حين تتحوّل التهمة إلى ستار، كيف استخدمت واشنطن بوست فزّاعة “العلاقة مع إسرائيل” لتغطية صفقة الجولان

د. محمود عباس

ما نشرته واشنطن بوست البارحة، 23/12/2025م، تحت عنوان (كيف تسعى الأنشطة الإسرائيلية السرّية في سوريا إلى عرقلة حكومتها الجديدة) لم يكن كشفًا صحفيًا، بل إعادة تدويرٍ لتهمةٍ قديمة تُستحضر كلما اقتربت لحظة تسوية كبرى على حساب الشعوب. التهمة الجاهزة، الكورد والدروز أدوات إسرائيل.

والحقيقة الأوضح، لا وجود لعلاقة سرّية ولا مشروع تحالف خفي، بل هناك تهمة سياسية بلا دليل، وُظِّفت لتغطية صفقة أكبر وأخطر.

أولًا، لنسقط التهمة من أساسها:

ما يُقال عن “علاقة بين الكورد وإسرائيل” ليس أكثر من ادّعاء، لم تُقدّم له المقالة دليلًا واحدًا قابلًا للتحقق. لا وثيقة، لا اسم، لا مسار تمويل موثّق، ولا قرار سياسي صادر عن أي مؤسسة كوردية. كل ما قُدّم هو همسٌ مجهول المصدر، وأرقام هزيلة، وحكايات لا تصمد أمام أي مساءلة مهنية.

إن كانت العلاقة موجودة كما يُدّعى، فلماذا لم تظهر يوم كانت قوات قسد تحارب داعش نيابةً عن العالم؟

ولماذا لم تُستخدم هذه “العلاقة” لحماية الكورد من التهديدات التركية؟

ولماذا بقي الكورد، سياسيًا وعسكريًا، مرتبطين حصريًا بالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، لا بأي محور آخر؟

الإجابة واضحة، لأن التهمة مختلَقة، وتُستخدم عند الحاجة فقط.

ثانيًا، ما تجاهلته واشنطن بوست عمدًا هو السياق الحقيقي للمقالة:

هذه ليست مقالة ضد “التدخل الإسرائيلي”، بل مقالة لتبرير صمت الحكومة السورية الانتقالية أمام صفقة الجولان، ولتقديم غطاء أخلاقي أمام المكوّن السنّي الداعم لأحمد الشرع.

فما الذي حدث فعلًا؟

حين دُعي أحمد الشرع إلى واشنطن، ودخل البيت الأبيض من الباب الخلفي مع وزير خارجيته، لم يكن ذلك اعترافًا مجانيًا، بل صفقة سياسية واضحة المعالم:

قبول الأمر الواقع في الجولان،

السكوت على ضم الجزء المتبقي منه،

مقابل رفع جزئي للعزلة، وإعادة تعويم السلطة الانتقالية، ومنحها وقتًا إضافيًا للبقاء.

هذه الصفقة كانت بحاجة إلى رواية تبريرية، لا أمام واشنطن، بل أمام جمهور الداخل السنّي، الذي ما زال يُربّى على خطاب “العداء لإسرائيل”.

وهنا يأتي دور المقالة، صرف الأنظار عن التنازل الحقيقي، عبر اختراع خيانة بديلة.

بدل أن يُسأل الشرع، لماذا صمتّ عن الجولان؟

ولماذا لم تُدرج القضية في أي خطاب رسمي؟

ولماذا أصبحت “إسرائيل” غائبة عن قاموس الحكومة الانتقالية؟

جرى تحويل البوصلة نحو الكورد والدروز، باعتبارهم “الخطر الانفصالي” و” الواجهة الإسرائيلية”.

هكذا تُدار الخديعة، تبيع الجغرافيا في الأعلى، وتبحث عن خونة في الأسفل.

 

ثالثًا، لو كانت إسرائيل، كما تزعم المقالة، تسعى فعلًا لتقسيم سوريا عبر الكورد والدروز، لما دعمت أصلًا إسقاط النظام وتسليم دمشق لهيئة تحرير الشام، ولما دخلت في مسار تفاوض مع أحمد الشرع، ولما قبلت ببقاء سلطة مركزية في دمشق.

هذا التناقض وحده كافٍ لإسقاط الرواية برمّتها.

الحقيقة التي تحاول واشنطن بوست القفز فوقها هي أن الدروز والكورد لم يطلبوا إسرائيل، بل طُرِدوا من حماية الدولة.

وحين تُترك المكوّنات بلا ضمانات، يصبح أي إسعاف طبي أو درع واقٍ أو مساعدة إنسانية ذريعة اتهام.

هكذا تُجرَّم النجاة، ويُحوَّل الدفاع عن النفس إلى خيانة.

رابعًا، الأخطر في المقالة ليس اتهام الكورد والدروز فحسب، بل تبييضها الضمني للتكفير السياسي.

فبينما تُدين المقالة “النزعات الانفصالية”، تصمت عن حقيقة أن الحكومة الانتقالية لم تحمِ أحدًا، ولم توقف القتل على الهوية، ولم تُنتج عقدًا وطنيًا جامعًا، بل أعادت إنتاج منطق الإقصاء بوجهٍ سنّي متشدّد.

إن كانت واشنطن بوست حريصة فعلًا على “سوريا الموحّدة”، فالوحدة لا تُبنى بتخوين المكوّنات، ولا بتلفيق علاقات خارجية، ولا بتبرير صفقات تُبرم في واشنطن وتُدفع فواتيرها في السويداء وكوباني والقامشلي.

ما نُشر ليس تحقيقًا، بل ستار دخاني.

ليس دفاعًا عن السيادة، بل تغطية على تنازل.

وليس صحافة، بل مشاركة، واعية أو غير واعية، في إعادة إنتاج الخراب.

وحين تسقط صحيفة كبرى في هذا الامتحان، فإن السؤال لم يعد، من خان سوريا؟

بل، من خان الحقيقة؟

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

24/12/2025م

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدر الدين تدعو الكاتبة سميرة المسالمة، في مقالها “مواطنون في دولة سورية… لا مكوّنات ولا أقليات” (“العربي الجديد”، 22/12/2025)، إلى “مجتمع من المواطنين… يتحرّرون من الإرث الثقيل الذي خلفه النظام الأسدي باستعادة دورهم ذواتاً فاعلةً، وبناء الثقة المتبادلة فيما بينهم، من خلال تعريف أنفسهم شعباً واحداً لا مكوّناتٍ ولا أقلياتٍ متفرّقة، وتعزيز هُويَّتهم مواطنين لا رعايا”. وتضيف: “فالجماعات الإثنية،…

صلاح عمر في لحظة يفترض أن تكون مكرّسة لرأب الصدع الوطني، وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب والاستبداد، يطلّ خطاب الكراهية من جديد، أكثر حدّة ووقاحة، موجّهًا هذه المرّة ضد الكورد في سوريا، كأن التاريخ لم يعلّم أصحابه شيئًا، وكأن البلاد لم تدفع بعدُ ما يكفي من الدم والخراب. هذا الخطاب ليس عابرًا، ولا مجرد انفعالات على منصات التواصل أو…

بنكين محمد في النزاعات المعقّدة، لا تقلّ خطورة الرواية عن الرصاصة، ولا يكون التلاعب بالصور والكلمات أقل فتكًا من القصف. ما شهدناه خلال الأيام الأخيرة في التغطيات الصادرة عن بعض القنوات العربية الكبرى، وعلى رأسها #العربية و#الحدث و#الجزيرة، لا يمكن توصيفه بوصفه “اختلافًا في الزوايا”، بل انحرافًا سياسيًا وإعلاميًا عن معايير المهنية الدولية. لقد جرى تسويق رواية مضلِّلة تتهم الكرد…

زينه عبدي في خضم اللحظة الانتقالية التي تمر بها سوريا، لا يمكن قياس مدى التغيير المسؤول والملموس بالواجهات الجديدة في السلطة الانتقالية والخطابات التي تصدرها يوماً تلو الآخر، وإنما بقدرة الفواعل السياسية على إدارة الملف السياسي السوري بما يناسب السياق السوري الراهن، والسعي لإعادة ترتيب البيت السياسي من جديد وتفتيت ما تبقى من النموذج السابق الذي أودى البلد إلى الكارثة…