التضخم الوظيفي والتكاثر السكاني يجرّان العراق نحو الهاوية

كفاح محمود

   في بلد يعاني من قلة المياه، وتغيرات مناخية تهدد الزراعة والحياة، وفساد يلتهم الموازنات، وسوء خدمات يكاد يكون قاعدة لا استثناء، يصرّ صانع القرار على تجاهل قنبلتين موقوتتين تهددان وجود الدولة: التضخم الوظيفي والانفجار السكاني، فقد تحوّل القطاع العام في العراق إلى ملاذ سياسي لتوزيع الغنائم، عبر تعيينات عشوائية لملايين الموظفين، كثير منهم بلا حاجة فعلية أو إنتاجية حقيقية، والنتيجة: أكثر من 70% من الموازنة تذهب لرواتب ونفقات تشغيلية، بينما تتساقط البنية التحتية كأوراق الخريف، وتتراجع الاستثمارات، ويتآكل الإنفاق على التعليم والصحة، هذه الظاهرة لم تعد مجرد خلل إداري، بل أصبحت منظومة مترهلة تخنق أي محاولة للإصلاح، وتغلق أبواب التطوير أمام القطاعين العام والخاص.

   في الوقت نفسه، يواصل عدد السكان القفز سنويًا بأكثر من مليون نسمة، بلا خطة وطنية لضبط الإيقاع أو توجيه النمو، مدارس مكتظة، مستشفيات عاجزة، بطالة خانقة، ومدن تتوسع أفقيًا على حساب الأراضي الزراعية، كل ذلك يجري في وقت يتناقص فيه نصيب الفرد من المياه عامًا بعد عام.

   المعادلة تصبح أكثر خطورة حين نضيف شح المياه وتداعيات التغير المناخي إلى المشهد، فالعراق اليوم يواجه موسمًا بعد آخر جفافًا غير مسبوق، بينما السياسات المائية لدول الجوار تحجب عنه حقوقه التاريخية، ومع تضخم السكان وتضخم الوظائف غير المنتجة، يصبح توفير المياه والغذاء تحديًا وجوديًا يهدد الأمن الوطني.

   ولا يكتمل المشهد الكارثي إلا بالفساد الذي ينخر كل مفصل من مفاصل الدولة، حيث تتحول الموازنات إلى غنائم، والمشاريع الكبرى إلى لافتات بلا مضمون، وفي ظل هذه البيئة، يصبح الحديث عن الإصلاح أو التنمية نوعًا من الترف، بينما الحقيقة أن الدولة تدار بعقلية الإنكار، وكأن المشكلات ستحلّ بنفسها.

   إذا استمرت هذه السياسات، فإن السنوات القادمة ستشهد عجزًا مزمنًا في الموازنة عن تغطية الرواتب والخدمات، وتفاقم البطالة والفقر، وارتفاع معدلات الهجرة، إضافة إلى صراعات على الموارد الشحيحة قد تتحول إلى مواجهات مفتوحة، والحل لا يحتمل التسويف: إعادة هيكلة الجهاز الإداري، وإيقاف التعيينات العشوائية، وإطلاق برنامج وطني لتنظيم الأسرة وربطه بالتنمية والتعليم، وإدارة مائية رشيدة تستعيد الحقوق وتحسن الاستخدام الداخلي، وملاحقة الفساد قضائيًا بلا حصانات سياسية أو طائفية، وفتح أبواب الاستثمار المنتج لخلق فرص عمل خارج القطاع الحكومي.

   العراق اليوم لا يحتاج إلى مزيد من الوعود، بل إلى قرارات جريئة تصطدم بالمصالح الضيقة، وتعيد بناء الدولة على أساس الكفاءة لا الولاء. فالقنابل الموقوتة لا تنتظر، والانفجار حين يقع، لن يترك لأحد رفاهية كتابة البيانات أو تشكيل اللجان.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…

  نظام مير محمدي * شهد البرلمان الأوروبي يوم العاشر من ديسمبر/كانون الأول، الموافق لليوم العالمي لحقوق الإنسان، انعقاد مؤتمرين متتاليين رفيعي المستوى، تمحورا حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في إيران وضرورة محاسبة النظام الحاكم. وكانت السيدة مريم رجوي، الرئيسة المنتخبة للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، المتحدث الرئيسي في كلا الاجتماعين. في الجلسة الثانية، التي أدارها السيد ستروآن ستيفنسون،…

المهندس باسل قس نصر الله بدأت قصة قانون قيصر عندما انشقّ المصوّر العسكري السوري “فريد المذهّان” عام 2013 — والذي عُرف لاحقاً باسم “قيصر” — ومعه المهندس المدني أسامة عثمان والمعروف بلقب “سامي”، حيث نفذ المذهان أضخم عملية تسريب للصور من أجهزة الأمن ومعتقلات نظام الأسد، شملت هذه الصور آلاف المعتقلين بعد قتلهم تحت التعذيب وتعاون الإثنان في عملية…