خالص مسور:
بداية أقول: لقد أوردت هنا مقولة الخطاب القومي العربي تجاوزاً على الحقيقة، لأنني – وبصراحة – لا أرى خطاباً قومياً بمصطلحه العلمي الصحيح على الساحة العربية أصلاً، فالشعوب العربية لم تمر بمرحلة القومية بعد، بل كل ماهو موجود على هذه الساحة هو ما يمكن أن أسميه – وبكل ثقة – بمرحلة (ماقبل القومية)، أو هو شكل بدائي من أشكال رابطة الدم، وكنوع من خطاب قوموي مأزوم ومتطرف، قائم على نفي الآخر وقمعه فكرياً وجسدياً، وتعتكز على شعار معاداة الإمبريالية والصهيونية خارجاً، وبنوع من الديكتاتورية الفوضوية والخواء الفكري داخلاً.
لأن القومية وبإجماع المهتمين والدارسين في هذا المجال – وكما بينا آنفاً – هي اعتراف بالآخر، ورسالة إنسانية تجسد وعي الشعوب بقيمها وأوطانها وتراثها، والدفاع عن نفسها وبلادها ضد ما يتهددها من أخطار خارجية.
لأن القومية وبإجماع المهتمين والدارسين في هذا المجال – وكما بينا آنفاً – هي اعتراف بالآخر، ورسالة إنسانية تجسد وعي الشعوب بقيمها وأوطانها وتراثها، والدفاع عن نفسها وبلادها ضد ما يتهددها من أخطار خارجية.
ولهذا أدى هذا الفكر القوموي المشوه على الدوام إلى استشراء الفساد على الصعد القيمي، والإداري، والأخلاقي….الخ.
فأساؤا بذلك إساءة بالغة لسمعة هذه الأمة المجيدة وتاريخها الحضاري العريق، ووقفوا حجرة عثرة في وجه طموحاتها وآمالها، حتى أوصلواها إلى طرق شبه مسدودة، قد لايكون الخروج منها سهلاً أبداً، شأنها في ذلك شان الإسلام الحنيف الذي تهتك على أيدي ثلة من أتباعه المتأسلمين، الذين جعلوا بسياراتهم المفخخة، وتحت حجج شعاراتهم الدينية، أطفال العراق ونسائه وشيوخه أشلاء ممزقة، فما هكذا تورد الإبل أيها السادة!.
وجاء ترسيخ هذه الأفكار على أيدي عدد ممن يعتبرون اليوم رواداً للقومية العربية والذين تأثروا بالمفاهيم والشعارات الأوربية حول الأمة والقومية، وأظهر هؤلاء الرواد فيما بعد أنهم، لم يكونوا على مستوى المسؤولية التي حملوها على عاتقهم، فمالوا بأفكارهم نحو مزيد من التعصب والإستعلاء القومي، متأثرين بشكل كبير بالنظريات الأوربية الوافدة كالنازية والفاشية، ومنهم الديك المفلفل (زكي الارسوزي) كما سمى هو نفسه، وهو منظر حزب البعث ونبيه الموحى إليه، وقد نعت الأرسوزي في كتاباته العرب بأنهم شعب الله المختار، اختارهم الله لحمل رسالته كالمفهوم اليهودي تماماً، وأن اللغة العرية منزل من الملأ الأعلى فيقول: ( والعربية هي لسان آدم الذي علمه الأسماء كلها والأسماء منزلة من السماء ) المعرفة – 468 – 51
ويقول : أن ( العربي سيد القدر) نفس المصدر السابق.
وفي معرض كلامه عن الأمة العربية يقول الأرسوزي ( الأمة العربية ليست وضعاً عاماً نشأ في التاريخ بل هي آية أصولها في الملأ الأعلى ) أي في الله، ص 75 .
و من أقواله أيضاً: أن ( الله خلق العربي على صورته ) المصدر السابق ص- 60 – .
وما عدا هذا وذاك فقد ساهم هذا المنظر في ترسيخ ثقافة البطل في الخطاب القومي – السياسي في المجتمع العربي، والبطولة تتجسد لديه بالنبي أوالزعيم الأوحد، فالنبوة أصالة في المعرفة، والبطل أصالة في العمل، فيقول في كتابه الاول العبقرية العربية : ( ولئن تفتح هذا النظام كاملاً في النبوة، فالبطل أيضاً بإرادته يوقف سير القدر، ويبعث بكافة هذه القيم في نفسه المتفتحة بهذا الاستجمام… الخ.) ج1- ص 188 .
والزعيم أوالبطل هو أول من تشرق في نفسه أنوار المعنى بقوله (… فالصورة الحية للزعيم الكبش إذ ينقل الى القطيع الهيجان الحاصل له عند رؤيته الذئب بطريق المحاكاة والعدوى، وهكذا ينقل الزعيم إلى الآخرين الشعور بالروعة الذي حصل عليه في نفسه لدى بزوغ الآية المجلى والمثل ( العنب لرؤية بعضه بعضاً يسود)، ليس إلا الحدس في العلاقة المزدوجة بين الجمهور والزعيم….الخ وهكذا نرى أن الأفكار القومية المستوردة من أوربا بشكلها الفج والتي آمن بها منتسبوا حزب البعث، لم يستطيعوا تجسيدها على أرض الواقع إلا بأكثر أشكالها الإنزياحية سوءاً.
أما في معرض تعريفه للقومية فيقول الأرسوزي : ( أما كلمة قومية فتعني، حسب اشتقاقها اللغوي، قيام ذوي القربى للدفاع عن حقيقتهم المشتركة، عن تراثهم ومثلهم العليا……..فالقومية تدل على الشعور بالقرابة والعمل بمقتضاها) .
وبتحليل هذا القول وتفكيكه سوف نتوصل إلى عدة نتائج.
فلو تأملنا عبارة ذوي القربى، نراها تدل – وبكل بساطة – إلى ( رابطة الدم )، وأبناء الملة الواحدة.
فالقومية العربية لدى الأرسوزي تعني شعب عربي موحد الدم لادخلاء بينه ، وهوما يشبه في مرتكزاته الأساسية الأفكار النازية الألمانية تماماً التي نادت بنقاوة العرق الألماني دون سائر الأعراق الأخرى في العالم، ويؤدي إلى نوع من الإفتئات على حقوق الأقليات والشعوب التي تعيش جنباً إلى جنب مع أخوتهم العرب، والعبارة تخالف مقولة العروبة انتماء، كما تخالف حتى المفهوم الكوسموبوليتي للإسلام عن الروابط والمرتكزات التي تجمع بين الشعوب المتآخية – رغم الصبغة الدينية لشخصية الأرسوزي.
و يرى الأرسوزي أن على أفراد الشعب التحرك للدفاع عن تراثهم ومثلهم العليا، تجمعهم في ذلك وحدة الآمال والآلام، وكلمة التراث هنا هي الأكثر خطورة على الصعيد الفكري – السياسي بشكل خاص، وهي الإشكالية الأكثر إثارة في هذا التعريف، وبها سيتم ترسيخ ثقافة موروثة تكمن – كما رأينا – في عبادة البطل الفرد والزعيم الأوحد، الأمر الذي يدل على أن مفهوم الأرسوزي عن القومية يبدأ من التراث الأموي المتعصب للعروبة دون الإسلام، نقول دون الإسلام لأن الخلفاء الأمويون، كانوا طغاة في حكمهم وهو ما لايوافق الإسلام في شيء، بدليل أن الحسين بن علي (ر) حينما مات معاوية قال لأصحابه: (أرى أن طاغيتهم قد هلك) فوصفه بالطاغية ولم يترحم عليه.
ومسلك هؤلاء الطغاة هو الذي يعنيه الأرسوزي بالتراث والمثل العليا، ولذلك توضحت لدينا الآن وخلال جمل قليلة – وبما فيه الكفاية – حقيقة الإرث السياسي الذي يتخذه البعض من المثقفين ودعاة القومية العربية قدوة لهم حتى يومنا هذا، وفي هذا يقول محمد عابد الجابري ( فالمثقف العربي، كان منذ العصر الأموي، ولايزال إلى اليوم يعيش صراع الماضي متداخلاً مع أنواع الصراعات الأخرى التي يشهدها حاضره) – تكوين العقل العربي – ص- 45 .
ولهذا فلاتزال الشعوب العربية تتحمل تبعات واستحقاقات ماض قوموي – سياسي متوارث خطي المسار كان قد تجذرت دعائمه منذ بداية الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية، إلى الخلافة العثمانية، التي انضوى العرب مع الشعوب الإسلامية الأخرى تحت راياتها ردحاً من الزمن، وانتهاء بالحكومات الراديكالية القوموية حتى اليوم.
وقد تجلى هذا الماضي الطويل في عدة عوامل.
1 – الإرث السياسي والإداري للخلافتين الأموية والعباسية،
2- الصراع مع الإستعمار والصهيونية واغتصاب فلسطين بشكل مأساوي
3- الحماس الزائد لفكرة دولة الوحدة التي انتشرت بين صفوف شباب خمسينيات القرن الماضي، وهم ينادون بالوحدة كطريق وحيد لتشكيل دولة قومية عظمى كمقدمة لتحرير فلسطين، والعودة إلى أمجاد الأمة العربية الغابرة
4– الوجود الإسرائيلي في فلسطين والتدخلات الإستعمارية، وفرا ركائزة أساسية للحكام الإنقلابيين للتحول نحو إيديولوجية القمع للحفاظ على كراسي الحكم، تحت شعارهم الشهير معاداة الإمبريالية والصهيونية، أي أنهم كانوا يرمون عصفورين بحجر واحد، فهم وطنيون يعادون أعداء العرب الخطيرين من جانب، وبه يتمسكون بكراسيهم من جانب آخر.
5- العلاقة الجدلية بين خواء الخطاب الفكري – القومي وتخلف المجتمع العربي، أدت إلى تقوقع واستغلاق الوعي القومي ضمن فضاءات مسقوفة ومحددات ضيقة الأطر، أدت بدورها إلى ما يلي:
أ – ثقافة النبي المنقذ، أو القائد الضروة، والزعيم الأوحد، وشعارات القومويين ومنظريهم، مثل ساطع الحصري وزكي الأرسوزي…الخ .
وقد رأينا كيف اعتبر هذا الأخير أن العرب هم شعب الله المختار (ولكني أنزه دوماً الشعب العربي المجيد ومثقفيه الشرفاء من تبعات هذه الأفكار التي لايتحمل عواقبها سوى أصحابها وحدهم).
ب – تغييب الآخر وتذويبه في بوتقة الاكثرية حسب تفكير الشريحة القوموية، حيث لا وجود للأقليات والشعوب بينهم، وإن وجدت فيجب أن تنصهر وتذاب، في الوقت الذي يرفعون فيه أصواتهم بحق تقرير المصير للشعوب الأخرى، ولكن شرط أن يكونوا خارج الأرض العربية، وهذا أيضاً نوع من ازدواجية المعايير في الخطاب القوموي العربي الحديث.
ج- التكفير وهدر دماء المسلمين الأبرياء من قبل القومويين المتأسلمين (أطفال حي المحيا في السعودية، والشرطة العراقية ومن يسقطون من العراقيين الأبرياء بالسيارات المفخخة وبغيرها) مثلاً، بحجة تعاملهم مع الأمريكان والغرب، وهو ما يناقض صراحة قول الرسول (ص) في حديثه الشريف ما معناه: (لايحل دم امريء إلا لثلاث، المرتد عن دينه المفارق لجماعته، والثيب الزاني، والقتل العمد).
فالأرسوزي يكون قد رسخ بجلاء ثقافة حكم البطل، كما رأينا.
أما الشعور بالقرابة الوارد في تعريفه الآنف الذكر، فيستوجب – بناء عليه – استماتة الفرد في الدفاع عن أخوته العرب وعن أرضهم وأوطانهم، وليس لإهدار دمهم وإباتهم، فالقريب لاينزف دم قريبه إلا بالحق، بل سيكون له دوماً سنداً وعوناً، ولكن على الساحات التي تنهج الحكم القومي، نرى الأمر بخلاف ذلك تماماً، فقد فتك الحكام القومويون بأبناء جلدتهم ولم يسلم منهم حتى أقاربهم ورفاقهم القوميين أنفسهم، إذاً هناك خلل وإشكالية تكمن في إزدواجية وحتى تذرر المعايير القومية – الأخلاقية، وغياب المنهجية في التفكير العلمي، وطغيان الإنفعالية على العقلية، في هذا الخطاب المهزوز أصلاً والذي لايمكن اعتباره – وكما قلنا – قومياً بالمفهوم العلمي للقومية.
وبعبارة أوضح نقول: ترفع بعض الدول العربية التي تنادي بالقومية الشعارين، أمة عربية واحدة .
ذات رسالة خالدة( أي ذات رسالة إنسانية خالدة)، وشعار حدة – حرية – اشتراكية، لكن لم نلمس – في الحقيقة – تحقيق أي من الشعارين على أرض الواقع، طيلة أربعة عقود من حكم البعث في كل من سوريا والعراق، وفي باقي الدول التي حملت مثلهما لواء القومية العربة، فلا الإنسانية وجدت، ولاالوحدة تحققت حتى بين البعثين السوري والعراقي المنادييين بالوحدة العربية! وبالعكس، فتحت مقولة الإنسانية الواردة في ذلك الشعار البراق، حدثت مذابح جماعية، وكانت الوحدة تجزئة، والحرية فوضى، والإشتراكية انزاحت نحو القمع والديكتاتورية، ولهذا قلنا في بداية كلامنا، أن البلاد العربية لن تمر حتى الآن بمرحلة القومية الحقة، بل لازالت تراوح فيما أسميناه بمرحلة ( ماقبل القومية) والتي هي مزيج من العشائرية والطائفية الغالبة والقوموية المغلوبة، كما يحدث في العراق الآن وبعد ما يقارب الثلاثة عقود من حكم البعث فيه.
وكنتيجة للعوامل السابقة الذكر وللأفكار الأرسوزية الأقنومية الطابع، باتت الشعوب العربية اليوم مترنحة تحت وطأة جذور كاريزما إيديولوجية انزياحية ومزاجية التطبيق، أشبه بفروة ذاك الآغا الكردي، الذي حينما سأله أتباعه عن (البخت) أوالضمير، قال: ( البخت فروة إلبسها في الشتاء وانزعها في الصيف).
وهذا هو حال القومية في أوساط القومويين العرب، فهي أشبه بفروة ذاك الآغا والتي هي ضميره في نفس الوقت، وبهذا أثبتت الإيديولوجيات القومية، والإشتراكية، والدينية المتطرفة، وبجلاء فشلها على الساحة السياسية العربية، وبدت جميعها متناقضة مع الخصائص الراهنة للمجتمع العربي، ناقصة التكوين ومراوحة، تتصف بالجمود والتحجر في طروحاتها وأهدافها، مما أدى إلى ظهور ديكتاتوريات حاكمة وعنيفة أفسدت بعنصريتها وعنجهيتها أذواق شرائح واسعة من المجتمع العربي مثقفين وعواماً، ممن استجابوا وتأثروا بسلوكيات وشعارات هؤلاء المتاجرين بالقومية من مسؤولي ومنتسبي الأحزاب القوموية العربية، الذين تشبعوا على إثرها بروحية من الإنتهازية والشوفينية المنفلتة من عقالها، امتازت بإلغاء الآخر وقمعه، ومصادرة حريته تحت حجج ومسميات شتى، ومنعه من ممارسة أبسط حقوقه القومية والمدنية، لا بل درج القومويون إلى صهر وإذلال الشعوب والأقليات الوطنية، التي تعيش في أوطانها وأراضيها مخلصة لقضايا البلدان التي تعيش فيها وهي في نفس الوقت بلدانها وأوطانها، مما أدى إلى ما نشاهده اليوم على الساحة العربية من إنتفاضات وثورات داخلية ومجازر وتدخلات خارجية.
وهنا لاأرى أن الأمة العربية على أيدي هذه الثلة من القومويين – وحسب نظرية الأرسوزي ذاته – في حالة من الدفاع عن النفس أبداً، بل هناك دفاع عن أبطال إسطوريين من الحكام الذين رفعوا إلى مصاف الآلهة، في عهد دخل العالم فيه عهد الديموقراطيات و(الكومبيوتر) والأقمار الصناعية وغزو الفضاء، بينما شدد اأبطال الحكام النكير على الفرد العربي، فأصبح يخاف حكامه بأكثر مما يخاف ربه، حتى توزعت تماثيل الحكام وصورهم البائسة في الشوارع والساحات العامة، كأصنام تعبد، وتحول أتباعهم أيضاً من حولهم إلى كهنة وقديسين، ألم يصرح صدام حسين، في أحد الإجتماعات الحزبية قبل سقوط حكمه ونشرته فضائية الجزيرة منذ فترة قائلاً ( إن حصانة أي بعثي، هي أكبر من حصانة عمر بن الخطاب نفسه!).
فإذا كان بعثي جلف يتمتع بقدسية مثل قدسية (عمر) وهو الخليفة الثاني للمسلمين، بل وأكثر منه قدسية بكثير، فحينها من سيكون صداماً ياترى ؟ ألا يكون الرجل عندها إلاهاً أرضياً .
…………………………………………………….
فأساؤا بذلك إساءة بالغة لسمعة هذه الأمة المجيدة وتاريخها الحضاري العريق، ووقفوا حجرة عثرة في وجه طموحاتها وآمالها، حتى أوصلواها إلى طرق شبه مسدودة، قد لايكون الخروج منها سهلاً أبداً، شأنها في ذلك شان الإسلام الحنيف الذي تهتك على أيدي ثلة من أتباعه المتأسلمين، الذين جعلوا بسياراتهم المفخخة، وتحت حجج شعاراتهم الدينية، أطفال العراق ونسائه وشيوخه أشلاء ممزقة، فما هكذا تورد الإبل أيها السادة!.
وجاء ترسيخ هذه الأفكار على أيدي عدد ممن يعتبرون اليوم رواداً للقومية العربية والذين تأثروا بالمفاهيم والشعارات الأوربية حول الأمة والقومية، وأظهر هؤلاء الرواد فيما بعد أنهم، لم يكونوا على مستوى المسؤولية التي حملوها على عاتقهم، فمالوا بأفكارهم نحو مزيد من التعصب والإستعلاء القومي، متأثرين بشكل كبير بالنظريات الأوربية الوافدة كالنازية والفاشية، ومنهم الديك المفلفل (زكي الارسوزي) كما سمى هو نفسه، وهو منظر حزب البعث ونبيه الموحى إليه، وقد نعت الأرسوزي في كتاباته العرب بأنهم شعب الله المختار، اختارهم الله لحمل رسالته كالمفهوم اليهودي تماماً، وأن اللغة العرية منزل من الملأ الأعلى فيقول: ( والعربية هي لسان آدم الذي علمه الأسماء كلها والأسماء منزلة من السماء ) المعرفة – 468 – 51
ويقول : أن ( العربي سيد القدر) نفس المصدر السابق.
وفي معرض كلامه عن الأمة العربية يقول الأرسوزي ( الأمة العربية ليست وضعاً عاماً نشأ في التاريخ بل هي آية أصولها في الملأ الأعلى ) أي في الله، ص 75 .
و من أقواله أيضاً: أن ( الله خلق العربي على صورته ) المصدر السابق ص- 60 – .
وما عدا هذا وذاك فقد ساهم هذا المنظر في ترسيخ ثقافة البطل في الخطاب القومي – السياسي في المجتمع العربي، والبطولة تتجسد لديه بالنبي أوالزعيم الأوحد، فالنبوة أصالة في المعرفة، والبطل أصالة في العمل، فيقول في كتابه الاول العبقرية العربية : ( ولئن تفتح هذا النظام كاملاً في النبوة، فالبطل أيضاً بإرادته يوقف سير القدر، ويبعث بكافة هذه القيم في نفسه المتفتحة بهذا الاستجمام… الخ.) ج1- ص 188 .
والزعيم أوالبطل هو أول من تشرق في نفسه أنوار المعنى بقوله (… فالصورة الحية للزعيم الكبش إذ ينقل الى القطيع الهيجان الحاصل له عند رؤيته الذئب بطريق المحاكاة والعدوى، وهكذا ينقل الزعيم إلى الآخرين الشعور بالروعة الذي حصل عليه في نفسه لدى بزوغ الآية المجلى والمثل ( العنب لرؤية بعضه بعضاً يسود)، ليس إلا الحدس في العلاقة المزدوجة بين الجمهور والزعيم….الخ وهكذا نرى أن الأفكار القومية المستوردة من أوربا بشكلها الفج والتي آمن بها منتسبوا حزب البعث، لم يستطيعوا تجسيدها على أرض الواقع إلا بأكثر أشكالها الإنزياحية سوءاً.
أما في معرض تعريفه للقومية فيقول الأرسوزي : ( أما كلمة قومية فتعني، حسب اشتقاقها اللغوي، قيام ذوي القربى للدفاع عن حقيقتهم المشتركة، عن تراثهم ومثلهم العليا……..فالقومية تدل على الشعور بالقرابة والعمل بمقتضاها) .
وبتحليل هذا القول وتفكيكه سوف نتوصل إلى عدة نتائج.
فلو تأملنا عبارة ذوي القربى، نراها تدل – وبكل بساطة – إلى ( رابطة الدم )، وأبناء الملة الواحدة.
فالقومية العربية لدى الأرسوزي تعني شعب عربي موحد الدم لادخلاء بينه ، وهوما يشبه في مرتكزاته الأساسية الأفكار النازية الألمانية تماماً التي نادت بنقاوة العرق الألماني دون سائر الأعراق الأخرى في العالم، ويؤدي إلى نوع من الإفتئات على حقوق الأقليات والشعوب التي تعيش جنباً إلى جنب مع أخوتهم العرب، والعبارة تخالف مقولة العروبة انتماء، كما تخالف حتى المفهوم الكوسموبوليتي للإسلام عن الروابط والمرتكزات التي تجمع بين الشعوب المتآخية – رغم الصبغة الدينية لشخصية الأرسوزي.
و يرى الأرسوزي أن على أفراد الشعب التحرك للدفاع عن تراثهم ومثلهم العليا، تجمعهم في ذلك وحدة الآمال والآلام، وكلمة التراث هنا هي الأكثر خطورة على الصعيد الفكري – السياسي بشكل خاص، وهي الإشكالية الأكثر إثارة في هذا التعريف، وبها سيتم ترسيخ ثقافة موروثة تكمن – كما رأينا – في عبادة البطل الفرد والزعيم الأوحد، الأمر الذي يدل على أن مفهوم الأرسوزي عن القومية يبدأ من التراث الأموي المتعصب للعروبة دون الإسلام، نقول دون الإسلام لأن الخلفاء الأمويون، كانوا طغاة في حكمهم وهو ما لايوافق الإسلام في شيء، بدليل أن الحسين بن علي (ر) حينما مات معاوية قال لأصحابه: (أرى أن طاغيتهم قد هلك) فوصفه بالطاغية ولم يترحم عليه.
ومسلك هؤلاء الطغاة هو الذي يعنيه الأرسوزي بالتراث والمثل العليا، ولذلك توضحت لدينا الآن وخلال جمل قليلة – وبما فيه الكفاية – حقيقة الإرث السياسي الذي يتخذه البعض من المثقفين ودعاة القومية العربية قدوة لهم حتى يومنا هذا، وفي هذا يقول محمد عابد الجابري ( فالمثقف العربي، كان منذ العصر الأموي، ولايزال إلى اليوم يعيش صراع الماضي متداخلاً مع أنواع الصراعات الأخرى التي يشهدها حاضره) – تكوين العقل العربي – ص- 45 .
ولهذا فلاتزال الشعوب العربية تتحمل تبعات واستحقاقات ماض قوموي – سياسي متوارث خطي المسار كان قد تجذرت دعائمه منذ بداية الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية، إلى الخلافة العثمانية، التي انضوى العرب مع الشعوب الإسلامية الأخرى تحت راياتها ردحاً من الزمن، وانتهاء بالحكومات الراديكالية القوموية حتى اليوم.
وقد تجلى هذا الماضي الطويل في عدة عوامل.
1 – الإرث السياسي والإداري للخلافتين الأموية والعباسية،
2- الصراع مع الإستعمار والصهيونية واغتصاب فلسطين بشكل مأساوي
3- الحماس الزائد لفكرة دولة الوحدة التي انتشرت بين صفوف شباب خمسينيات القرن الماضي، وهم ينادون بالوحدة كطريق وحيد لتشكيل دولة قومية عظمى كمقدمة لتحرير فلسطين، والعودة إلى أمجاد الأمة العربية الغابرة
4– الوجود الإسرائيلي في فلسطين والتدخلات الإستعمارية، وفرا ركائزة أساسية للحكام الإنقلابيين للتحول نحو إيديولوجية القمع للحفاظ على كراسي الحكم، تحت شعارهم الشهير معاداة الإمبريالية والصهيونية، أي أنهم كانوا يرمون عصفورين بحجر واحد، فهم وطنيون يعادون أعداء العرب الخطيرين من جانب، وبه يتمسكون بكراسيهم من جانب آخر.
5- العلاقة الجدلية بين خواء الخطاب الفكري – القومي وتخلف المجتمع العربي، أدت إلى تقوقع واستغلاق الوعي القومي ضمن فضاءات مسقوفة ومحددات ضيقة الأطر، أدت بدورها إلى ما يلي:
أ – ثقافة النبي المنقذ، أو القائد الضروة، والزعيم الأوحد، وشعارات القومويين ومنظريهم، مثل ساطع الحصري وزكي الأرسوزي…الخ .
وقد رأينا كيف اعتبر هذا الأخير أن العرب هم شعب الله المختار (ولكني أنزه دوماً الشعب العربي المجيد ومثقفيه الشرفاء من تبعات هذه الأفكار التي لايتحمل عواقبها سوى أصحابها وحدهم).
ب – تغييب الآخر وتذويبه في بوتقة الاكثرية حسب تفكير الشريحة القوموية، حيث لا وجود للأقليات والشعوب بينهم، وإن وجدت فيجب أن تنصهر وتذاب، في الوقت الذي يرفعون فيه أصواتهم بحق تقرير المصير للشعوب الأخرى، ولكن شرط أن يكونوا خارج الأرض العربية، وهذا أيضاً نوع من ازدواجية المعايير في الخطاب القوموي العربي الحديث.
ج- التكفير وهدر دماء المسلمين الأبرياء من قبل القومويين المتأسلمين (أطفال حي المحيا في السعودية، والشرطة العراقية ومن يسقطون من العراقيين الأبرياء بالسيارات المفخخة وبغيرها) مثلاً، بحجة تعاملهم مع الأمريكان والغرب، وهو ما يناقض صراحة قول الرسول (ص) في حديثه الشريف ما معناه: (لايحل دم امريء إلا لثلاث، المرتد عن دينه المفارق لجماعته، والثيب الزاني، والقتل العمد).
فالأرسوزي يكون قد رسخ بجلاء ثقافة حكم البطل، كما رأينا.
أما الشعور بالقرابة الوارد في تعريفه الآنف الذكر، فيستوجب – بناء عليه – استماتة الفرد في الدفاع عن أخوته العرب وعن أرضهم وأوطانهم، وليس لإهدار دمهم وإباتهم، فالقريب لاينزف دم قريبه إلا بالحق، بل سيكون له دوماً سنداً وعوناً، ولكن على الساحات التي تنهج الحكم القومي، نرى الأمر بخلاف ذلك تماماً، فقد فتك الحكام القومويون بأبناء جلدتهم ولم يسلم منهم حتى أقاربهم ورفاقهم القوميين أنفسهم، إذاً هناك خلل وإشكالية تكمن في إزدواجية وحتى تذرر المعايير القومية – الأخلاقية، وغياب المنهجية في التفكير العلمي، وطغيان الإنفعالية على العقلية، في هذا الخطاب المهزوز أصلاً والذي لايمكن اعتباره – وكما قلنا – قومياً بالمفهوم العلمي للقومية.
وبعبارة أوضح نقول: ترفع بعض الدول العربية التي تنادي بالقومية الشعارين، أمة عربية واحدة .
ذات رسالة خالدة( أي ذات رسالة إنسانية خالدة)، وشعار حدة – حرية – اشتراكية، لكن لم نلمس – في الحقيقة – تحقيق أي من الشعارين على أرض الواقع، طيلة أربعة عقود من حكم البعث في كل من سوريا والعراق، وفي باقي الدول التي حملت مثلهما لواء القومية العربة، فلا الإنسانية وجدت، ولاالوحدة تحققت حتى بين البعثين السوري والعراقي المنادييين بالوحدة العربية! وبالعكس، فتحت مقولة الإنسانية الواردة في ذلك الشعار البراق، حدثت مذابح جماعية، وكانت الوحدة تجزئة، والحرية فوضى، والإشتراكية انزاحت نحو القمع والديكتاتورية، ولهذا قلنا في بداية كلامنا، أن البلاد العربية لن تمر حتى الآن بمرحلة القومية الحقة، بل لازالت تراوح فيما أسميناه بمرحلة ( ماقبل القومية) والتي هي مزيج من العشائرية والطائفية الغالبة والقوموية المغلوبة، كما يحدث في العراق الآن وبعد ما يقارب الثلاثة عقود من حكم البعث فيه.
وكنتيجة للعوامل السابقة الذكر وللأفكار الأرسوزية الأقنومية الطابع، باتت الشعوب العربية اليوم مترنحة تحت وطأة جذور كاريزما إيديولوجية انزياحية ومزاجية التطبيق، أشبه بفروة ذاك الآغا الكردي، الذي حينما سأله أتباعه عن (البخت) أوالضمير، قال: ( البخت فروة إلبسها في الشتاء وانزعها في الصيف).
وهذا هو حال القومية في أوساط القومويين العرب، فهي أشبه بفروة ذاك الآغا والتي هي ضميره في نفس الوقت، وبهذا أثبتت الإيديولوجيات القومية، والإشتراكية، والدينية المتطرفة، وبجلاء فشلها على الساحة السياسية العربية، وبدت جميعها متناقضة مع الخصائص الراهنة للمجتمع العربي، ناقصة التكوين ومراوحة، تتصف بالجمود والتحجر في طروحاتها وأهدافها، مما أدى إلى ظهور ديكتاتوريات حاكمة وعنيفة أفسدت بعنصريتها وعنجهيتها أذواق شرائح واسعة من المجتمع العربي مثقفين وعواماً، ممن استجابوا وتأثروا بسلوكيات وشعارات هؤلاء المتاجرين بالقومية من مسؤولي ومنتسبي الأحزاب القوموية العربية، الذين تشبعوا على إثرها بروحية من الإنتهازية والشوفينية المنفلتة من عقالها، امتازت بإلغاء الآخر وقمعه، ومصادرة حريته تحت حجج ومسميات شتى، ومنعه من ممارسة أبسط حقوقه القومية والمدنية، لا بل درج القومويون إلى صهر وإذلال الشعوب والأقليات الوطنية، التي تعيش في أوطانها وأراضيها مخلصة لقضايا البلدان التي تعيش فيها وهي في نفس الوقت بلدانها وأوطانها، مما أدى إلى ما نشاهده اليوم على الساحة العربية من إنتفاضات وثورات داخلية ومجازر وتدخلات خارجية.
وهنا لاأرى أن الأمة العربية على أيدي هذه الثلة من القومويين – وحسب نظرية الأرسوزي ذاته – في حالة من الدفاع عن النفس أبداً، بل هناك دفاع عن أبطال إسطوريين من الحكام الذين رفعوا إلى مصاف الآلهة، في عهد دخل العالم فيه عهد الديموقراطيات و(الكومبيوتر) والأقمار الصناعية وغزو الفضاء، بينما شدد اأبطال الحكام النكير على الفرد العربي، فأصبح يخاف حكامه بأكثر مما يخاف ربه، حتى توزعت تماثيل الحكام وصورهم البائسة في الشوارع والساحات العامة، كأصنام تعبد، وتحول أتباعهم أيضاً من حولهم إلى كهنة وقديسين، ألم يصرح صدام حسين، في أحد الإجتماعات الحزبية قبل سقوط حكمه ونشرته فضائية الجزيرة منذ فترة قائلاً ( إن حصانة أي بعثي، هي أكبر من حصانة عمر بن الخطاب نفسه!).
فإذا كان بعثي جلف يتمتع بقدسية مثل قدسية (عمر) وهو الخليفة الثاني للمسلمين، بل وأكثر منه قدسية بكثير، فحينها من سيكون صداماً ياترى ؟ ألا يكون الرجل عندها إلاهاً أرضياً .
…………………………………………………….