شاهين أحمد
تمر حركتنا التحررية الكوردية في سوريا وخاصة في السنوات الأخيرة بعد انطلاقة ثورات الربيع في المنطقة ، بظروف جديدة في علاقاتها المحلية والإقليمية والدولية، تفرض عليها أحيانا اتخاذ مواقف سياسية قد لاتنسجم تماماً من الناحية الشكلية مع مسيرتها التاريخية طوال أكثر من نصف قرن ، وهذه الظروف تخلق أحياناً نوعاً من الاختلاف أو حتى الخلاف داخل مؤسساتها بسبب التباينات الفكرية والأيديولوجية، ولا يشكل هذا التباين مؤشراً سلبيا بالضرورة ، لكن تكرراه في أكثر من موقف ومحطة ، وبين أكثر من شخص يعني بالضرورة التوقف عند هذه الظاهرة ، وبالتالي إعادة النظر في الضوابط النظرية، وكذلك القيم والمحددات الأيديولوجية ، والمعايير المعتمدة ، لتحديد المساحات ورسم المسارات التي تتوافق مع توجهات القيادة السياسية المكلفة بالتحرك، كي لايختلط الأمر بين الأيديولوجيا والسياسة ، وبين الفكر والسلوك. مثلاً الشعب الكوردي ، الأمة الكوردية ، كوردستان ، حق الشعب الكوردي في تقرير مصيره بنفسه ، عدالة القضية الكوردية ، الأعداء وعدم الاعتماد أوحتى التعامل معهم ، الخصوم ، الاصدقاء ….إلخ ،هي مفردات أيديولوجية .
أما السياسة فهي ترسانة متحولة من المفاهيم والنظريات والتصورات التي يعالجها السياسي في مختبراته ، ومن ثم يقوم بتنظيمها وفق مقتضيات المشروع للوصول إلى مجموعة من الأساليب والطرق والخيارات واتخاذ جملة من الإجراءات الضرورية لاتخاذ القرارات المناسبة من أجل تحقيق ماذكر من مفردات في الحقل الأيديولوجي . إذاً السياسة هي جملة إجراءات وسلوكيات وظيفية متغيرة وسط عالم يتزاحم فيها المعارف والأفكار والقيم والأحكام والمصالح واللاعبين ، والسياسي الناجح يقوم بتجميع مايحتاجه من الترسانة المذكورة وتنظيمها في سياقات منطقية متماسكة ، ويختار نمط سلوكي بناءً على وعي ومعرفة ودراية ، ويربط دائماً بين المعرفة والغاية ، وهنا يمكن للسياسي الواقعي أن يقوم بإعادة صياغة مفردات الحقل الأيديولوجي بما يتناسب مع الواقع والظروف والإمكانات ، وذلك من خلال برنامج عملي مجدول زمنياً وقابل للتنفيذ مع مراعاة مستويات الوعي المجتمعي والحاضنة الحاملة للمشروع ، وسبل الانتقال من الخاص إلى العام وكيفية تأمين المصالح الخاصة للفرد في إطار المشروع العام الشامل . الجماعة السياسية المنظمة التي تشكل الأداة الأيديولوجية يجب أن تؤمن بها وتشعر بالانتماء إليها وتعمل وتضحي من أجلها ، وتقتنع بأن مصالحها ورغباتها ستجد طريقها للتحقيق من خلالها . وبالتالي من ضمن مهام السياسيين تهيئة الأجواء الملائمة لترغيب الفرد في الانضمام للجماعة التي تؤمن بالحقل الأيدولوجي الذي يشكل غاية العمل السياسي ، وفشل المنظومة السياسية في تأمين رغبات الفرد يؤدي إلى خلق حالة من الشك والترهل والنفور ، والأخطر هو لجوء المنظومة السياسية إلى اعتماد إجراءات من شأنها جرها نحو مستنقع الاستبداد، ويجب ألا تتغاضى المنظومة السياسية عن الحقوق الفردية كي لا تخسر حاضنتها وتفشل في أهدافها المنشودة . وهنا من الأهمية التذكير بأنه على السياسي أن يدرك تماماً بأن الأيديولوجيا هي بمثابة شركة مساهمة ، تعمل جاهدة على إلغاء التناقضات وتوحيد جهود وإمكانات المساهمين في إطار نوع من نكران الخصوصيات الفردية ولو بصورة شكلية في سياق الاندماج ضمن قيمها العامة . وقد يستغرب القارىء البسيط أو السياسي المبتدىء من هذه الحقيقة ،لأن الشعار الذي يرفعه السياسي قد يكون كاذباً ومناقضاً للممارسة في بعض الأحيان ، والأمثلة كثيرة في هذا الجانب وخاصة في منطقتنا ، حيث نجد أن غالبية الأنظمة التي رفعت شعار الحرية والديمقراطية مارست الاستبداد والشمولية . يجب أن يعلم السياسي جيداً بأن دوره هو العمل على توفير المستلزمات وخلق المناخات واستغلال الظروف ، وتقدير اللحظة التي يمكن فيها إعادة صياغة شروط جديدة لتحقيق ماهو إيديولوجي ، وأن ساحة صراع الأيديولوجيات هي حقول السياسة , ونجاحها مرتبط بمدى نجاح المنظومة السياسية التي تعمل على تحقيق وتنفيذ محدداتها ، ويتوقف كل ذلك على مدى قدرة تلك المنظومة السياسية على إعادة تنظيم الأفكار لإنتاج نمط معين ومناسب من السياسيين القادرين على تحقيق الغايات والأهداف المثبتة والمحددة مسبقاً في منظومتها الأيديولوجية . لذلك المنظومات السياسية الكوردية مطالبة اليوم بإدراك أهمية ماذكر أعلاه من خلال إعادة النظر في المفردات الأيديولوجية وجدولتها دون المساس بالجوهر ، ومن ثم وضع الخطط والبرامج اللازمة لتحقيق تلك المحددات أو الثوابت التي تم وضعها في منظومتنا الأيديولوجية وترك الحرية للأفراد المكلفين بالعمل وفق النمط الذي يتناسب مع كل موقع ومرحلة ، لأن تقييد حركة الفرد أو المنظومة السياسية المكلفة بتحقيق كل أو جزء من المحددات الأيديولوجيا يعني الحكم المسبق بالفشل على المكلف بالتحرك ، بإختصار يعني أن يتم محاسبة المكلفين بالعمل على أساس النتائج وبشكل دوري ، وضمن مدد زمنية محددة ، وإعطاء الحرية للسياسيين المكلفين بالتحرك ، لاتعني أبداً الخروج عن حدود الأهداف المعروفة ، ولكنها ضرورية لإعطاء السياسي مساحة كافية للتحرك وفق النمط الذي يراه مناسباً لتحقيق الغاية . وسبق أن أشرت أعلاه بأن تصميم الأيديولوجيا وفق مفردات المراحل التاريخية التي خلت هو نوع من السذاجة والخرافة ، لأن هناك تعابير ومصطلحات عفى عليها الزمن وأكل عليها الدهر وشرب ، لذلك علينا أن نختار تعابيرنا ومصطلحاتنا بوعي ودراسة ، وأن لانقيد أنفسنا بمفردات جامدة وكلاسيكية ، كل مايهمنا في الموضوع هو الوصول إلى الأهداف . وهنا من الأهمية بمكان عدم تجاهل حقيقة أن ماينتجه ويحققه السياسي خلال نشاطه وبالتعاون مع المنظومة السياسية ومشاركتها ، يقاس أولاً وأخيراً بماورد في الحقل الأيديولوجي من مقاييس وأفكار ، وذلك من خلال القياس على مدى مصداقية الأفكار التي تسلح بها السياسي وكذلك درجة التزامه بالقيم التي تحدد وترسم مساحة تحركه ، ومدى مطابقة النتائج للمعايير المحددة في المرجعية ( الأيديولوجية ) التي تمنع خروج المنظومة السياسية عن سكتها ،بمعنى آخر أن العلاقة بين الأيديولوجيا والسياسة هي علاقة عضوية ولكنها غير مرئية في غالبية المساحة التي يتحرك فيها السياسي المقتدر وكذلك المسارات التي يسلكها. والإيديولوجيا التي نحن بصددها اليوم ، والتي تلخص جملة من القيم والمبادئ والأهداف التي تمت الإشارة إلى بعضها ، وعلى الأداة ( إطاراً كان أم حزباً أو فرداً …) تنفيذها على أرض الواقع يجب أن تكون محدداتها واقعية تناسب المرحلة الزمنية ، وتتناسب مع الإمكانات والظروف الذاتية والموضوعية ، وأن تتجنب الأوهام في مضامينها ، كي لاتنتج لاحقاً ردات فعل سلبية وسط الحاضنة الشعبية . وعلينا أن ندرك بأنه يجب إعطاء مساحة كافية للمناورة والتحرك السياسي ، ومنح المرونة اللازمة للسياسيين ، وعدم مطالبتهم بالعودة في كل صغيرة وكبيرة إلى الموافقات اللازمة من خلال الاجتماعات، ولايعني ذلك بأي شكل من الاشكال تجاوز المؤسسات وضوابط العمل ، كون الحركة تمتلك المرجعيات الأيديولوجية والقومية ،التي تعمل وترسم وتحدد العلاقة بين المصالح والمبادئ . خلاصة القول هل علينا أن نقدم المصالح على المبادىء أم العكس ؟ .