محمود عباس
والنقيض في الواقع لا يأتي من الكرد السوريين بقدر ما يأتي من العرب السوريين، الذين قلما نجد مثقفاً منهم بدون نزعة الإنتماء العربي المتشعب الأطراف، إن لم يكن قومياً بحتاً سيكون ديانة أو لغة قرآنية.
ثم أليس الإنتماء إلى جغرافيا مدماة تاريخياً أعمق إنتماءً من جغرافيا ذات تاريخ حديث هش التكوين، ومليء بالخداع والنفاق والقلاقل، مع عدمية القناعة والإيمان بها ككيان.
علينا أن نكون واقعيين في رؤيتنا لوجود سوريا كجغرافيا حاضرة والتي لا أرى فيها إكتمال في النضج التاريخي، وعوامل التماسك الوطني سوريا ضعيفة، تنخرها الفساد والأوبئة، فهي عوامل تاريخية قصيرة المدى تبدأ من فترة الجلاء الفرنسي لهذه الجغرافيا، وجلها عوامل أدت إلى تشتيت ذهنية تكوين الوطن، وتدمير نزعة الإنتماء في الإنسان السوري عرب كانوا أم كرداً أو أقليات أخرى، ولم تخلق هذه العوامل أي تآلف متين أو متكامل بين الأغلبية العظمى من الشعب السوري، خاصة وهي مدماة تحت ظل سلطة شمولية نشرت ثقافة البغض والكراهية بين أطياف المجتمع السوري عامة، وكل ما قيل على مر التاريخ المعاصر ما بعد الجلاء عن النضج الوطني، خداع للإنسان السوري من العلياء، والبعض يجولون في خداع الذات الواهمة بكيان ناضج لوطن الجغرافيا الحاضرة، الوطن الذي أجهض منذ بداياتها وسيجهض في ظل تاريخ الإسلام السياسي القادم.
كان بالإمكان الدفاع عن السيد غليون من منطق أممي أو بصفة إخوة وطنية، لا ينفى فيه الوجود الكردستاني السوري الطبغرافي – الديموغرافي كمنطق على الأقل، وهنا لا الإنتماء له دور في وجود هذه الجغرافيا ولا الرغبة، بل الوجود كواقع مكمل لطبغرافية مترامية من خلف الجغرافيا الحاضرة الهشة التي لا يستبعد إزالته، والكل يدرك أن الوجود الطبغرافي الذي يجد الكرد نفسهم عليها ديموغرافياً، أزلية، على الأقل تبدأ من أوائل عصور ظهور الإنسان، وستبقى ثابتة بوجود سوريا الجغرافيا الحاضرة أو القادمة أو بدونها.
هل ينفي السيد غليون إنتماء جولان إلى ماضيها على حساب حاضرها الجغرافي الثابت دوليا، إسرائيل المستقرة التي يحتضنها، وهي دولة ثابتة بعمر لا يقل عن عمر سوريا الوطن!؟.
هذا الطرح إنتقاد أو تحليل لتبيان واقع لا يؤمن به الكاتب إبراهيم محمود، ولو كان صادقاً مع تحليله لمقولة غليون لفرض المقولة على عروبة غليون وبحث في تشدقه نحو المجال العربي، كدراسة وطنية لدعم مفاهيم الثورة السورية.
مع هذا فالوعي الذي إنطلق منه غليون ومنهجية المقالة، أضحل من حيث البعدين التاريخي – الديموغرافي والجغرافيا الحالية – السورية عن نفس البعدين في حالة كردستان الطبغرافية المنسجمة مع الذات المستقرة في وجودها- وهماً – من حيث الحدود الجغرافية، لكنه كيان حاضر الوجود في كل تفاصيلها التاريخية القديمة والحاضرة، بعكس حاضر جغرافية فلسطين الحاضرة المنقسمة أوالحلم الآتي، ومع ذلك لم تغب يوماً عن حاضر غليون والمثقف العربي الذهني هذا الحلم.
كردستان، جغرافيا طبوغرافية، أو ديموغرافية أو نزعة إنتمائية كاملة الإيمان، أو يشوبها الوهم والخيال، يبقى أمتن من جغرافيا سوريا الحاضرة الفارضة خارجيا، وحيث الإيمان بها ظاهرياً، وباطنياً ملفقة في الإعلام، ولا أظن أن الشريحة المثقفة في سوريا الحاضرة سيستقر ذاتياً على الإنتماء له دون إنزياح إلى ماوراء جغرافيتها، عربياً أو كردستانياً، وهذا هو التناقض مع الذات قبل أن يكون مع الاخر، ويثبت هذه مع مقولة الأخ إبراهيم..” ..دون أن أمحو كردستانياً…” وكأنني أرى الشك بالذات السورية كمنطلق متكامل متصارع فيما وراء العقل المحلل أو الباطن.
أو قوله..” …الأكثر وعياً كردستانياً..” وصف للذات يثبت خفايا الإمان أو الإنتماء، مع الشك والثقة بذاتية كردستانه، الموجودة المخفية هناك فيه، أي كان شكلها ، طبغرافياً، ديموغرافياً، أو جغرافيا حاضرة أو مستقبلية …وهنا نلاحظ التناقض الذي نتحدث عنه، مابين الطرح شبه المطلق في بداية المقال، والمشوب بالشك في نهاياتها، وجملته الدفاعية سلفاً تبين هذه …” ..ما الضير في أن أعلي من شأن هويتي السورية بعلامتي الكردية؟” الهوية التي من الممكن أن تلغى بإلغاء الجغرافيا السياسية، وهذه تحصل كثيراً في هذه العهود، أو بأمر من سلطة كسلطة بشار أو الإسلاميين أو غليون القومي يسحبها.
نفي كردستان هناك، وعملية التجرد منها حاضراً من أجل سوريا الحاضرة، في العلن كمفهوم، والإيمان بماهيتها في الأنا المتغيبة، لا يوقف المثقف العربي أوغليون معه على نفس العتبة، بل سيبقون حاملي العلامة العربية مع إبراز هويتهم كعربي القومية واللسان، وينفونها كحق طبيعي للأخر.
والغريب هو غياب الإيمان بالمتغييرات المستمرة في التاريخ والجغرافيا كسياسة وليس كطبغرافيا والتي هي من مسلمات الجدلية، بل على الكاتب قبل أي مثقف آخر مساندة التغيير لتثبيت وضع مغاير، لا مقاومتها، مقاومتها صراع مع الجدلية التاريخية هنا.
وعليه فمن الممكن إعتبار الثورة السورية الحالية مرفوضة، لإنها تبحث عن المتغيرات التي كانت وهماً حتى البارحة، ومقاومة السلطة الحالية الثابتة غير منطقية، وعلى الجميع تقبل ثابت سلطة آل الأسد والبعث الحالية.
وفي هذا المنطق ذاته، الهوة جداً ضيقة ما بين الحلم الذي يعمل لتحقيقه والواقع الذي ينفى لعدمية المستحيل.
وما دامت تحقيق هذه الجغرافيا ممكنة من خلال مجاهدة طويلة، إذاً فالواقع بذاته موجود وينفي مقولة السيد غليون بل ويضحد بشكل غير مباشر خلفية كلامه السياسي العنصري، لا الثوري ولا العلمي.
ليست هناك خريطة معتمدة منذ مئات السنين وأكثر، أنا جغرافي وأؤكد أنه ليست هناك جغرافية ثابتة ومعتمدة في الأرض، في شرقنا لا يتجاوز ثبوتية أية خريطة قرن من الزمن في أفضل الحضور، لذلك ففي المنطق الفعلي، جغرافيا كردستان كحلم، أو طبوغرافيا كواقع، لا يقل ثباتاً عن جغرافيا أقدم الكيانات السياسية والتي لم تكتمل في أي منهم مفهوم الوطن والمواطنة بشكل كلي، وهو شبه غائب الوجود في عمق المجتمع المتنوع في معظم الجغرافيات.
والأخ إبراهيم محمود هنا يبين عن خطأ جغرافي تاريخي واضح، وهي لا تصبح سنداً لطرحه، لهذا فغليون ليس هو الذي يمكن أن يثبت الجغرافيا أو يحلها، مثلما لا يصح للكردي الطلب منه تثبيتها، يستطيع فقط البوح بالمكنون كسياسي عربي، وليس السياسي الحضاري الإنساني، ليس فقط حول جغرافيا كردستان سوريا بل وجغرافيا سوريا عربياً.
الحقيقة هي أننا أمام معضلة النفي الكردستاني بكامله كحلم، من كردستاني المنشأ، ونفي الوجود الكردستاني بمطلقه في جغرافيا سوريا، التي تنجرف إعتماداً على هذا المنطق إلى جغرافيا عربية كاملة، وإلا لا يمكن القول أن البعدين منفيين من سوريا كوطن متكامل، الشطر الأول ينفيه الكاتب إبراهيم والثاني ينفيه السيد غليون ويؤكد عليها الأخ إبراهيم محمود، والنفي من رغبة ذاتية غير قانعة بمفاهيم الاخر، والتاريخ الماضي والحاضر والقادم حسب الاخر، ينفي ويفرض على نفسه نفي من الآخر له ايضاً، إعتماداً على نفس البراهين والحجج، وجميعها نسبية، تلائم مدارك الجميع، ومن الممكن إستعمالها كإسنادات فكرية في كل آن وحين.
مطلقي غليون وإبراهيم حالة ذاتية هشة الإدعاء والبنيان سياسياً، والإسناد الجغرافي – التاريخي ضعيف بكليته، خاصة والكاتب القدير الأخ إبراهيم محمود يؤكد في نهاية مقاله على عدم الإيمان أو نسيان أبعاد الجدلية التاريخية والتطورات والتحورات التاريخية والجغرافيا السياسية، وهو الذي يملك كل المدارك عن محيط جغرافيا السورية، أبعادها الماضية والحاضرة، والآتي ضليع في تحليلها… التجاوزات حاصلة في أمتن الجغرافيات في العالم، وعلينا جميعاً أن لا نكون عدميين، نطلق الفكرة بمطلقه، مثلما فعلها السيد غليون.
الحلم موجود والثورات الحاضرة تصارع لتجعل الحلم واقعاً، لهذا فأمام الكرد فرصة عظيمة لإثبات الذات، وإثبات جغرافيا كردستان سوريا والحلم إلى حقيقة، ويبقى تحقيق هذا الحلم على مدى فعالية وقدرات الكرد الحالمين.
لاشك أن هذا المفهوم القوى جداً، الذي يطرحه الكاتب إبراهيم محمود يندرج ضمن أعاصير مفاهيم ثورات الشرق التي تجتاح الثقافة الحاضرة، وتخلق الجديد في كل المجالات، والتي ستؤدي إلى خلق شريحة من المثقفين الرواد يطرحون المخالف للمألوف، والثورات في بداياتها تكون ملئية بالفوضى الفكرية وصراع بين المفاهيم، والأنقى هي التي تبقى وتحتل الصدارة وتعم.
عذراً من الأخ الكاتب القدير إبراهيم محمود، على هذه المداخلة والتي لا أدعي كلياً بأنني قدمت الأصح، وعليه فأنني سألحقها بدراسة أخرى أكثر عمومية حول نفس الطرح، وذلك لوساعتها الفكرية، وأبعادها المتشعبة، فهي تشبه في بعضه كالصراع الدائر الآن بين القوى الكردية حول مفهوم اللامركزية السياسية والفيدرالية…والتي تنازلت بعض من أطراف الحركة السياسية عنها بكل وضوح وشفافية والبعض الرافض ينفي ذلك….
د.
محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com