سيادة القانون تبدأ بمنع تضخيم الألقاب

عبدالله كدو
(إن لم ترض ببذل الكثير للحصول على القليل، فلا تبدأ).
في إحدى زياراتي للكاتبة الكردية، الأميرة الراحلة روشن بدرخان، في منزلها بمدينة بانياس الساحلية عام 1988، وذلك لصالح مجلة ستير (Stêr ) أي النجمة، الأدبية الكردية ، سمعت من ضيفها، الكردي الدمشقي،العقيد المتقاعد محمد زلفو (ابو جوان)، الذي كان قد تقاعد قبيل تسلم عائلة الاسد الحكم في سوريا ، قصة ما زالت عالقة في ذاكرتي حتى اليوم.
روى أبو جوان أنه شارك ضمن وفد سوري يرافق رئيس الاركان السوري في زيارة رسمية للقاء وزير الدفاع الروسي. كان رئيس الأركان متقلدا نياشين كثيفة تغطي صدره وكتفيه، بخلاف المسؤول الروسي الذي بدا أكثر تواضعا في مظهره ونياشينه. وخلال الاجتماع، طلب المسؤول السوري من مضيفه الروسي الموافقة على تزويد الجيش السوري بصواريخ بعيدة المدى وأسلحة أكثر فاعلية، فردّ الوزير الروسي بهدوء قائلا إن بلاده تتكفل بحماية سوريا وردّ أي عدوان عنها، فلا حاجة لتلك الاسلحة. لكن الضابط السوري ألحَّ في طلبه، وازدادت نبرة صوته وانتفاخ أوداجه. عندئذ التفت إليه الوزير الروسي قائلا:
“هل يمكنك أن تشير بإصبعك إلى موقع سوريا على الخريطة المرسومة على مجسم الكرة الارضية؟”.
ولما اشار الضابط السوري الى موضع بلاده، قال الروسي:
“أترى ان بلدك لا تكاد ترى؟ فهي اصغر من حجم نملة قياسا بالعالم، ثم تريد مني أن أستجيب لطلبك مجازفا بالسلم العالمي؟”.
أتذكّر هذه الحكاية كلما سمعت، وما أزال أسمع، سابقا وراهنا، ممن يستخدمون صيغ متضخمة في تبجيل الرؤساء والمسؤولين. فبينما يكتفي معظم السوريين، سياسيين واعلاميين وغيرهم، بلفظ لقب “الرئيس” قبل اسمه عند ذكر الرؤساء الاجانب، ومنهم رؤساء امريكا والصين وروسيا، وهذا هو المتعارف عليه رسميا على مستوى العالم، كان البعض يضيفون أوصافا وألقابا أخرى متضخمة في مرحلة سلطة بيت الأسد. وفي المناسبات والأعياد كان المسؤولون والموظفون، لدى تبادل التهاني، شبه مجبرين على اتباع صيغة “كل عام والسيد الرئيس بخير وانتم بخير”، حيث كان عدم ذكر كلمة “السيد” قبل اسم الرئيس يعني، لدى جماعة السلطة، بأن المتكلم إما من المعارضة المتشددة أو أنه غير مهذب.
فظاهرة تدبيج صيغ المبالغة من التزلف في تضخيم وتقديس الرئيس ومعاونيه ليست مجرد تفصيل لغوي، بل هي علامة تكشف مستوى احترام مبدأ سيادة القانون، إذ توضع الطبقة العليا من المسؤولين في مرتبة فوق القانون المحلي والعرف الدولي.
وعليه أجد من الضروري منع هذا النوع من التملق في الخطاب الرسمي، قطعاً لسلسلة العبودية المتوارثة والشائعة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح عمر في لحظة يفترض أن تكون مكرّسة لرأب الصدع الوطني، وإعادة بناء ما دمرته سنوات الحرب والاستبداد، يطلّ خطاب الكراهية من جديد، أكثر حدّة ووقاحة، موجّهًا هذه المرّة ضد الكورد في سوريا، كأن التاريخ لم يعلّم أصحابه شيئًا، وكأن البلاد لم تدفع بعدُ ما يكفي من الدم والخراب. هذا الخطاب ليس عابرًا، ولا مجرد انفعالات على منصات التواصل أو…

د. محمود عباس ما نشرته واشنطن بوست البارحة، 23/12/2025م، تحت عنوان (كيف تسعى الأنشطة الإسرائيلية السرّية في سوريا إلى عرقلة حكومتها الجديدة) لم يكن كشفًا صحفيًا، بل إعادة تدويرٍ لتهمةٍ قديمة تُستحضر كلما اقتربت لحظة تسوية كبرى على حساب الشعوب. التهمة الجاهزة، الكورد والدروز أدوات إسرائيل. والحقيقة الأوضح، لا وجود لعلاقة سرّية ولا مشروع تحالف خفي، بل هناك تهمة سياسية…

بنكين محمد في النزاعات المعقّدة، لا تقلّ خطورة الرواية عن الرصاصة، ولا يكون التلاعب بالصور والكلمات أقل فتكًا من القصف. ما شهدناه خلال الأيام الأخيرة في التغطيات الصادرة عن بعض القنوات العربية الكبرى، وعلى رأسها #العربية و#الحدث و#الجزيرة، لا يمكن توصيفه بوصفه “اختلافًا في الزوايا”، بل انحرافًا سياسيًا وإعلاميًا عن معايير المهنية الدولية. لقد جرى تسويق رواية مضلِّلة تتهم الكرد…

زينه عبدي في خضم اللحظة الانتقالية التي تمر بها سوريا، لا يمكن قياس مدى التغيير المسؤول والملموس بالواجهات الجديدة في السلطة الانتقالية والخطابات التي تصدرها يوماً تلو الآخر، وإنما بقدرة الفواعل السياسية على إدارة الملف السياسي السوري بما يناسب السياق السوري الراهن، والسعي لإعادة ترتيب البيت السياسي من جديد وتفتيت ما تبقى من النموذج السابق الذي أودى البلد إلى الكارثة…