الفيدرالية واللامركزية السياسية في سوريا حدود لا تُمس

د. محمود عباس

رغم أنني أكتب دائمًا بنبرة متفائلة، إلا أن ذلك لم يكن يومًا ترفًا عاطفيًا، بل محاولة مقصودة لتعزيز ثقة الحراك الكوردي بذاته، حتى لا يتنازل عن مشروعه الأهم، النظام الفيدرالي اللامركزي. فبقاء الشارع الكوردي متماسكًا وواعيًا هو الحصن الأخير في وجه محاولات التمييع والتفكيك.

لكن، مع ذلك، هناك تخوّفات حقيقية من حجم الضغوطات الإقليمية على القوى الدولية الكبرى، والواقع أن لوبياتهم هنا في أمريكا تتحرك بطريقة مريبة، وأحيانًا غير مفهومة، وكأنهم ينسجون تحالفًا صامتًا هدفه الأساسي تعويم حكومة الجولاني، والتعتيم على ماضيه الإرهابي، ومن ثم إجهاض أي مشروع كوردي سياسي ناضج في سوريا، عن طريق رفض النظام اللامركزي.

ورغم هذه التحديات، ما زلت أرى أن سوريا تتجه، بخطى بطيئة لكنها ثابتة، نحو الفيدرالية، وربما نحو تغيير حقيقي في شكل النظام السياسي نفسه، ولهذا، من الضروري جدًا عدم التنازل عن المبدأ الفيدرالي اللامركزي، فهو ليس مجرد صيغة إدارية، بل ضمانة لعدالة التمثيل وحقوق الشعوب، وشرط لاستمرار الدعم الدولي لقضيتنا.

وأعتقد أن بعض الدول الإقليمية، وبشكل خاص تركيا وقطر، ومن المثير فعلاً وجود السعودية بينها، تضغط اليوم على الولايات المتحدة للتخلي عن “قسد”، ولكن الغاية الحقيقية ليست قسد كتنظيم، بل القضية الكوردية برمّتها، فبعد تغييب قسد، سيُعلنون للعالم، بمنتهى الوقاحة، أنهم “حلّوا” القضية الكوردية من خلال افتتاح بعض المدارس في القامشلي والحسكة!

مع ذلك، ما زلت أؤمن أن قسد ستبقى، وأن المنطقة ستتجه نحو الفيدرالية، حتى لو جاءت بتسمية مختلفة، لأن ما تم إنجازه على الأرض أقوى من أن يُلغى بضغوط أو اتفاقيات ظرفية، صعد هذا التوجه بعدما عادت روسيا إلى الساحة بزيارة غير متوقعة لوزير خارجية الحكومة السورية الانتقالية الى موسكو بتخطيط تركي، وصمت أمريكي ورضا إسرائيلي.

لذلك، من الأهمية بمكان أن تُدرك الأطراف الكوردية في غربي كوردستان، وخاصة تلك التي شاركت في مؤتمر قامشلو، ضرورة الاستعداد الجاد والمنسّق لكل الحوارات القادمة مع الحكومة السورية الانتقالية، فغياب المجلس الوطني الكوردي عن الواجهة، نعاتب عليه طرفين، قوى الإدارة الذاتية التي سعت لاحتلال كامل الساحة السياسية دون شراكة، والمجلس الوطني ذاته الذي اختار الصمت، وهي دلالة قد تُفهم على أنها قبول غير معلن، سواء لأسباب داخلية، أو ربما تحت إملاءات خارجية، في إطار مساومات تُدار داخل القاعات المغلقة.

هذا التراجع، أياً كانت أسبابه، لن يمر دون أثر، بل ستكون له تبعات ثقيلة على سمعة المجلس السياسية، وعلى ثقة الشارع الكوردي به، وهو ما سيُترجم لاحقًا إلى تآكلٍ في الدور والتأثير، وربما تراجع في مستوى الدعم الدولي للقضية الكوردية برمّتها، خاصة إذا فُهم ذلك الغياب كموافقة ضمنية على شطب المطالب القومية أو القبول بخيارات لا تخدم المشروع الفيدرالي.

وأستبعد صحة ما يُروّج من أن المجلس يساوم بالصمت مع الحكومة السورية الانتقالية، على غرار ما فعلته مع تركيا سابقًا عندما كان ضمن الائتلاف السوري، لكن الخطر الحقيقي اليوم يكمن في أن يُقدّم المجلس على مقايضة صامتة، تفتح الباب أمام ضم قوات قسد إلى ما يسمى “الجيش الوطني السوري”، مقابل دور تفاوضي لاحق حول الحقوق الكوردية.

هذا السيناريو لن يُنتج إلا مزيدًا من الانهيار، إذ أن أي عودة للمجلس عبر هذه البوابة، ستُقابل بآذان صمّاء من قادة هيئة تحرير الشام، الذين لا يرون في الكورد سوى ملفًا ثانويًا يجب إغلاقه تحت لافتات “الوطن الواحد” و”الأمة الإسلامية”، تمامًا كما فعل الخميني حين قضى على الحركة الكوردية في شرق كوردستان تحت الشعارات ذاتها.

وبالتالي، فإن أي مساومة على قسد خاصة من قبل قيادتها أو قوى الإدارة الذاتية، أو على المشروع الفيدرالي من قبل المجلس الوطني الكوردي أو الهيئة المنبثقة من كونفرانس قامشلو، أو ممثلية الإدارة الذاتية، تعني تفكيك آخر حصن سياسي وعسكري للكورد، وتُمهّد لتكرار خيبات تاريخية لطالما دفع شعبنا ثمنها باهظًا.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

1/8/2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…