري في المجتمع، وبالتالي، لن يسلَم أي كان من لوثة جبنية معينة، مهما كان له اعتبار اجتماعي، سياسي، ديني، أو ثقافي، حيث يكون لكل شخص رصيد جبني معين، مهما كان ضآلة .
لأتحدث عن نفسي، وليس من باب التفاخر أو العراضة، فأقول عن أنني رغم نشر عشرات الكتب، رغم أن نسبة معلومة منها محظورة، أو يمنع تداولها، وآلاف المقالات، والتي تسائل ما هو سياسي، وعلى أعلى مستوى، أو اجتماعي وخلافهما” يمكن التأكد من ذلك، لمن يهمه الأمر، إنما بالاسم، وليس مجرد إصدار أحكام عامة “، إلا أنني لا أبرّىء نفسي من هذا الجبن، لارتباطي بما هو عائلي، ولتقديري أن هناك حدوداً موضوعة، وما أكثر الحدود الداخلية المرسومة، أو الممكن التعرف عليها في مجتمعاتنا، وكردياً كنموذج، ينبغي علي ألا أسمّي كما ينبغي التسمية، وأحلّل كما هو مقتضى التحليل، كوني أقدّر شراسة الآخر، ومن يقوم بحراسته، أو بالمهام الأمنية التي تحّر من الاقتراب منه، وما هو فيه وعليه من فساد ومخادعة لمن حوله.
في السياق نفسه، ماذا نسمّي الموقف من أي نقد يوجَّه إلى هذا الطرف، الشخص، أو الجهة هذه أو تلك، من قبل أي كان، وهو في محله، ومن الكاتب تحديداً، على أنه تشهير، وموجَّه ؟
لأسمّي أمثلتي التي تعبّر عن هذا الفائض الجبني الكردي:
الذي يتمتع بقوى عقلية سليمة، ولكنه يسكت على الأخطاء التي تخص جماعته، أو غير جماعته طبعاً لوجود ما يُسمى بالمحسوبيات ” لو أننا طبّقنا مقولة: حكّ لي أحكّ لك، نجد أنفسنا إزاء هذه العلاقة الجبنية المعممة، أو التي تجمع إليها الأغلبية وأكثر.
العضو الحزبي الذي لا يجرؤ، أو مسموح له، في أن يوجه أي نقد إلى ” أمينه العام ” أو من له مرتبة أعلى منه، أو حتى رفيقه في الحزب، وهو في محله، لأن هناك تعليمات لها طابع من القدسية الواجب التقيد بها. وفي النطاق نفسه، يكون لهذا الأمين العام، أو سكرتير الحزب، تلك الحدود التي يراعيها، أو ينتبه إليها، على صعيد سلطوي، لكي يضمن الاستمرارية في المعتبر ” منصباً “، دون ذلك، كيف نفسر استمرار هؤلاء الأمناء، السكرتارية، وقد بلغوا درجة من العمر تقارب الخرف، لكنهم لا زالوا يقودون تنظيماتهم أو أحزابهم السياسية قطيعياً ؟
المعتبَر موظفاً، والمحكوم بالإداري في ” مؤسسته ” الرسمية أو الأهلية، يدرك، ومن خلال التربية العائلية، أن عليه ولاء الطاعة، عدم ” حشْر نفسه فيما لا يعنيه ” وهو يعنيه طبعاً، وكما هو متردد هنا وهناك: امش الحيط وقل يا رب السترة ” .
الفرد في العائلة بالذات، والذي يعاقَب، أو يزجَر من قبل ” رب العائلة : وهو تعبير مرعب في محتواه “، فالكلام لرب العائلة، ومن هو في موقعه، في المجتمع التقليدي، فلا يسمح لأي كان أن يقيّم موقفاً في نطاق الأسرة، وتبقى المرأة في أدنى السلَّم الاجتماعي، رغم الهالة التي تحاط بها، أو تتصور نفسها مميَّزة بها، لكن الدائر في المجتمع ينفي ذلك .
العامل في المضمار القانوني الحقوقي، والذي يُظن أنه يتنشط وفقاً لما هو قانوني، حقوقي، يسهل إيجاد أو تبيّن ما يخالف ذلك، في الأنشطة التي يقوم بها، أبعد ما يكون عن الكفاءة التي يتطلبها هذا النشاط الخطير جداً، لأنه يمس مجتمعاً بكامله، والأهداف المرسومة وهي بطابعها الشخصي، أي ما يربط بين أنشطته إجمالاً، وما يرفع من مقامه الشخصي ومنافعه، وفي مجتمع يعلَم قبل غيره، أن الحديث عما هو حقوقي، في مجتمع لم يبلغ ” سن الرشد ” المجتمعي، في مختلف ميادينه، أو حقيقته الاسمية، يثير الشبهات حول القائم بهذا الجانب بقوة .
بصدد الكاتب، أو من يُسمى بالمثقف ” ولا أكثرها أهانة، مثل هذه الكلمة: الصفة، لحظة المقارنة بين حقيقة الاسم، ونشاط المسمى “، يمكن النظر إليه، ومن خلال الموقع الاعتباري الذي يجد نفسه فيه، أو تكون نظرته إلى نفسه، بمفرده، أو داخل اتحاد، أو تكوين ثقافي معين، حيث إنه على قدْر القيمة الممنوحة له من قبله أو من قبل طرف معين، أوجهة ” سياسية “، يبلغ الجبن أعلى سقف له في المجتمع، وهو مستفحل بين فئاته، أو أفراده، لأنهم ينسبون إلى أنفسهم قدرات، أو صفات ما أبعدها عنهم، جهة التصريح بالحقيقة، حيث إن أسهل ما يمكن قوله، هو عجز أي من هؤلاء عن نقد أي كان، أي شيء، له اعتبار اجتماعي أو سياسي، وبالاسم، والتحرك على السطح، سواء أكان رجلاً أم امرأة، إذ يمكن أن يحلّل مقومات أي ظاهرة، أو يحدد أسبابها، سوى أن أياً من هؤلاء، يتجنب، وجرّاء التربية الترويضية له عائلية، وفي وسطه، الحديث عن ” الرأس “، وليس عن ” الذنب ” وإضاءة العمق الخفي، أو المغيَّب، ليس هناك أدنى جرأة لدى أي من هؤلاء في مكاشفة الفساد الإداري ومن وراءه. الجوع المستدام واعتباره واقعاً معاشاً، وأي رأس سياسي، وأي بطانة وراء هذا الرأس، وراء هذا الجوع. العنف الأهلي، أو القتل العشوائي، أو الانتحار الذي يزداد في صفوف النساء والشباب، ومن وراء تزايد نسبته: طبعاً من يعتبرون أنفسهم ” ولايات المجتمع الفقيهية “، القيّمين عليه، من لا يترددون في إيذاء أي كان، حين يشيرون إلى الشر ومن يجسّده ” ابعد عن الشر وغنّ له، من مكرمات مجتمع لا مجتمع كهذا . الميوعة الاجتماعية، ومن يسهّل أمره. والمخاتلة الثقافية والتي تسمّي نسبة عالية من هؤلاء الكتاب أو من هم برسم المثقفين، وهم يقيمون في المهاجر، فيركّزن على هذا الجانب أو ذاك، وبعبارات إنشائية، وشعاراتية، وأحكام تسوَّق، تشي بالجرأة، وهي تفتقر إلى التحليل، وفي الوقت الذي عرِفوا، حين كانوا في ” مواطنهم ” ذوي رصيد عال من الجبن، وهم بذلك يغطون على جبنهم هناك، أو يحاولون التعمية، والتعويض النفسي عما فاتهم….الخ. التسطيح الثقافي، رغم انتشار مظاهر له، ومراكز بحثية، أو نواد أدبية، وغيرها، وهي مفرّغة من محتواها، ومن هناك صعوبة الحديث عن الإبداع، وعن ظهور المثقف الفعلي، وفي ضوء ذلك، يكون أي نقد في خانة التشهير، والعمالة والتحامل…الخ، وأول الجبناء الذين يسهمون في الترويج لمثل هذه الحقيقة غيرالحقيقية، هم المندرجون في خانة ” الكتاب ” الذين تكاثروا في الآونة الأخيرة، ليكونوا شهود عيان أكثر على مدى تنامي الجبن، في دمغته الكردية، ليكون الكاتب الفعلي، والمثقف بالدرجة الأولى غريباً، منبوذاً، ومطارداً، ومحكوماً بالموت وحي، ومحتفى به بعد وفاته، وبصورة دورية، ومن قبل أشد من سعوا إلى تخوينه، والنيل منه مادياً ومعنوياً.