كونفرانس الحسكة ومؤتمر دمشق بين الوطن الجامع والدولة أحادية اللون

د. محمود عباس

في 8 آب/أغسطس 2025، شهدت مدينة الحسكة حدثًا وطنيًا استثنائيًا تمثّل في انعقاد كونفرانس وحدة الصف لمكونات شمال وشرق سوريا، لم يكن مجرد لقاء سياسي أو اجتماع بروتوكولي، بل كان ساحة جامعة عابرة للهويات الضيقة، وصرخة وطنية في وجه كل المشاريع الإقصائية التي تهدد وحدة سوريا ومستقبلها، كانت هذه الفعالية رسالة واضحة موجَّهة إلى الحكومة السورية الانتقالية، وإلى القوى الإقليمية، وإلى العالم أجمع، حول ما يجب أن تكون عليه سوريا المنشودة.

ومن اللافت أن الحركات والأحزاب السياسية الكوردية لم تحضر بثقلها الحزبي التقليدي، بقدر ما حضرت مع المكونات السورية الأخرى في بعدها الوطني والاجتماعي والثقافي المتنوع، لتجعل من الكونفرانس منصة مفتوحة لكل أصوات سوريا وقد جسّد المجتمع الكوردي في هذا المشهد مدى عمق الوطنية المتجذّرة في ثقافته، تلك الوطنية التي تقوم على قبول الآخر، والاعتزاز بالتنوع، والإيمان بأن قوة الوطن تنبع من تعدديته لا من انغلاقه.

ورغم أنه عُرف باسم “كونفرانس” وليس “مؤتمرًا”، إلا أن مضمونه وأفقه السياسي تجاوزا بكثير سقف المؤتمرات السورية التقليدية؛ إذ احتضن طيفًا واسعًا من المكوّنات القومية والدينية والاجتماعية، مؤكّدًا أن سوريا المستقبل لن تُبنى على لون واحد، بل على تعددية حقيقية تضمن شراكة جميع أبنائها. لقد قدّم كونفرانس الحسكة نموذجًا حيًا لكيفية ترسيخ الوطنية على أرض الواقع، ليس كشعار يُرفع، بل كآلية حكم وممارسة سياسية، تستمد شرعيتها من التنوع، وتبني قوتها على مبدأ التمثيل المتساوي والاحترام المتبادل.

في المقابل، يعود بنا المشهد إلى ما جرى في العاصمة دمشق يوم 17 كانون الثاني/يناير 2025، حين عُقد ما سُمّي بـ “المؤتمر الوطني السوري” ظاهره الدعوة إلى وحدة السوريين، وباطنه تكريس اللون الواحد وفرض مركزية القرار في يد مكوّن ديني–قومي محدد، على حساب بقية المكوّنات، كان مؤتمر دمشق بداية فعلية لشرخ خطير في النسيج الوطني، إذ أفرز مخرجات دستورية وتشريعية مشوّهة، تمثّلت في صياغة دستور أسوأ من دساتير البعث والأسد، يوسّع صلاحيات الرئيس، ويقيم برلمانًا منزوع الصلة بالوطن السوري، ثم يفرض “حكومة انتقالية” لخمس سنوات، تحت سيطرة فعلية لقيادات هيئة تحرير الشام.

ومن رحم هذا النهج الإقصائي، انطلقت سلسلة من السياسات والممارسات التي حملت في طياتها بذور التفكك الوطني، مجازر في الساحل، واضطهاد غير معلن للمكوّن المسيحي توّجته مجزرة كنيسة مار إلياس، تلتها مجازر في السويداء ضد الموحدين الدروز، وتصعيد منهجي لخطاب الكراهية ضد الشعب الكوردي، بأقنعة سياسية ودعائية متعددة. كانت تلك المخرجات، عمليًا، تأسيسًا لسوريا أحادية اللون، تنكر حق التنوع، وتستبدل فكرة الوطن الواحد بمفهوم السلطة الواحدة.

تبرر حكومة الجولاني هذه الممارسات بادعاء أنها “حديثة العهد” في إدارة البلاد، وكأنها لم تحكم إدلب ومحيطها لأكثر من عقد من الزمن، وهي فترة زمنية كافية، لو كانت الوطنية هاجسها، لبناء نموذج حكم جامع، وصياغة دستور شامل، وإشراك جميع المكوّنات في إدارة الدولة وبنائها، لكن التجربة أثبتت أن إدارتها لم تكن سوى إعادة إنتاج لنهج الإقصاء، وإن بأدوات جديدة.

في المقابل، فإن تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي بدأت في الفترة نفسها تقريبًا، مثّلت نقيضًا لهذا النموذج الإقصائي، فهي، رغم ما تعرضت له من هجمات متكررة وحصار دائم، لا سيما من تركيا وبعض القوى الإقليمية المتربصة، حافظت على روح الثورة السورية الأولى، تلك التي رفعت شعار الحرية والكرامة، وأصرت على أن الوطن لا يمكن أن يُبنى إلا بالشراكة الفعلية بين جميع أبنائه. لقد قدّمت الإدارة الذاتية نموذجًا للحكم التشاركي، حيث تُصان الحقوق، وتُحترم الهويات، وتُبنى مؤسسات الدولة على قاعدة المساواة لا الهيمنة.

كونفرانس الحسكة لم يكن مجرد لقاء محلي، بل رسالة وطنية عميقة إلى الداخل السوري وإلى المجتمعين الإقليمي والدولي، مفادها أن مستقبل سوريا لن يكون آمنًا ومستقرًا إلا إذا تبنت مشروعًا جامعًا، مشروع النظام الفيدرالي اللامركزي، يقيها من الانقسام الذي تدفع نحوه حكومة الجولاني بسياساتها، ويمنع إعادة إنتاج الدولة بلون واحد. فالمنطقة الكوردية، أي منطقة الإدارة الذاتية، قدّمت للعالم برهانًا ملموسًا على أن سوريا يمكن أن تكون وطنًا للجميع، وأن الوطنية ليست خطابًا تجميليًا، بل ممارسة سياسية يومية.

لقد أثبتت تجارب الأمم أن الدول التي تبنى على لون واحد ومكوّن واحد، سرعان ما تتحول إلى كيانات هشة، تنهار أمام أول اختبار داخلي أو خارجي، فالوطن الذي لا يتسع للجميع، لا يحمي أحدًا، والدولة التي تُبنى على الإقصاء، تسقط في فخ التفكك قبل أن تكتمل أركانها، في المقابل، فإن التعددية الحقيقية، كما تجلّت في كونفرانس الحسكة، ليست مجرد خيار سياسي، بل ضمانة تاريخية لوحدة سوريا، وحصنها ضد الانهيار، إن الاختيار بين نموذج الحسكة ونموذج دمشق، ليس خيارًا بين أسلوبين في الحكم، بل هو، في جوهره، قرار بين بقاء سوريا كدولة وطنية بنظام فيدرالي لا مركزي، أو انحدارها إلى كانتونات طائفية وقومية متناحرة.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

8/8/2025م

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…