صلاح بدر الدين
تدعو الكاتبة سميرة المسالمة، في مقالها “مواطنون في دولة سورية… لا مكوّنات ولا أقليات” (“العربي الجديد”، 22/12/2025)، إلى “مجتمع من المواطنين… يتحرّرون من الإرث الثقيل الذي خلفه النظام الأسدي باستعادة دورهم ذواتاً فاعلةً، وبناء الثقة المتبادلة فيما بينهم، من خلال تعريف أنفسهم شعباً واحداً لا مكوّناتٍ ولا أقلياتٍ متفرّقة، وتعزيز هُويَّتهم مواطنين لا رعايا”. وتضيف: “فالجماعات الإثنية، والطائفية، لا يمكنها أن تصبح شعباً في دولة موحّدة… هذا يعني أن الارتهان إلى خطاب المكوّنات أو الأقليات… يفضي إلى تكريس الجماعات الهوياتية على حساب مفهوم المواطنة… عمل نظام الأسد على التعامل معهم (المكوّنات القومية والطائفية) بتنميطهم وفق هُويَّات إثنية وطائفية وتالياً وضع كل جماعة في مواجهة أخرى”. وترى أن “التحدّي أمام القيادة السورية الحالية هو بناء مجتمع المواطنين السوريين الأحرار والمتساوين والمستقلين عن الانتماءات القبلية والطائفية والإثنية والمناطقية والعشائرية”.
قبل كل شيء، من الضروري بمكان التمييز بين “الوجودي التاريخي” و”الحقوقي” في المسألة القومية، وهذه، في حالتنا السورية، تتعلّق بالكرد، وبغيرهم من القوميات الأخرى مثل التركمان، والآشوريين والكلدان والسريان، والأرمن، والإثنيات مثل الشركس، وغيرهم، من جهة، وبين أتباع المذاهب والطوائف مثل العلويين والدروزو الإسماعيليين والشيعة، وهؤلاء ليست لديهم قضية قومية، لأنهم ينتمون إلى القومية العربية السائدة. ولأن صاحب هذه السطور يمارس نضالاً سياسياً وفكرياً وثقافياً في إطار الحركة الوطنية الكردية السورية منذ ستة عقود، مطالباً بانتزاع حقوق شعبه الكردي القومية والثقافية والاجتماعية، وتثبيتها في الدستور، والاعتراف به وجوداً وحقوقاً، معارضاً لنظام البعث، وتعرّض للسجن والملاحقات عقوداً، ومَثَل أمام محكمة أمن الدولة العليا مع رفاقه، فمن واجبه (وحقّه) أن يتصدّى للموضوع الكردي تاركاً مسائل القوميات الأخرى لأصحابها، في حين أن للجميع نصيباً من المظلومية، إلا أن مسألة المذاهب تختلف عن القضية الكردية، وتُحلُّ بالعدالة الاجتماعية، واحترام العقائد. وبكل أسف، خلطت الكاتبة الجميع في سلّة واحدة، ثم بنت على أساس تلك الهفوة المنهجية حكمها السياسي الخاطئ في جوانب مختلفة.
عندما توفّر الدولة الشروط الماديّة لمجمل المجموعات القومية داخلها، تستطيع هذ الجماعات تحقيق وجودها الجماعي من دون الحاجة إلى الصراع على الهيمنة والسيادة
يُفهم من حكم الكاتبة أن أصحاب المظلومية (وفي مقدّمتهم الكرد) يجب أن يُحاسبوا، ويدفعوا الثمن مرة أخرى، وأن يتخلّصوا من الإرث الثقيل، بإعادة تعريف أنفسهم شعباً سورياً لا مكوّنات (!)، أي إنّ على الكردي أن يتطهّر بالتجرّد من قوميته، وبتحوّله إلى سوري مفيد، وإنه لا يمكن أن تكون كردياً ووطنياً في آن، بل يجب أن يتحوّل الكردي إلى عربي لينال شرف المواطنة، وأما في ما يخص العلوي أو الدرزي فإن التحوّل سنّياً هو الطريق إلى الوطنية. والمواطنة الحقّة المتساوية أمر مطلوب وحيوي، ولكنّها لم تتحقّق مثلاً في أوروبا إلا بعد قيام الكيانات الدولتية التي نظّمت العلاقات الاجتماعية، ومنحت الحرية للجميع، واعترفت بالتعدّدية القومية، واحترمت الخصوصيات الثقافية، ورسّخت العدالة والمساواة بين جميع بني البشر على مختلف أطيافهم وألوانهم، ثم ضمنتْ ذلك كلّه بالدساتير والقوانين. فالحقّ ليس على الكرد وغيرهم في سورية، بل الحقّ كلّه على إنكار تعدّدية سورية القومية والثقافية والاجتماعية، واعتبار سورية دولةً بسيطةً لا مركّبة، منذ وضع الدستور الأول للبلاد وانتهاءً بآخر دساتير نظام البعث، وما فعلته الأنظمة والحكومات المتعاقبة لم تكن مخالفةً للدستور في ما يتعلّق بنفي وجود الكرد شعباً، وتجاهل حقوقهم القومية المشروعة، وما ابتكره نظام البعث خلال أكثر من نصف قرن المضي في إلغاء الوجود الكردي عملياً وبالممارسة في ضوء الدستور، عبر التهجير وتغيير التركيب الديمغرافي لمناطقهم، وحرمانهم من حقوق المواطنة. ذلك كلّه (وغيره) تضمّنه تقرير محمد طلب هلال، مدير شعبة الأمن السياسي في القامشلي في ستينيّات القرن الماضي، ثم عضو القيادة القُطرية لحزب البعث، ووزيراً وسفيراً. وأغلب الظنّ أن الكاتبة، بحكم عملها بإعلام النظام المقبور، اطلعت على ذلك التقرير.
هناك في الكرة الأرضية دول عديدة (ومتقدّمة) متعدّدة القوميات والشعوب والأديان والمذاهب، اتفقت فيما بينها على العيش المشترك، والمشاركة الديمقراطية في السلطة والثروة، كلُّ مكوّنٍ يحتفظ بخصوصياته من دون إكراه، ويتشارك الجميع بعد ذلك في الخضوع لدستور الوطن الواحد، والعيش معاً مواطنينَ لتلك الدولة الجامعة. وفي هذه الحالة فقط، تظهر المواطنة بأوضح صورها، وأقدس مظاهرها. أمّا ما تطالب به الكاتبة فعلى العكس تماماً، والنتيجة ستكون المواطنة المُشوَّهة. ليس بالضرورة أن تظهر المواطنة الحقّة في الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ (الأيوبية والنمساوية والعثمانية والسوفييتية) فقط على قاعدة الاعتراف بالتنوّع القومي واحترام الخصوصية بحسب ظروف تلك الأزمنة، بل يمكن تحقيق ذلك في الدول الوطنية أو القومية التي ظهرت ما بعد الحربَيْن العالميَّتَيْن، وهناك قول مأثور لأوتو باور في عام 1867 بخصوص النمسا، إذ اعتبر الإطار الإمبريالي متعدّد القوميات (توجد فيه قوميات مختلفة متجاورة) قاعدةً سياسيةً لتحقيق النضال الطبقيّ. ووفق باور، لا يمكن تحويل النضال الطبقي إلى نضال كوني من خلال إلغاء المجموعة القومية، بل من خلال الإجراء العكسي، أي عندما توفّر الدولة الشروط الماديّة لمجمل المجموعات القومية داخلها، على هذا النحو تستطيع هذ الجماعات تحقيق وجودها الجماعي من دون الحاجة إلى الصراع على الهيمنة والسيادة داخل الدول. وكما تقول حنة أرندت فإنّ “تقسيم شرقي أوروبا العشوائي إلى دول قومية أودع بيد شعوب معيّنة (تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى شعوب دولة) مفاتيح الحكم، بينما تحوّلت شعوب أخرى في تلك اللحظة إلى مكانة أقلية”، وهذا ما حصل للعديد من شعوب منطقتنا مثل الكرد والفلسطينيين والأمازيغ.
أيّد جمال الأتاسي الحقوق المشروعة للكرد السوريين وأعلن أن القضية الكردية السورية قضية عربية أيضاً
ما أحوجنا اليوم في سورية إلى وطنيين ومفكّرين صادقين من أمثال القومي العربي جمال الأتاسي، الذي كان يؤيّد الحقوق المشروعة للكرد السوريين، ويعلن دوماً أن القضية الكردية السورية هي قضية عربية أيضاً، تجب معالجتها بنفس وطني مسؤول، وعلى قاعدة الشراكة، والاعتراف بالوجود والحقوق.
خلقنا أكراداً أولاً، قبل ظهور “الجمهورية السورية” وما زلنا كرداً في “الجمهورية العربية السورية”، وسنبقى كرداً سوريين، ونحن شركاء التاريخ، والمصير، شاركنا في تحرير سورية من الاستعمار، وكذلك في بناء الوطن رغم التمييز والاضطهاد والتجاهل. كانت حركتنا الوطنية الكردية العريقة دائماً وأبداً في وجه الاستبداد ومن أجل التغيير الديمقراطي، وكانت مُعارِضة منذ العهد العثماني، مروراً بمرحلة الانتداب وحقبة نظام البعث المُستبِدّ، وشاركت في الثورة السورية. ورحّبنا بالعهد الجديد ما بعد الاستبداد، ونعتبره امتداداً لكفاح الوطنيين السوريين، ونحن من ضمنهم، وتحقيقاً لأحد أهداف الثورة السورية، وننتظر الخطوات اللاحقة في تحقيق الشراكة، وتسريع العملية السياسية الديمقراطية، وما يتعلّق بالحالة الكردية السورية نقف إلى جانب الحلّ السلمي في مسألة اندماج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الموجودة في مناطقنا في هيكلية مؤسّسات الدولة، وإعادة إدارة الدولة إلى مختلف المناطق، والاتفاق على عقد المؤتمر الكردي السوري الجامع بالعاصمة دمشق، لإقرار المشروع الكردي للسلام، وانتخاب الممثلين الشرعيين للكرد وحركتهم للبدء بالحوار مع الإدارة الانتقالية، لإيجاد الحلّ التوافقي للقضية الكردية في سورية الجديدة، التعدّدية الموحّدة.
=========
العربي الجديد