المجلس الوطني السوري ومصداقيته السياسية

صالح بوزان

خلال فترة ما قبل مؤتمر اسطنبول لأصدقاء الشعب السوري بيومين وبعد انتهائه صدرت وثيقتين هامتين من المجلس الوطني السوري.

الأولى بعنوان “العهد الوطني لسوريا المستقبل” والثانية بعنوان “الوثيقة الوطنية حول القضية الكردية في سوريا“.

عندما يتمعن القارئ في الوثيقتين يجد أن الأولى تجاهلت ليس فقط حقوق الشعب الكردي, بل تجاهلت حتى وجوده في سوريا.

بينما الثانية تضمنت حق الشعب الكردي في سوريا بكل صراحة ودون مواربة, بل ثمة ملامح لشراكة مستقبلية حقيقية بين الشعبين العربي والكردي في سوريا على تراب وطن عزيز على كل مكونات الشعب السوري.
في الحقيقة يقع المواطن السوري (ولاسيما الشبيبة الثائرة) في حيرة من أمره.

هل الذين كتبوا الوثيقة الثانية هم نفس الذين كتبوا الوثيقة الأولى؟ بمعنى آخر ما المشكلة في هذا المجلس تجاه المكون الثاني الأكبر للشعب السوري؟ ففي المؤتمر الأول في اسطنبول خلقوا للأكراد مشكلة “الجمهورية العربية السورية”, مع العلم أن تسمية “الجمهورية السورية” التي طالب بها الأكراد هي التسمية التي أقرها العرب السوريون بعد الاستقلال وليس الأكراد.

فالأكراد يريدون أن تكون التسمية وطنية وليست قومية حتى تشمل كل مكونات الشعب السوري.

أليس الإصرار على التسمية القومية جزء من ثقافة البعث التي يدعي جميع أعضاء المؤتمر الوطني السوري أنهم ضدها؟
بعد ذلك خرج علينا رئيس المجلس الدكتور برهان غليون بمقابلته التلفزيونة أن الأكراد في سوريا لاجئين مثل كل اللاجئين في دول أوروبا.

لقد صدم الأكراد بقوله هذا, خصوصاً أن برهان غليون مفكر سوري بارز, ويعلم علم اليقين أن الأكراد في مناطقهم سكان أصليين.

وإذا كان هناك بعض اللاجئين في فترات معينة بداية القرن الماضي جاؤوا من تركيا هرباً من الاستبداد, فإن هذه الهجرات تنطبق على العرب أيضاً, حيث هناك الكثير من العرب لجؤوا إلى سوريا في القرن الماضي وأصبحوا الآن سوريين, ولا أحد يطرح مسألة أنهم لاجئين.

وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن فيصل الذي أصبح ملكاً على سوريا بعد خروج العثمانيين لم يكن عربياً سورياً.


بعد ذلك تراجع الدكتور برهان غليون عن أقواله بتصريح رسمي.
ثم جاء مؤتمر تونس ليقف المجلس الوطني السوري بموضوعية أكثر على المشكلة الكردية في سوريا, ويعترف بالشعب الكردي السوري وضرورة حل القضية الكردية ديمقراطياً في إطار سوريا الموحدة.

وكان هذا الموقف خطوة كبيرة من قبل المجلس نحو هذه القضية, بل تجاوز أطروحات الأحزاب الكردية التي كانت إلى الأمس القريب لا تتجرأ استخدام مصطلح الشعب الكردي السوري بل تقول الأقلية الكردية.

 لكننا فوجئنا بوثيقة الاتفاق بين المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطنية.

حيث تراجع المجلس الوطني السوري عن الصيغة التي أقرها في مؤتمر تونس حول القضية الكردية السورية.
كل هذه التقلبات تجعل الشعب الكردي السوري وخاصة شبابه الثائر يشك بهذا المجلس, على الأقل بقسم كبير من أعضائه.

صحيح أن التفاهم بين التنسيقيات العربية والكردية أكثر مصداقية ومصيرياً لأنه مجبول بالدم.

فالجيل الجديد لم يلوث عقله بثقافة البعث العروبوية.

إنه جيل وطني قبل أن يكون قومياً.

أقول هذا ليس على صعيد الشباب العربي فقط, بل كذلك على صعيد الشباب الكردي أيضاً.

إنني على يقين أن التفاهم بينهم على مستقبل سوريا سيكون أسهل من التفاهم بين المجلس الوطني السوري والمجلس الوطني الكردي, لأن كلا هذين المجلسين يجسدان العقلية السياسية الكلاسيكية في سوريا.

هذه العقلية المشبعة بالشك والحيل وزرع الألغام, بل حتى المؤامرات.
من حق الأكراد أن يقولوا أن هناك في المجلس الوطني السوري من يحمل عقلية الإقصاء مثل البعث.

وهناك عروبويون أسوء من البعثيين.

وعلى سبيل المثال لا الحصر سمعت في مقابلة لهيثم مالح مع إحدى القنوات التلفزيوني لكردستان العراق أقوالاً ذكرتني بمحمد طلب هلال صاحب المشروع القومي العنصري ضد أكراد سوريا في القرن الماضي.

فأقصى ما يقبله هيثم مالح للأكراد هو المواطنة.


أليس من حق الأكراد أن يتساءلوا ما قصة رياح اسطنبول التي تجعل أعضاء المجلس الوطني يصبح عروبويين فجأة.

إذا كان الأتراك يضغطون عليهم من أجل عدم الاعتراف بأي حق كردي (والأكراد يعرفون هذه الحقيقة), وأعضاء المجلس يرضخون لهذا الضغط, عندئذ يتساءل الكردي ما مصداقية هذا الشريك الذي يبيع شريكه بطلب من دولة هي ضد الأكراد حتى في بلاد الواق الواق؟
إن الذاكرة الكردية مليئة بتلك المواقف التي كان وزراء خارجية سوريا وتركيا والعراق وإيران يجتمعون سراً وعلانية, بشكل ثنائي وجماعي, ليتفقوا على كيفية التعاون المشترك للقضاء على أي مطلب كردي مهما كان بسيطاً.

فهل المجلس الوطني السوري يتابع هذه السياسة منذ الآن؟ إن الأكراد يريدون شراكة لا تنفصم تحت أي ضغط خارجي.

فمن يلبي الضغط الخارجي ضد شريكه الوطني هو الذي يخلق الشرخ في الوطنية السورية, وسيصبح مداناً أمام الشعب السوري كله.


لقد كان الكردي, عبر التاريخ, يطلب من العربي الأخوة والصداقة والمصير المشترك, وعلى أعضاء المجلس الوطني السوري, وخاصة العروبويين منهم أن يرجعوا إلى التاريخ لكي يدركوا من كان يقابل هذه الأخوة والصداقة والمصير المشترك بالصهر والتهميش وتدمير ثقافة الآخر والسعي لإلغاء كيانه من الوجود.


لقد مضت تلك العهود التي كان الأكراد فيها وقود معارك الآخرين.

فالجيل الكردي المعاصر يعي قضيته, وملم بكل القضايا التي حوله.

ولهذا بالذات أعتقد أن موقف الكتلة الكردية التي أعلنت الانسحاب من المجلس الوطني السوري على ضوء وثيقة “العهد الوطني لسوريا المستقبل” مصيب.

فهؤلاء يحترمون شعبهم, ولا يقبلون أن تنحرف الثورة السورية المجيدة عن قيمها الوطنية العليا وتصبح وجهاً آخر لمفردات حزب البعث.

وعندئذ سنحتاج إلى ثورة جديدة وآلاف من الشهداء مرة أخرى.


إن الدم الكردي والعربي تآخى على تراب الوطن, فيا أعضاء المجلس الوطني السوري التزموا بهذا التآخي.

لأنكم بدون هؤلاء الثوار الذين هم شرف وعزة الشعب السوري لا تساوون شيئاً..

شيئاً…شيئاً.

أتمنى أن تكون هذه الوثيقة العروبوية آخر مطبات المجلس الوطني السوري.

وأن يكون الاستدراك الذي تم في “الوثيقة الوطنية حول القضية الكردية في سوريا” موقفاً نهائياً تجاه المسألة الكردية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…