كُردستانيات 31- اعتــذار أحمــــد خانــي لبّكــو

 ابراهيم محمـــــود

اسمح لي أيها الشهيد الجليل بكّو، أن
أنحني أمامك من على بُعد ثلاثة قرون ونيّف، وأعتذر لروحك التي ندر نظيرها في
التفاني وتحمُّل الألم والعذاب والعزلة، وكلّي توجعٌ وتلوع ومكابدة عليك. نعم، أيها
الشهيد الكردي الفريد من نوعه، لكَم أخطأتُ في حقك، وكلّي يقين أنني بصنعتي تلك،
وأنا ألبّسك ما يجعلك متداولاً في النفوس والنصوص، ليزداد تقدير من أعنيهم لك ولما
قمت به، وهو أن تحرّر كلاً من مم وزين من الحياة الفانية، ليعيشا خالدين، وأي خلود،
في السماء، وما كنت أدري إطلاقاً أن الذي يتخلد أكثر من أيٍّ كان بين ظهراني جبلّتي
هو اسمك بالذات، وأنني بذلك أرتكب إثماً لا يمكنني تجاوزه، وليس من ندم بقادر على
التعويض أبداً أبداً.
نعم، من حقك أيها الشهيد الجليل بكو أن ترفع صوتك عالياً، أن تعنّفني وتسمِعني كل
ما يفيض داخلك به من قهر روحي وهدر إنساني، وأنت تقول بصوت منجرح من ألفه إلى يائه:
ما كان هكذا اتفاقنا يا أحمد خاني..لقد تجاوبت معك، لأكون صاحب دور وليس أن أكون
الشخص الذي يتم إخراجه من نطاق القرطاس بهيئة خاصة، بقبح استثنائي لأثير الكراهية
في النفوس، لعل الذين تكلمت بلغتهم وقدَّمتني لهم يتَّعظون، وليس أن يخرجوا كل
بذيئة وشتيمة وخزي داخلهم وأُثقَل بها. لا أهدأ في قبري! إن روحي تصرخ بصمت عميق
يدهش التراب الذي يحيط بي، لم يعد لي أي إمكان للخروج، إذ أنّى اتجهت وتلفتُّ، أنى
كان الناس قياماً وقعوداً، أي فساد معاش هنا وهناك، أي عار يُسمي أحدهم، يكون اسمي
الملفوظ: إنه بكو، ومن غير بكو، سحقاً لبكو، متى نخلص من بكو، إلى متى سيكفُّ بكو
بلاه عنا؟….الخ. هل حقاً أن كردك باتت مشكلتهم الكبرى في شخص بكو، ولولا بكو لكان
وضعهم مغايراً لما هم عليه، بعد هاتيك القرون ؟
نعم، سيدي، ومولاي، بكو، بكر
الحبيب والذي عرِفتَ به أكثر، ونسي الذين تهجوك أنك غير ما أنت عليه، ولكن كيف
يمكنهم ذلك؟ وفسادهم يتقدمهم من كبارهم قبل صغارهم، من الأكثر حرصاً على الوحدة
والاتفاق إلى المجاور له، إلى المتجاهل لمقامك الفعلي. كيف السبيل إلى بر أمان ما ؟
نعم، أنت ضحية ما صنعه هذا الفن، والذي لم يعهد هؤلاء الكرد بعدُ، جمال باطنه
ومغزاه، بقدر ما يزدادون قبحاً وهم يتخذون منّي أنا بالذات سوقاً لترويج أفكارهم
الموبوءة، إنما عليك أن تعلم، ودون أن أبرّر لما ارتكبته من جناية، أنك أيها
الشهيد، تستطيع أن تسمِع صوتك أياً كان، وتشكوني، أن تقف في وجهي صباح مساء، وماذا
عني أنا؟ من يمكنني أشكوه همي، وقد أسقط في يدي ؟ كيف أستردك وقد توزعت في نفوس
الملايين من هؤلاء الذين لا يردعهم شيء، ولا يلتزمون بحد، وهم من شقاق إلى شقاق، أي
قوة يمكنها أن تحرّر اسمك من خلطهم وخبطهم وشططهم عن الحق، كيف يمكنني تأميم ما
أطلقته في ” مم وزين ” من جورهم وشرورهم، ليتعرفوا إلى قبحهم الروحي في العالم
المحيط بهم؟
لو كنت أمتلك بعضاً من القوة لأزلت كل أثر لي من الوجود في كل رقعة
أو زاوية أو بقعة كردستانية، لانقضضت على كل تمثال يمثّلني في هيئات تعظيماً لي،
وعيناي مفتوحتان، لأعيش الدجل والمراوغة والانقسام، وليس في وسعي القيام بأي شيء،
وكأنني وجِدت ليمارسوا حريتهم أكثر في النفاق والتخاصم، لمَا تركتُ من صورة معتمدة
هنا وهناك إلا ومزقتها، لشطبت كل كتابة تحمل اسمي علّي أبرّىء نفسي مما أقدمت عليه
بطيب نية لينقلب وبالاً علي دون جدوى !
نعم، يا بكو، بكر الحبيب، كلانا شهيد،
أنا في محاولتك الارتقاء بمكانة مم وزين، وأنا في محاولتي تقديم حكاية ملحمية شعبية
ومن نجيع الروح، ليعلم الآخرون أن للكرد بالمقابل لديهم القابلية للعشق، لترك أثر
نفيس، لكنني صُدِمت، صدمت، صدمت والله يا توأمي الروح بما جرى، وقد أحالك ممن كنت
أتكلم بلسانهم، وأعيش آلامهم، ولاقيت الإهمال والجور الكثير على أيديهم، إلى أداة
سيئة الإستخدام، دون أن ينتبهوا إلى الدور العظيم لك، مثلما أحالوني أنا بالذات،
إلى مطية لمشاعرهم وأفكارهم التي أخجل من عائدها الأدبي والنفسي والاجتماعي
والتاريخي.
لشد ما أتعذب يا بكر الجليل من هؤلاء الذين أضيفوا إلى خانتي
باعتبارهم شعراء وكتّاباً، ونصِبت لهم تماثيل، وخصّصت مناسبات، وتنافس في الكتابة
عنهم من في مستواهم، ليختلط الحابل بالنابل، لا بل ليتقدم السيئ والرديء على الجيد
والمليح، ولتباع زين في البازار القومجي، إذ يقتَل مم مراراً وتكراراً، حيث أشهد
على ذلك في كل لحظة، وكلما جاهدت للخروج من قبري، أجدني عاجزاً تماماً، لأن لحمي
تحول تراباً، وعظامي نفسها تفتتتْ، صارت رميماً، لا تنفع فيها أي رِمَامَة طبعاً،
وليس لروحي إلا لأن تستمر في صراخها غير المسموع، ونزف دماء لا يراها إلا من كان
يمتلكون روحاً مشعة، روح مم وزين وتاجدين، وروحك النقية المقدامة، العذبة المطالع،
وما أقل هؤلاء من بني جبلّتنا، كما تعرف أنت، وكما أعرف أنا، فاستمر أيها الحبيب في
شكواك التي تُري لمن تعلم أنت، الظلمَ الملحَق بك من الناطقين بلغتك، وتابع طريق
المعاناة الصاعد، كما لو أنك تعيد ملحمتك الخاصة كل يوم وهي دون نهاية، وأنا أعيشك،
وتلك أبديتك، شهادتك، صدى روحك المضيئة في جهات كردستان الأربع
.
======
ملاحـــــــــظة: لمن يريد معرفة بكو حديثاً وصلة
الآخرين، من الكرد، به، آمل الرجوع إلى رواية الكاتب الكردي حسن متّه ”
القيامـــة ” بالكُردية، والمقيم في السويد، وقد ترجمتها إلى
العربية ونُشرَت في دمشق سنة 2007.
دهوك

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين اثار الأستاذ مهند الكاطع، بشعاره “بمناسبة وبدونها أنا سوري ضد الفدرالية”، قضية جدلية تستحق وقفة نقدية عقلانية. هذا الشعار، رغم بساطته الظاهرة، ينطوي على اختزال شديد لقضية مركبة تتعلق بمستقبل الدولة السورية وهويتها وشكل نظامها السياسي. أولاً: لا بد من التأكيّد أن الفدرالية ليست لعنة أو تهديداً، بل خياراً ديمقراطياً مُجرّباً في أعقد دول العالم تنوعاً. كالهند،…

د. محمود عباس بصوتٍ لا لبس فيه، نطالب الحراك الكوردي في غربي كوردستان بعدم التنازل، تحت أي ظرف، عن مطلب النظام الفيدرالي اللامركزي، وتثبيته بوضوح في صلب الدستور السوري القادم. فهذا المطلب لم يعد مجرد خيارٍ سياسي ضمن قائمة البدائل، بل تحوّل إلى صمّام أمان وجودي، يحفظ ما تبقى من تطلعات شعبٍ نُكّل به لأكثر من قرن، وسُلب…

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…