((نخوة الجُـود العارِض)) حول (استلام الكرد مناطقهم الكردية)

خالد جميل محمد


– من الداخل السوري لا من الخارج-
لا يجهل عاقل ولا يغفل مُبصِرٌ أن الكرد السوريين عانوا أمرَّ العذابات وأقسى سياسات البطش والتنكيل والإقصاء من الأنظمة السورية المتعاقبة حتى هذه اللحظة الحاسمة من الثورة، حيث ثارت فيها، عرَضاً، (نخوة الجود والكرَم)، فأخذ النظام يعرض على الكرد سخاءَه بمناطقهم لأن يعلنوا استيلاءهم عليها، وإدارتها بأي طريقة أو شكل يريدون! إضافة إلى (السماح) لهم برفع الأعلام الكردية على الأبنية والحواجز والمؤسسات التي يعرف الكرد أنهم، بسبب كرديتهم، لاقوا إهانات ومعاملات لا تُـنْسى، وهو سماح وراءه نوايا يدركها أبسط سياسي كردي، وأصغر شاب في تنسيقيات الثورة،
فبعد أن كان عناصر الأمن والمقربين منهم وأتباعهم وأتباع أتباعهم، يرون في ألوان (إشارات المرور الموحية بالأخضر والأحمر والأصفر) وفي ألوان بالونات الأطفال في الأعياد، وشارات الدراجات الهوائية الملونة، وقبعات التلميذات الصغيرات خطراً على (سلامة الوطن وأمنه) من جهة الكرد (الانفصاليين في الشمال) كما كان يُــزعَم حينها! وخاصة بعد انتفاضة آذار (2004) حتى جاء اليوم الذي حدثت فيه طفرة تاريخية مكشوفة الأبعاد نتيجة (الكرم) المبالغ فيه إلى حدّ التخلي للكرد عن مناطقَ بأكملها! وعن دوائرَ بأكملها! وعن حواجزَ بأكملها!.
(نخوة الجود العارضة) هذه لم يعهدها الكرد من أصحابها إلا عندما أراد هؤلاء بــــ (كرَمهم المفاجئ) أن يُوقِعوا بين أطياف المجتمع السوري المتضافرة تضافرَ جدائل الفتيات الكرديات والعربيات والآشوريات، وخاصة في المناطق التي سُعيَ إلى إغراء الكرد بالاستيلاء عليها، وكأنها مشاعٌ (!) يتم توزيعه بمزاجيات الأشخاص، لا بقانون دولة تقوم على مؤسسات وبرلمان ، وكأن الدولةَ بدأت تفقد الطبيعةَ القانونية والسياسية لــ (الدولة) بوصفها إطلاقاً قانونياً على هذا الكيان الذي يتصرف فيه الأشخاص بمعزل عن القانون والمؤسسات والبرلمان، دون اعتبار لسياق ثورة تطيح كلَّ أفكار ومخاوف الماضي الغني بصور الخداع التي فهمها الشعب السوري عامة، واستوعبها الكرد بِدِقَّةٍ، فلم ولن يقعوا في فخ (عسلٍ مسموم)، حيث بات أحدث سياسي كردي، وأقلّهم خبرة، يدرك أبعاد هذا (اللطف) الذي لا يتجاوز نوايا ضرب الأطياف السورية والكردية بعضِها ببعضٍ، وخلط الأوراق بطريقة لا تخدم الثورة، بقدر ما تخدم أعداءها.
فالكرد يقرّون أنَّ المناطقَ ذاتَ الأغلبية الكردية، لا تقتصر عليهم وحدهم دون غيرهم من أخوانهم من العرب والكلدوآشوريين والأرمن وغيرهم من ألوان الطيف السوري الذي لن يزيده القهر والعنف وسياسات (الإغراء) إلا تضافراً وتمازجاً وجمالاً.

وهذا (الجود الطارئ) يهدف إلى عزلهم عن الثورة التي هم جزء رئيس منها، إلى جانب أخوانهم السوريين، وهم ليسوا متسوّلين عند أبواب (أصحاب الخيرات) في انتظار التبرع لهم بمناطقهم، تبرعاً (خارقاً للقانون) لا يخفى الهدف منه في سياق ثورة لا بدَّ أن تأتي للسوريين جميعاً بالحقوق والكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة المواطنة التي افتقدوها جميعاً، وإن كان نصيب الكرد من المعاناة أكبر من نصيب أخوانهم الآخرين.
حتى تلاميذُ الصفّ الأول الابتدائي/ الأساسي، من أبناء الكرد، ما كانوا يجهلون أن التكلم بالكردية من المحظورات التي قد تُــلْحِـقُ بهم أو بآبائهم وأمهاتهم وخالاتهم وعمّاتهم وأخواتهم إهاناتٍ تنطبع في ذاكرتهم لتبقى خالدة مخلدة فيها أبدا، فيحكونها، كما نسردها الآن، للأبناء والأحفاد، وإذْ بالكرد يفاجَؤون اليوم، بكرمٍ لم يعهدوا له مثيلاً من قَــبْــلُ على مستوى اسمٍ كردي لوليدٍ حديث كان تسجيله في سجلات دوائر النفوس يسبّبُ إرباكاً وقلقاً لذويه واضطراباً دفع كثيراً من الآباء إلى تحديد النسل تجنباً لمراجعة الجهات المختصة وغير المختصة لهذا السبب ولغيره من الأسباب الكثيرة!
الآن، هنا، في هذا السياق، لا يُدرى أين كان هذا التعاطف مع الكرد مكنوناً؟ أين كانت هذه الهِبات والصدَقاتُ التي يظنُّ أصحابها أن الكرد (عاطفيون وسُذَّج) حتى ينخدعوا بها، إلا أن الوقائع والأحداث والتطورات تثبت كل يوم أن هذا الكرم مرفوض من الكرد ومن تنظيماتهم ومؤسساتهم السياسية والحقوقية في زمن الثورة السورية التي لا بد أن تأتي للكرد بحقوق حرموا منها أمداً طويلاً، وهي لن تكون كرماً من أحدٍ قَــبْلاً أو بَـعداً، إنما هي حقوق يفرضها القانون، وتدعمها المواثيق والعهود الدَّوْلية، وينـــتزعها الكرد بنضالهم السلمي مدعومين من الشرفاء في الوطن السوري الواحد، ومن الشرفاء في العالم كله.
هذا الجود الطارئ مرفوض في زمن جود الثورة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

عدنان بدرالدين   بينما تتجه الأنظار اليوم نحو أنطاليا لمتابعة مجريات المنتدى الدبلوماسي السنوي الذي تنظمه تركيا، حيث يجتمع قادة دول ووزراء خارجية وخبراء وأكاديميون تحت شعار ” التمسك بالدبلوماسية في عالم منقسم”، يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي: ما الذي تسعى إليه أنقرة من تنظيم هذا اللقاء، وهي ذاتها طرف فاعل في العديد من التوترات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية، خصوصًا…

جليل إبراهيم المندلاوي   في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم…

أمجد عثمان   التقيت بالعديد من أبناء الطائفة العلوية خلال عملي السياسي، فعرفتهم عن قرب، اتفقت معهم كما اختلفت، وكان ما يجمع بينهم قناعة راسخة بوحدة سوريا، وحدة لا تقبل الفدرلة، في خيالهم السياسي، فكانت الفدرالية تبدو لبعضهم فكرة دخيلة، واللامركزية خيانة خفية، كان إيمانهم العميق بمركزية الدولة وتماهيها مع السيادة، وفاءً لما نتصوره وطنًا متماسكًا، مكتمل السيادة، لا يقبل…

بوتان زيباري   في قلب المتغيرات العنيفة التي تعصف بجسد المنطقة، تبرز إيران ككيان يتأرجح بين ذروة النفوذ وحافة الانهيار. فبعد هجمات السابع من أكتوبر، التي مثلت زلزالًا سياسيًا أعاد تشكيل خريطة التحالفات والصراعات، وجدت طهران نفسها في موقف المفترس الذي تحول إلى فريسة. لقد كانت إيران، منذ اندلاع الربيع العربي في 2011، تُحكم قبضتها على خيوط اللعبة الإقليمية،…