حوران حم
في زاوية مقهى سياسي صغير، جلس ثلاثة من قادة أحزابنا الكردية حول طاولة خشبية قديمة، والجو مشحون برائحة القهوة الثقيلة.
الأول، بعينين متحمستين، يكرر عبارة “الرؤية المشتركة” وكأنها المفتاح السحري لكل أزماتنا، لكن ملامحه تكشف إدراكه أن هذه الرؤية ما زالت بعيدة.
الثاني يكتفي بترديد عبارة “ظروف المرحلة”، وكأنها مظلة تبرّر كل الإخفاقات.
أما الثالث، فهو غارق في دفتر مواعيده، يدوّن اجتماعات مؤجلة أو ملغاة، في مشهد يعكس انفصالًا كاملًا عن حرارة الواقع.
وعلى الطاولة المجاورة، كان المشهد مختلفًا إلى حد القسوة: رجال يتحدثون عن الأسعار المشتعلة، نساء يشكون من انقطاع الكهرباء والماء، شباب يتهكمون على أحلام العمل والهجرة. لا أحد هنا يذكر “الرؤية المشتركة” أو “ظروف المرحلة”، بل الحديث كله عن الغلاء، والدواء المفقود، والراتب الذي يتبخر قبل منتصف الشهر.
هكذا تبدو الفجوة… لا مجرد مسافة بين الطاولتين، بل شرخ عميق بين عالمين: عالم السياسيين الغارق في شعاراته، وعالم الناس الذين يواجهون الحياة بقلوب مثقلة.
الشعب الكردي لم يصل إلى هذه اللحظة بسهولة. لقد حمل قضيته عبر قرن من النضال، من انتفاضات المدن الكردية إلى معارك الجبال، ومن الدفاع عن الأرض في وجه حملات الإبادة إلى بناء مؤسسات الإدارة الذاتية وسط الحصار والتهديدات. كل بيت كردي تقريبًا دفع ثمنًا؛ شهيدًا أو جريحًا أو مهاجرًا. واليوم، ينتظر هذا الشعب أن يرى ثمرة هذا النضال في حياته اليومية، لا أن تتحول تضحياته إلى شعارات معلقة.
لكن الواقع السياسي يعيد إنتاج الانقسامات القديمة، وإن بأسماء جديدة. تُعقد المؤتمرات تحت عنوان الوحدة، لكن الخلافات تعود فور مغادرة القاعة. تُكتب البيانات باسم “الشعب الكردي”، لكنها تعكس أولويات النخب الحزبية أكثر مما تعبّر عن هموم الشارع.
من هنا، كانت دعوتي — كمبادرة فردية صادقة — إلى وحدة الأحزاب الكردية المتقاربة فكريًا. هذه الوحدة ليست ترفًا سياسيًا يمكن تأجيله، بل شرط بقاء في مرحلة تتكالب فيها الأخطار من كل اتجاه:
أن ننطلق من ملفات الناس لا من الملفات الحزبية الضيقة.
أن نختلف داخل الحزب، لكن نتحدث بصوت واحد أمام الشارع.
أن نفكر كجسم سياسي موحّد، لا كجزر متباعدة.
لكن الحديث عن الوحدة لا يكتمل دون إدراك حجم المخاطر الإقليمية والدولية التي تحيط بنا اليوم. فالتاريخ القريب علّمنا أن أي فراغ في الساحة الكردية تملؤه القوى الخارجية بسرعة، وأن أي انقسام يفتح الباب أمام صفقات تُعقد على حسابنا.
في العراق، رأينا كيف تحوّلت الخلافات الكردية إلى فرصة ذهبية للخصوم، وفي سوريا، كم مرة تراجعت خطواتنا بسبب عدم الاتفاق الداخلي؟
الواقع أن القوى الإقليمية — من أنقرة إلى طهران — لا تنظر إلى الكرد إلا كرقم يجب ضبطه أو تحييده، والقوى الدولية — من واشنطن إلى موسكو — تتعامل معنا أحيانًا كأداة ضغط، لا كشريك استراتيجي ثابت. في هذه المعادلة، يصبح الانقسام الكردي أكبر هدية نقدمها لخصومنا.
لقد أثبت التاريخ أن الكرد، حين اجتمعوا على كلمة واحدة، فرضوا وجودهم حتى في أحلك الظروف، وحين انقسموا، تلاشى صوتهم في ضجيج الآخرين. واليوم، نحن أمام خيار مصيري: إما أن نصوغ وحدتنا ونفرض شروطنا على الطاولة، أو أن ننتظر حتى يكتب الآخرون مصيرنا بأقلامهم.
نداء إلى القيادات والشعب الكردي
إلى قيادات أحزابنا، أقولها بلا مجاملة: التاريخ لن يكتب أسماءكم لأنكم عقدتم اجتماعات أو أصدرتم بيانات، بل لأنه سيذكر من وقف في اللحظة الصعبة واتخذ القرار الجريء بالوحدة والعمل المشترك. من يظن أن بإمكانه الانتظار حتى تتغير الظروف، فليتذكر أن الظروف لا تنتظر أحدًا، وأن كل يوم انقسام هو خطوة أخرى نحو فقدان ما تبقى لنا من قوة.
وإلى الشارع الكردي، أقول: لا تنتظروا من السياسيين أن يصنعوا المعجزة وحدهم، فالقوة الحقيقية تبدأ منكم. طالبوا، ناقشوا، ارفضوا الصمت، وادفعوا نحو أن يكون صوتكم حاضرًا في كل قاعة اجتماع، وفي كل مائدة قرار. أنتم من قدّم الدماء، وأنتم من يملك الحق في أن يحدد الأولويات.
نحن أمام لحظة تاريخية، إما أن نكتبها بأيدينا أو نتركها تكتب بمداد الآخرين. وحدتنا اليوم ليست شعارًا، بل سلاحنا الأخير قبل أن تتحول تضحيات قرن كامل إلى مجرد فصل حزين في كتب التاريخ. فلنلتقِ حول طاولة واحدة، ليس في المقهى السياسي، بل على أرض الواقع، وبين صفوف شعبنا… قبل أن نصبح جميعًا متفرجين على مشهد نهايتنا.