إبراهيم اليوسف
ما لاشك فيه، أن التطور العلمي يواجه- باستمرار- تسخيره في الاتجاه المعاكس، والمضاد للأغراض الإنسانية التي لا يفتأ يقدم الإنجاز تلو الآخر، من أجلها، خلال دورة الزمن، ولاسيما منذ بداية عصر التقانة وحتى الآن، إذ إن مقولة- السلاح ذي الحدين- التي طالما كانت ترد في الأدبيات الأولى التي أعقبت الاكتشافات العلمية المذهلة، تحضر أمام صورة الواقع الحالي، من الاستخدام المضاد لهذا المنجز أو ذاك، إذ إن عقل الشر، بمستوياته المتعددة: المنظم منها والفردي، وحتى على نطاق بعض القوى المهيمنة عالمياً، في أمثلة حاضرة، ماثلة، عديدة، يحاول استثمار، وتجيير كل مكتشف في خدمة إلحاق الأذى ببني البشر، وإن كان العلم قد وظف حتى سموم أصناف الأفاعي العملاقة في خدمة الإنسان، عبر جعلها دواء، شافياً، للبرء من أمراض مستعصية، بينما- في الاتجاه الآخر- نرى ما من شأنه حتى دس السم في العسل لأجل الفتك بالإنسان، مشخصاً، أو حتى عشوائياً ضمن خريطة ما.
فمنذ انتشار ثمار ثورة المعلوماتية، على نحو عالمي، وسقوط الحدود بين الدول فإن هناك من راح يحاول استثمار شبكات التواصل الاجتماعي، من أجل تنفيذ خطط تحاول تدمير الإنسان، وهو ما تضعه المؤسسة الإعلامية التي تدير هذه الوسائل، وتضعها على رأس قائمة أجنداتها، إلا إن المهمة جد صعبة: .
فألم نر كيف أن تنظيم داعش الإرهابي، و – منذ أول تنفيذه لأولى المهمات المكلف بها- راح يستثمر أعظم منجز إعلامي ما بعد حداثي، في خدمة ثنائية: الترهيب والترغيب؟، فقد كان من بين أوائل جرائمه ما بعد الوحشية إجراء محارق للأسرى، خلافاً لأية نواميس وقيم بشرية، ناهيك عن استقطابه لآلاف الشابات والشباب، عالمياً، ومحلياً. من وراء البحار، ومن العالمين العربي والإسلامي، من خلال التقاطهم عبر شباك وسائل التواصل الاجتماعي، وإغرائهم، وإغوائهم، وخديعتهم، وغسل أدمغتهم، ليقتلوا، أو يقتلوا، وهو ما رأيناه جميعاً بأمات أعيننا، عبر متابعتنا لجرائم هذا التنظيم ما بعد الإرهابي!
نتذكر، كذلك أن شبكات قذرة راحت تروج إما للمخدرات، أو لابتزاز بعض الضحايا، من خلال استدراجهم: رجالاً وحتى نساء- للأسف- بل إن هناك من تحدث عن مؤسسات قامت بمثل هذه المهمات لتشويه صور بعض الضحايا، الموقع بهم، لأغراض سياسية، أو ثأرية، أو سعياً وراء المال، وكانت هناك- شبكات عابرة للحدود- تمارس بعض هذه المهمات القذرة، ناهيك عن أنه تم استثمار انتشار وتأثير وسطوة هذا الصنف من الإعلام، واتساع دائرته، من قبل بعضهم لتشكيل- مافيات- قوامها أنفار عديمي القيم والأخلاق، يهددون- بالتشهير- ببعضهم في حال رفضهم وامتناعهم عن دفع- مبالغ مالية- لهم، أو استعداد بعضهم لدفع أو تلقي مبالغ ما من أجل توكيلهم بمهمات قذرة، سواء أكان ذلك بأسماء وهمية أو حقيقية!
إن هذا المنجز ما بعد الحداثي- أي العالم الافتراضي- أداة عظيمة، يمكن التعويل عليها في صناعة رأي عام عالمي، في خدمة- رسالة الخير- ونبذ رسالة الشر- ومنع انتشار ثقافة الكراهية المقيتة، وهنا فإننا أمام واجب الجهات المعنية، في بلدان العالم السعي لوضع حد لهذا الإرهاب الجديد، عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تدار من قبل عقول جندت ذاتها لأداء مهمات من شأنها زعزعة وتقويض المجتمعات، ونشر الفتن، والدفع إلى ارتكاب جرائم بشعة، لاسيما في ظل إحساس المجرم الإلكتروني ببعده المكاني عن الضحية، ووجود مساحة أمان- في غياب المواجهة- من خلال استغلال ثغرات القوانين في هذا البلد أو ذاك، ما أنشأ- مدربين ومتدربين- وخبراء في هذا المجال، من شأنهم تشكيل ما يشبه مهمات المافيا، ولقد تحدث كثيرون منذ بدايات الثورة السورية عن نشوء- كروبات هكر- متضادة، لدى هذا الطرف وذاك، لتنفيذ عمليات- إرهاب ناعم- من خلال محاولات القتل المعنوي، ولقد رأينا على سبيل المثال كيف أن الشهيد مشعل التمو، أو حتى الشهيد محمد معشوق خزنوي تعرضا لحملات استعداء إعلامية، قبل اغتيالهما، من قبل بعضهم: بأسماء مجهولة أو ربما حقيقية، حتى وإن كانت نوايا بعضهم عبارة عن ردود فعل، على موقف ما، من دون أن يدروا ما يفعلون- هذا إن حكمنا بحسن النوايا-إلا إن كل ذلك كان في خدمة آلة النظام الذي غطى على الحدثين: أية كانت الأدوات الميدانية المباشرة لقتلة الشهيدين!
من مخطوط معد للنشر بعنوان:
العدوان الإلكتروني ما بعد الحداثي!
وخطورة توأمة الثأرية والجهل وفوضى الإعلام