صلاح عمر
لم يكن الإعلان الإسرائيلي الأخير عن الممر الإنساني الذي يمتد من الكرمل في الداخل الإسرائيلي وصولاً إلى محافظة السويداء حدثاً عابراً في سياق التحولات السورية والإقليمية. فخلف هذا الإعلان تختبئ مشاريع كبرى تتجاوز حدود البعد الإنساني المعلن، إلى مسار استراتيجي أوسع يُعرف في الأوساط البحثية والسياسية باسم “طريق داوود”، وهو المشروع الذي تسعى إسرائيل إلى وضع لبناته الأولى، بمباركة أمريكية، وإسناد محلي عبر وجوه دينية وسياسية.
الاتفاق الذي جرى توقيعه بين وزير الخارجية أسعد الشيباني، والشيخ موفق طريف، والمبعوث الأمريكي توماس باراك، ووزير الخارجية الإسرائيلي، لم يكن مجرد تفاهم محلي أو إنساني. بل هو، في جوهره، انعطافة تاريخية في إعادة رسم الخرائط والطرق التي تربط إسرائيل بعمق المشرق العربي، وصولاً إلى كردستان سوريا والعراق، ومنها شرقاً إلى آسيا الوسطى، وغرباً نحو المتوسط وأوروبا.
البعد الإنساني كمدخل للاستراتيجية
منذ عقود، تجيد إسرائيل استخدام البعد الإنساني بوصفه الغطاء الأمثل لمشاريعها الاستراتيجية. فالممرات التي تبدأ “للإغاثة” أو “للخدمات الطبية” سرعان ما تتحول إلى شرايين سياسية واقتصادية وأمنية. وفي حالة “ممر داوود”، فإن البعد الإنساني ليس سوى البوابة الأولى لفتح الطريق أمام مشروع ضخم يرمي إلى السيطرة على طرق الطاقة والنقل والتجارة، من منابع النفط والغاز في كردستان سوريا والعراق، وصولاً إلى خطوط التصدير الأوروبية.
الجدار الأمني الذي سيُقام على بُعد عشرة كيلومترات، والمزود بالكاميرات والتيار الكهربائي، والخاضع لإشراف قوات “اليونيفل”، يكشف أن المشروع لم يُصمم كخطوة إغاثية مؤقتة، بل كبنية تحتية دائمة لخط استراتيجي واسع. إن إيكال مهمة الحماية المباشرة لإسرائيل وأمريكا دليل إضافي على الطابع العسكري – الأمني الكامن خلف الواجهة الإنسانية.
التاريخ يعيد نفسه
منذ فجر التاريخ، كانت كردستان الجغرافيا والممر. من الميتانيين الذين بنوا عاصمتهم “واشوكانّي” في قلب الجزيرة السورية، إلى طريق الحرير الذي مرّ من سهولها وجبالها، كانت هذه الأرض دوماً معبراً للقوافل والإمبراطوريات. واليوم، تُستعاد هذه الوظيفة التاريخية في سياق جديد، حيث تتنافس القوى الدولية والإقليمية للسيطرة على الممرات التي تربط منابع الطاقة في الشرق بموانئ المتوسط وأوروبا.
“طريق داوود” ليس إلا امتداداً لهذه الحقيقة التاريخية. إنه سعي لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية بما يخدم مصالح إسرائيل وحلفائها. فالممر الذي يبدأ من الكرمل ويعبر السويداء ليتصل بالقامشلي، ليس معزولاً عن خرائط الطاقة وخطط مد خطوط الأنابيب من كردستان العراق وسوريا إلى المتوسط. الهدف البعيد هو نقل نفط وغاز آسيا الوسطى عبر كردستان سوريا والعراق، وتصديره إلى أوروبا، بعيداً عن النفوذ الروسي والإيراني والتركي.
الجغرافيا السياسية بين الشرق والغرب
في ظل الصراع الروسي–الأمريكي، والأوروبي–الإيراني، والتركي–الكردي، يصبح هذا الممر نقطة ارتكاز لمشروع عالمي.
إسرائيل ترى فيه فرصة استراتيجية للخروج من طوقها الضيق والانفتاح على عمق المشرق.
الولايات المتحدة تعتبره أداة لتطويق روسيا وإيران وقطع الطريق على مشروع “الحزام والطريق” الصيني.
أوروبا تنظر إليه كطوق نجاة يحررها من الابتزاز الروسي في ملف الغاز.
تركيا تشعر بالتهديد لأنها ترى في هذا الممر تجاوزاً لدورها الجغرافي التقليدي كممر وحيد للطاقة نحو الغرب.
إيران تدرك أن هذا الطريق يعزلها ويقوض مشروعها الممتد من طهران إلى بيروت.
أما كردستان سوريا، فهي قلب هذا المشروع ومحوره، ولكنها في الوقت ذاته أكثر المناطق هشاشة وتعقيداً. فهي محاصرة بين مصالح القوى الكبرى، وصراعات الأحزاب الكردية الداخلية، وضغوط النظام السوري، وأطماع تركيا.
القامشلي: عقدة الممر
لم يكن اختيار القامشلي صدفة. فهي المدينة التي تختزن رمزية تاريخية وجغرافية: بوابة على كردستان العراق، وممر نحو دير الزور، ونقطة تماس مع تركيا. بتحويلها إلى عقدة “ممر داوود”، تصبح المدينة مركز ثقل جديد في الجغرافيا السورية – الكردية. لكن هذا الثقل قد يحمل في طياته خطراً مضاعفاً: فالقوى الكبرى لا ترى في القامشلي سوى محطة عبور لمشاريعها، بينما يبقى سكانها الأصليون في موقع المتفرج المهدد بفقدان هويته وقراره.
البعد الكردي: بين الحلم والخديعة
الكرد، الذين ناضلوا لعقود من أجل حقوقهم ووجودهم، يجدون أنفسهم اليوم أمام معضلة تاريخية جديدة. هل يتحولون إلى شركاء فاعلين في مشروع دولي يربط كردستان سوريا والعراق بالمنظومة العالمية للطاقة، أم يقعون في فخ أن يكونوا مجرد “ممر” يمر عبره الآخرون نحو مصالحهم؟
الوعي الكردي يجب أن يستيقظ أمام حقيقة أن اللامركزية الإدارية التي تعرضها دمشق ليست سوى قيد جديد، وأن الفيدرالية التي يناضلون من أجلها قد تُختزل في وظيفة جغرافية تخدم مصالح خارجية. فإذا لم ينجح الكرد في صياغة موقف موحد واستراتيجية متوازنة، فقد يتحول “ممر داوود” إلى طريق فقدان جديد للهوية والقرار، لا إلى جسر نحو التحرر والاستقرار.
إسرائيل و”الإنسانية المدروسة”
منذ تأسيسها، برعت إسرائيل في تحويل المشاريع الإنسانية إلى مشاريع استراتيجية. فالمساعدات الطبية في أفريقيا تحولت إلى نفوذ سياسي، والتعاون الزراعي في آسيا صار جسراً للنفوذ الأمني. واليوم، الممر الإنساني نحو السويداء ليس إلا الوجه المعلن لمشروع يهدف إلى كسر الحدود التقليدية، وإعادة هندسة الشرق الأوسط بما يخدم استراتيجيتها الكبرى.
مفترق طرق تاريخي
“ممر داوود” يضع سوريا، والكرد خصوصاً، أمام مفترق طرق مصيري:
إما أن يتحول إلى فرصة للتكامل الإقليمي، يعيد الاعتبار للجغرافيا السورية والكردية كممر استراتيجي عالمي، بشرط أن يتم بعقد اجتماعي عادل يعترف بحقوق المكونات.
أو أن يصبح وسيلة جديدة لاستغلال هذه الأرض وتحويلها إلى جسر لمشاريع الآخرين، دون أن ينال سكانها سوى الفتات.
الخاتمة: الوعي هو السلاح
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج السوريون والكرد إلى وعي استراتيجي عميق، يدرك أن ما يجري ليس مجرد ممر إنساني، بل مشروع لتغيير وجه المنطقة. “طريق داوود” قد يكون بداية لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، لكنه في الوقت نفسه اختبار لوعي الشعوب. فإذا امتلك الكرد والسوريون رؤية واضحة، واستطاعوا أن يفرضوا شروطهم، فإن هذا الطريق قد يتحول إلى فرصة تاريخية. أما إذا بقوا أسرى الانقسامات والخيارات الضيقة، فسيتحول الطريق إلى ساحة جديدة للفقدان والتبعية.
إن الوعي هو السلاح الوحيد القادر على تحويل “ممر داوود” من مصيدة استراتيجية إلى جسر نحو مستقبل حرّ وعادل، يليق بتضحيات الأجيال، ويضع شعوب المنطقة في موقع الفاعل لا المفعول به.